تزايد خسائر جاو تشانغبينغ أغنى رجل في العملات المشفرة إلى 85 مليار دولار

جاو تشانغبينغ
جاو تشانغبينغ

أخبرت "بينانس" العملاء الذين استخدموا خدماتها للشراء والبيع والاستثمار في العديد من العملات المشفرة أن هذه العملة المستقرة بالتحديد تقدم شيئاً مميزاً: ألا وهو الوعد بعائدات سنوية تصل حتى 20%.

وذكرت بورصة "بينانس" للعملاء أن "تيرا دولار" يمكن أن تكون بطريقة ما "آمنة" و"عالية العائد".

لكن كما يعلم عشاق العملات المشفرة جيداً، وكما يمكن لأي شخص معتاد على قواعد التمويل أن يخمن، تبيّن أن "تيرا" ليست آمنة ولا تحمل عائد مرتفع.

ويقول النقاد إن العملة بيعت على طريقة مخطط "بونزي" الاحتيالي، ومثلّت بداية الانهيار الذي أدى إلى انخفاض أسعار "بتكوين" وتسببت في قيام الشركات في جميع أنحاء الصناعة بتسريح الموظفين بسرعة وتجميد عمليات السحب من قبل العملاء.

حيث انخفضت "بتكوين" بنسبة 70% تقريباً عن ذروتها في نوفمبر، وأطلقت الصناعة على ذاك الهبوط لقب "شتاء العملات المشفرة".

كشف الرئيس التنفيذي جاو تشانغبينغ عن حجم خسائر "بينانس" المتعلقة بـ"تيرا" فى 16مايو .

وكانت حصة الشركة تبلغ 1.6 مليار دولار منها لكنها الآن تقترب من الصفر.

جاو هو رجل نحيف وحليق الرأس ذو صوت ناعم ولديه خزانة ملابس يبدو أنها تتكون حصرياً من قمصان سوداء تحمل شعار "بينانس".

كذلك يبدو أنه أيضاً رجلاً بعدة أوجه، فبحسب الشخص الذي تتحدثّ معه، يكون جاو إما رائداً في نظام ثوري ستحل فيه مجموعة من عمالقة العملات الرقمية - بما في ذلك "بينانس" والمنافسون لها مثل منصة "إف تي إكس" (FTX) - ليس فقط محل البورصات العالمية ولكن أيضاً محل النظام المالي العالمي بأكمله، أو في حوار آخر يمكنه أن يكون مدير أكبر كازينو غير مرخص في العالم.

في يناير الماضي، كان جاو الذي يطلق عليه "سي زي" أو "خبير الكريبتو" - أحد أغنى 10 أشخاص في العالم، على الأقل على الورق.

لكن ثروته الصافية تراجعت مع تراجع سعر "بتكوين"، حيث انخفضت من 96 مليار دولار إلى 11 مليار دولار، وفقاً لـ"مؤشر بلومبرغ للمليارديرات".

مع ذلك، لا تزال "بينانس" أكبر شركة في مجال التشفير، حيث تقوم بمعاملات أكثر من البورصات الأربعة التي تليها مجتمعة.

يتم تداول أكثر من 50 مليار دولار على المنصة يومياً، وهي تتقاضى بشكل عام رسوماً تبلغ 0.1%. ومن الناحية العملية، هذا يعني أن جاو - الذي يعد إلى حد بعيد أكبر مساهم في الشركة - يجني الأموال من عملائه سواء كانوا يشترون أو يبيعون.

قال جاو مشيراً إلى انهيار "تيرا": "في الواقع، ما أدهشني هو قدرتها على الصمود، لم توجد عمليات إنقاذ، ولا بنك مركزي أو حكومة تتدخل".

كان انهيار السوق مستمراً، لكن بالنسبة لجاو لم يكن هناك الكثير مما يستحق المشاهدة، حيث قال إن الصناعة لا تزال مستمرة.

مقر جديد

انتقل جاو إلى دبي في أواخر العام الماضي. إذ إن تلك المدينة الصحراوية المستقبلية كانت المكان المناسب لشخص بدا وكأنه لا ينتمي لأي دولة. حيث تفوق أعداد المغتربين، أعداد السكان المحليين بنسبة 9 إلى 1، ويمارس السائحون التزلج على الثلج في الداخل بينما تكون درجة الحرارة تصل بالمدينة لحد 43 درجة مئوية، ومنذ زمن طويل غاب أي إحساس بالمكان بها محجوباً بالثروة الهائلة التي يولّدها جيرانها من أغنياء النفط . فجاو، هو مواطن كندي ولد في الصين، وهاجر إلى فانكوفر في سن الثانية عشرة وتخرج بدرجة علمية في علوم الكمبيوتر من "جامعة مكغيل" في مونتريال، وطوال حياته البالغة تنقّل في أنحاء العالم، ونادراً ما بقي في أي مكان لأكثر من بضع سنوات.

حياة من التنقّل

في أوائل العشرينيات من عمره، صمم برنامجاً إلكترونياً لـ"بورصة طوكيو".

ثم نفذ مهمة في نيويورك لدى شركة "بلومبرغ" (التي تنشر بلومبرغ بزنس ويك). بعدها انتقل إلى شنغهاي، حيث شارك في تأسيس شركة طورت برامج للمتداولين المتكررين، قبل إطلاقه "بينانس" في عام 2017. لكن الحكومة الصينية حظرت عمليات تبادل العملات المشفرة في العام نفسه، لينطلق في البحث عن ولاية لن تحاول طرد شركته أو تغريمه لبيع أوراق مالية غير مسجلة. يقول جاو: "كنت أعيش بحقيبتين في الواقع، حقيبة سفر كبيرة وحقيبة صغيرة".

