كنوز| المقامة الفونوغرافية

بيرم التونسى
بيرم التونسى

بقلم: بيرم التونسى

قال بَعْجرُ بن قحطان «جمعتنى حديقةُ الأسماك بشاب من أبناء ذوى الأملاك، يلوحُ على وجهه الخير ويدرس فى مدرسة يقال لها الفُريْر، وبالرغم من طربوشه وعمتى، وبدلتهُ وجبتى، فقد تعاهدنا على المزاملة ودوام المُقابلةُ، ليعلمنى الفرنسية وأعلمهُ العربية، وقد انتقل الدرس من الحديقة إلى منزلهم فى الجزيرة، حيث يوجد أمام السلاملك جناحْ تخفقُ فيه الرياح، وفيه حجرتان مفروشتان وأخريان فارغتان ولا ينام فيه أى إنسان،عدا مسكن البواب والطباخ ومكان الأرانب والفراخ، وفى كل مرة أدخل فيها عند هؤلاء القوم أشم روائع التقلية والثوم، والطواجن تفوح والخدم بالآنية تغدو وتروح، وأسمع الضحكات تتعالى والفنوغراف شغالا.

وقد كان هذا الجناح حَدّنا، ونجلس فيه وحدنا، ولا يأتى أحدُ عندنا، وبعد الفراغ من الدرس، يدخل هو السلاملك، وأذهب أنا إلى حالى وما أملك، حيث أسكن درب المقشات، والمسافة كيلومترات، وكنت أقول ُلا بأس، فالناس خُلقت للناس، وفى ذات يوم، أرسل لى عمى من الفيوم قفصاً من تين البرشوم، وزنه ثلاثون أُوقَيّة، ولا يُقدِّر غير العارفين حقَّه.

هذا القفص يأتى كل عام فى هذا الميعاد، وينتظره الكثيرون من إخوانى الأمجاد، مثل سكرتير الأزهر، وابن الشيخ الأصغر، والكل يقول: أين التين يا بعجر ؟ ولكنى حملت القفص إلى دار هذا الصاحب، لأقوم نحوه ببعض الواجب، ووالله ما ذقت منه تينة واحدة، ووالله ما رأيت مثله على مائدة، وكان الوقت عندئذ وقت غداء، والشمس تُذيب الصخرة الصماء، فأخذه منى البواب وأغلق فى وجهى الباب.

فقلتُ لعلِّى جئتهم على غير ميعاد، وبدون استعداد، ورجعت وأنا أقول، لقد حازَ هذا التين القبول « يا تين بعجر قد ظفرت بلثم هاتيك الشفاها، وضُممتَ بين أناملٍ ألماس مشتعلا ًحٌلاها، ياتين بعجر كن على الأفواه أحلى من لماها، وبعدها اجتمعنا للمذاكرة كعادتنا صامتين، ولم نذكر قفص التين ».

وفى يوم آخر، جاءنى من قريب فى المنزلة، طرد فسيخ لا مثيل له، فقلت « والله لا يأكله سواهم فمثل هذه الأطايب لا تصلح لمن عداهم، وماذا يُفيدنى من السكرتير الذى يأخذ نصفه، ويفتح به نفس زوجته ونفسه، هؤلاء أوجب حقاً، وخير وأبقى، وليعلموا أن نجلهم يصاحب ابن ناس مثلهم، وأعطيت الطرد للبواب فأخذه أيضًا وأغلق الباب وغاب ».

وعُدنا للدرس كالعادة صامتين وسكتنا على الفسيخ كما سكتنا على التين، فمن عادة الارستقراطية ألا تذكر الهدية، وبعد شهر جاءنى خطاب من العينية، يُنبئ برجوع أخى من الجهادية، ويقول إنه فى اشتياق، ينتظر اللقاء والعناق، هذا أخى الذى لم أرهُ منذ عامين وهو منى بمنزلة العين، ولهذا أعددت للسفر العدة وأخبرت صاحبى قبل السفر بمدة، وقصصتُ عليه المسألة وأحوال العائلة.

وأن أخى جاء من السودان إلى الأرياف، أى من جفاف إلى جفاف، وطلبتُ منه أن يُعيرنى الفونوغراف، لأخفف به كربه وما عناه من الغربة، فنظر إليّ بحذر وقال « ستأخذه يوم السفر»، ويوم السفر اشتريت أقتين من التفاح ودستتين من الجوارب والمناديل الملاح، ولفة قمر الدين وقطعة من الصوف الثمين، وعُدة حلاقةٍ ألمانية وعصا يابانية، وحملتُ الجميع فى الشنطة وذهبت إلى بيتهم لآخذ الفنوغراف وأنطلق إلى المحطة، فخرجت لى خادمة تنظر لى باستخفاف وفتور وهى تقول « يقولون إن الفنوغراف مكسور»، قلت « أين سيدك أيتها الخادمة» فقالت « نائم».

فوقفت أمام السلاملك وأنا فى ذهول « فنوغرافكم أو بيتكم أو جراجكم، وما يرتجى منكم حقير مُذَمّمُ، لقد حسبوكم - غالطين - ذواتها، وأنتم من السُفلى أخس وألأمُ، ووالله إن الجلف فى كِسر كوخه، لأكرم منكم ألف ضعفٍ وأعظمُ، وما مثلكم - أهل الدناءة- من يُرى، على بابهم شهم كريم مُعممُ، أنتم قوم بالتأنيب أحرى، ومعرفتكم هى الأولى والأخرى.

من كتاب «المقامات»