إنها مصر

فرسان الأقلام النظيفة

كرم جبر
كرم جبر

فى زمن الصحافة الجميل كان الاحترام هو اللغة التى يكتب بها الصحفيون مقالاتهم، يتحاورون ويتعاركون، ويدشنون ثقافة "الاختلاف" و"الاحترام"، تلك الكلمة الرائعة التى تختفى أحياناً من القاموس السياسى والصحفى، ويتم استبدالها بـ "الإهانة" والتطاول والتخوين.

كان الرائعان موسى صبرى وصلاح حافظ يتشاجران بعنف وشراسة على صفحات "أخبار اليوم" و"روزاليوسف"، وفى نهاية اليوم تجمعهما كافتيريا واحدة يتناولان فيها معًا طعام العشاء.

ودخل فارس القلم النظيف إحسان عبدالقدوس فى معارك صحفية شريفة، وتعرض للعقاب والمساءلة وذهب إلى غرف التحقيقات عشرات المرات، وفى كل مرة كان من يتسبب فى حبسه يعتذر له، ويبدى أقصى درجات الندم، سُجن لأول مرة وعمره 26 سنة، عندما كتب مقالاً بعنوان «هذا الرجل يجب أن يرحل»، قاصدًا المندوب السامى البريطانى اللورد كيلرن، ثم اعتذر له من أمر بسجنه رئيس الوزراء فى ذلك الوقت محمود فهمى النقراشى، هو أيضًا بطل قضية الأسلحة الفاسدة سنة 1948 التى أدت إلى هزيمة الجيش المصرى فى حرب سنة 48، وكانت البداية الحقيقية لقيام ثورة يوليو 1952.

ولم يدم شهر العسل بين إحسان والثورة طويلاً، وسنة 1954 كتب مقالاً بعنوان "الجمعية السرية التى تحكم مصر"، واتسم بجرأة الكاتب وشجاعته ولغته الراقية البعيدة عن الشتائم والتطاول والإساءة، رغم أنه اتهم أعضاء مجلس قيادة الثورة بأنهم يعملون كجمعية سرية، لأنهم أدمنوا العمل السرى، ويصدرون القرارات كما يصدرون المنشورات.

كان صديقاً مقرباً للرئيس جمال عبد الناصر، وكان الرئيس يرتاح فى الحديث معه أثناء ذهابه إلى روزاليوسف، ولكن بعد القبض عليه وإيداعه السجن الحربى، أمر عبدالناصر بالإفراج عنه، ودعاه إلى الإفطار، فقال له إحسان كنت أناديك بـ "جيمى" والآن لن أقول إلا سيادة الرئيس، انتهت صداقتنا.

وكان موقفه إنسانياً أمام الرئيس السادات بعد القبض على ابنه محمد فى أحداث 5 سبتمبر 1981، وعندما سأله السادات رأيه.

قال: مصر فيها قضاء حر ونزيه، ورفض أن يتحدث معه بشأن ابنه، وسبق للسادات أن عزله من منصبه فى الأهرام بعد مقاله النارى "تساؤلات حول خطاب السادات".

أين نحن من هذا الزمن الجميل، فى زمن سوشيال ميديا الذي يسيطر على كثير منه محترفى هتك الأعراض، وانتهاك المبادئ والقيم والمبادئ، والسب والقذف والشتائم واتهام الأبرياء دون سند أو دليل.

الزمن لن يجود بإحسان ولا موسى صبرى وأحمد بهاء الدين وصلاح حافظ وفتحى غانم وعبد الرحمن الشرقاوى، وغيرهم من العمالقة الذين رفعوا سمعتها عالية فى السماء، والأمل الوحيد أن ينهض جيل جديد، ليحمل فوق كتفيه العبء الثقيل، ويزيح من طريقه ممارسات وبقايا الفكر الردىء.