خاطر عبادة يكتب: المشهد العظيم.. واليوم الأعظم 

خاطر عبادة
خاطر عبادة

نعيش أجمل وأقدس اللحظات خصوصية فى كل عام.. لحظات تتدفق فيها الأشواق بغزارة وانسيابية والحنين والهجرة إلى الله عز وجل.. والقلب يذوب ويتحرك إلى أرض الحجاز شوقا مع كل صوت من أصوات التلبية والتكبيرات ونفرة الحجيج لبيت الله.. والشوق يزيد مشهد تدفق الحجيج نحو المشاعر المقدسة عظيم.. يجعل قلوبنا تشتاق ونطوف بأرواحنا حول الكعبة مثل الطيور .

فى هذا العام سافر مليون حاج أو يزيد، لكن أفئدة ملايين المسلمين رحلت معهم؛ كأنما سافرنا فقط بقلوبنا إلى هناك مع الحجيج.. وأجسادنا هنا تظل رهينة اشتياق وتعلقت الأبصار باسدال الكعبة والبيت الحرام

جزء من كياننا وأصلنا فى هذا المكان الخالد؛ مهبط الوحى والرسالات وفيه أول بيت وضع للناس.. من هنا بدأت الرسالة بكلمات خالدة من القرآن العظيم على قلب النبى الأمى الكريم (اقرأ بإسم ربك الذى خلق) وتجلت الأنوار الإلهية ومفاتح العلم والأسرار .. هناك يتجدد اللقاء والعلاقة

وإنما القرب هو قرب الروح والوجدان لكن فى هذه الحالة لن يكتفى الناس بشرف المحاولة، فلنا هناك حبيب.. والله قريب وكريم ودود رحيم ومحب لعباده وحليم.. ينتظرنا فى كل وقت ويغفر ويسامح عباده دون عتاب أو لوم

ما من أيام أعظم عند الله من هذه الأيام المباركة التى يتوجب علينا أن نعيش فيها بكل جوارحنا وإحساسنا فى طاعة الله.. واستجابة لنداء الخالق لعباده المؤمنين الذين كرمهم وزكاهم وقربهم لعبادته وشرفهم بالانتساب لخير أمة.. و ياله من تكريم.. 

ياله من تكريم حين ينادى الله تعالى عباده فى القرآن الكريم ويذكرهم بنعمه العظيمة عليهم ويخاطبهم بصفة التكريم بعد أن أنشأهم من عدم ونفخ فيهم من روحه وميزهم وكرمهم واصطفاهم على سائر المخلوقات فى العقل والشكل وجعل لآدم الخلافة فى ملك الله فى الأرض ثم ينجى عباده المؤمنين من الجهل والظلام ورجس المشركين ويحفظ لهم الدين.. ثم يرزقهم الجنة بفضله.. فليس العجب فى أنك تحب الخالق وأنت تعيش فى نعمه وفضله وتميل لفطرته التى فطر الناس عليها وتحب شريعته ونهجه وتلتزم بأصوله التى هى أصل الخير والحب والسلام و السماحة.. لكن العجيب فى أن الله بعظمته يحبك.. و أى حب وتكريم هذا وسر عجيب !

وجمال وعظمة هذه الأيام لا يقتصر فقط على من قصد حج بيت الله الحرام؛ وهاجر بروحه وجسده وكيانه نحو هذا المكان الذى نزل فيه الوحى والقرآن على النبى الخاتم.. ليصبح هنا السر الخالد؛ وياله من شعور عظيم للمسلم حين يقف فى نفس المكان الخالد ومهد الرسالة التى أخرجت الناس من الظلمات إلى النور وجددت الروح واخضر وجه الكون والطبيعة وأعادت للإنسان إنسانيته ومجده وكرامته..

فالله سبحانه يدعونا جميعا أن نعظّم من أمر تلك الأيام؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن العمل الصالح فيها خير من الجهاد فى سبيل الله.. إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء.. كما يحثنا أيضا على كثرة الذكر والتكبير فيها ليكون أجرها أعظم من الصدقة والإنفاق فى سبيل الله من أموال كثيرة.
فرصة جديدة للعودة وإزالة الصدأ عن الروح وإزالة الكآبة عن وجه الحياة التى تراكمت عليها من الذنوب..
يالها من أيام.. وشعور عظيم حين ينسجم ابن آدم مع صوت الطبيعة والكائنات التى تسبح الله جميعا.. ليذكروا الله ويكبّروه فى حب وخضوع و إنابة فى صوت واحد..ويا لجمال مشهد الحجيج وهم يتجمعون على صعيد واحد وعلى قلب رجل واحد وزى ملائكى موحد، ثوب الخشوع والطهر والنقاء.. فى أكبر مظاهرة حب لخالقهم العظيم وتمتزج دموع السعادة والإنابة لتنساب بغزارة فتغسل معها صدأ الروح وتجدد العلاقة، ويرجعوا بقلوب بيضاء مغفورا لهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.

الله أكبر كبيرا .. ويستحب التكبير لكل مسلم مع بدء أيام العشر من ذى الحجة، وتكبيرات العيد فى المساجد مع مغرب يوم عرفة حتى عصر رابع أيام العيد.. لا صوت يعلو فوق صوت التكبير.. وفرحة المسلمين على ما أتاهم الله من فضله ونعمة الدين.. الله أكبر من كل شيء.. الله أكبر من أى لهو وضجيج فى هذه الحياة الدنيا الفانية.. الله أعظم من أى عمل لا يقرب إلى الله


والدين هو النجاة، هو القيم ومبادئ الناس ودستورهم.. هو الخير و الرحمة التى ارتضاها الله لعباده المؤمنين بعد تزكيتهم وتطهيرهم واختيارهم لعبادته وإنقاذهم من جهالة وضلال الأولين.. بل والفضل الكبير هو نصر الإسلام وحفظه ليكون منهجه فى صدور المؤمنين و شتى بلاد المسلمين وغيرها إلى يوم الدين، فلا معنى لحياتهم بدون الدين..

ونستلهم من شعائر الحج رسائل عديدة و معانى عظيمة فى الدين وثوابت فى العقيدة و الحياة من وحى قصة أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته السيدة هاجر عليها السلام، من صبر على البلاء وامتثال للطاعة وحسن ظن بالله وثقة فى فرجه ونصره فى أشد الأوقات.. والصبر  ليس فقط عقيدة بل استراتيجية للنجاح فى الحياة

وفديناه بذبح عظيم.. وكذلك فإن الله تعالى يبعث إلينا برسائل عديدة فى كل وقت لتنجينا من شرور الفتن والمعاصى بجانب الفائدة العظيمة للنحر والصدقات فى دفع البلاء.. فالمال اختبار كبير لمدى صدق الناس وإخلاصهم ورحمتهم بغيرهم من المحتاجين؛ وليس فقط التظاهر بالحب.. وإنما بالتكافل والتراحم والتآخى. كما أن عدم الانسياق وراء وساوس الشيطان والناس.. سبيل للنجاة من الفتن والشرور والفشل وسوء المصير.

ويوم عرفة هو خير الأيام.. اختص الله هذا اليوم بأفضل مكانة وإجابة للدعاء ويتنزل فيه سبحانه وتعالى برحمته إلى السماء الدنيا، فلا نحرم أنفسنا لذة القرب ومناجاة الله فالدعاء والتقرب إلى الله بإخلاص وحب ومناجاة هو العبادة.

 والحج هو من أعظم العبادات وركن من أركان الإسلام، لما يشتمل على أعظم رحلة وأعظم مكان، هو رحلة إلى الله فى مكان وزمان محددين طالما اشتاق الإنسان لإعادة اكتشاف ذاته وتوجيه بوصلة حياته من جديد نحو القبلة، وفى استقبال القبلة والنور الإلهى طاقة حياة.. فى رحلة الشوق سعادة لا توصف قد طال انتظارها للوقوف بين يدى الرحمن، تلمس أرواحهم فيها عنان السماء

 وعلى صعيد عرفات ليس بينك وبين الله حجاب، وأنت تعلم يقينا أن وقوفك فى هذا المكان أكبر من كونه متعة وفرحة عظيمة لا تقدّر بأى مال اكتسبته، بل تكمن قيمته فى يقينك بأن وقوفك هناك فى عرفات ليس صدفة بل سر خالد مع الخالق وأن هذا التكريم يشمل كل مسلم أيضاً سواء استطاع الحج أم لا، فالحمد لله على نعمة الإسلام.. ولم يقتصر فضل وكرم الله على أنبيائه ورسله فقط بل شمل الكل حتى العاصى التائب.. تعلم عظمة هذا الموقف عند هذا الجبل الطاهر كُلّ خاشع خاضع، وتأمل هذه الأية الكريمة "(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).. حتى الجماد وكل مخلوقات الله تتأثر وتخشع و تخرّ لآيات الله وتسبح خالقها العظيم.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. وإن من الأولى للقلب المؤمن أن يسبح ويقرأ القرآن فى خشوع وخضوع وتودد وتدبر و مناجاة 

 فى عرفات فاض الجبل بالأسرار العظيمة لتعلم يقينا أنّ الله بعظمته يحبك وأن باقى الدنيا وزينتها وحطامها لا تساوى شيئًا أمام أعظم حب باقى ودائم للحى القيوم.. هناك أكبر من كونه تجمع دينى حضارى ومظهر من مظاهر السعادة والاحتفال.. أو مشهد مصغر من زحام يوم الحشر حين تجتمع كل الخلائق باختلاف ألوانهم ليس بينهم وبين الله حجاب.. هناك تكتشف سر من أسرار خلق السموات والأرض التى سخرها الله للإنسان لتكون مسؤولية وتكريم.

كل عام ومصر والأمة الإسلامية بخير وسلام