وفي دبي، شعر أخيراً أنه في مكانه. حيث اشترى شقة، وحصل على سيارة "ميني فان" صغيرة، ونقل ممتلكاته، واستأجر مكتباً كجزءاً من مرحلة جديدة لـ"بينانس"، وصفها بأنها "بشكل رئيسي هي مرحلة التصرف كشخص راشد". وأشار إلى أنه في سن الخامسة والأربعين، كان يكبر معظم رواد أعمال قطاع التشفير بعشر سنوات على الأقل. وتفاخر بعلاقته الوثيقة مع الحكومة الإماراتية. وقال إن العملات المشفرة كانت استثماراً صحيحاً بسكل أكبر بكثير مما يدركه نقادّها، وذكر أن "بينانس" ستكون هي الشركة التي ستثبت ذلك، قائلاً: "لدينا 120 مليون مستخدم يثقون بنا فيما يتعلق بمدخرات حياتهم. نحمي مستخدمينا ونتواصل مع الحكومات والمنظمين. فكما تعلم، نحن نمثّل الجهة المستقرة".

ملاحقات قضائية أم مفاوضات؟

كان ذلك ادعاءً جريئاً. فلطالما كانت عمليات غسيل الأموال والاحتيال والقرصنة جزءاً من تاريخ هذه الصناعة، وحتى أكثر مشاريع التشفير احتراماً يمكن أن تبدو - بالنسبة لأي مطلع - بعيدة تماماً عن الكمال. لكن في "بينانس"، حتى التفاصيل المسيئة تتمتع بدرجة من الإيجابية.

تُعد الشركة حالياً هدفاً للتحقيقات من قبل كل منظم مالي أميركي رئيسي تقريباً - وزارة العدل، وهيئة تداول السلع الآجلة، ودائرة الإيرادات الداخلية، وهيئة الأوراق المالية والبورصات - وغيرها في جميع أنحاء العالم. تصور "بينانس" هذه التحقيقات على أنها لا تعدو جزءاً من مفاوضات تجريها بحسن نية مع الحكومات، التي - من وجهة نظر المنصة - لا تعرف كيف تتصرف مع العملات المشفرة. لكن ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان المنظمون يرون الأمر بهذه الطريقة.

تاريخ المنصة

يتم سرد تاريخ المنصة في هذا التقرير استناداً إلى وثائق المحكمة، وإيداعات الشركة، ومقابلات أجريت مع أكثر من 40 موظفاً حالياً وسابقاً وشركاء تجاريين. والتي تبين من خلالها أن منصة "بينانس" نمت من خلال تقديم رهانات غير منظمّة على عملات رقمية أصغر، يُطلق على بعضها اسم "شيت كوينز" (shitcoins). (أشهر هذه العملات "دوج كوين" التي بدأت على أنها مزحة وتبلغ قيمتها السوقية الآن 8 مليارات دولار).

وانطلاقاً من ذلك، توسعت "بينانس" لتشمل المنتجات المالية عالية الاستدانة المرتبطة بقيمة تلك العملات.

تعتبر هذه المشتقات غير قانونية في العديد من المناطق، لكن هذا لم يؤثر على "بينانس"، لأنها لم تتخذ من أي سلطة قضائية مقراً لها.

لسنوات، حذّر النقاد من الثغرات المحتملة التي يمكن أن تتيح للمجرمين وممارسي جرائم غسيل الأموال إمكانية نقل الأموال من خلال البورصة. وفي يونيو، ذكرت وكالة "رويترز" أنه تم استخدام "بينانس" لغسل ما لا يقل عن 2.35 مليار دولار، بما في ذلك أموال من أسواق المخدرات على شبكة الإنترنت المظلمة، ومجموعات قراصنة من كوريا الشمالية، ومحتالين من ذوي الدرجات الأقل أهمية.

بداية عقلانية

بينما تقول "بينانس" إن هذه الادعاءات مضللة، مشيرة إلى فريق أمن وتحقيقات مكون من 120 شخصاً يضم مسؤولين قانونين سابقين كبار من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا. وبالنسبة لجاو، فإن "بينانس" كانت تعمل فقط كبورصة خارج الحدود -أشبه ببنك حديث في جزر كايمان مثلاً، أو بشكل أقل إرضاءً لجاو، ما يعرف بجمهورية القراصنة، تلك الحكومة الزائفة الخارجة عن القانون التي كانت تسيطر على التجارة في جزر الهند الغربية في أوائل القرن الثامن عشر. وفي كلتا الحالتين يقول جاو – الذي يفضل تشبيه جزر كايمان - إن تلك الأيام قد ولت. ويضيف، مشيراً إلى أسئلة من المنظمين: "مكتب، ومقر، والشركة الأم، أخبرناهم منذ البداية أننا لا نمتلك تلك الأشياء، وبالطبع أغضبهم الأمر جميعاً، لذا، خلال العام الماضي، قمنا بإعداد كل ذلك".

في سعيه للحصول على تسوية بعد سنوات من دفع الحدود القانونية، يتبع جاو مساراً شائعاً بين التكنولوجيين ممن يخلّون بالأنظمة، بما في ذلك "إير بي إن بي"، و"أوبر"، و"باي بال"، جميعهم تجاهلوا مطالب الحكومات لأطول فترة ممكنة. بعد ذلك، عندما تصبح الشركة كبيرة بما يكفي، تعمل مع الحكومات للإبقاء على الحصة في السوق. لكن تبادلات العملات الرقمية متشابكة الآن مع الكثير من التمويل العالمي، وأشار المنظمون بالفعل إلى رغبتهم في تقديم مثال من خلال منصة جاو لما يعتبرونه أسوء الجهات الفاعلة، وهو أمر سيؤدي إلى مواجهة ذات أبعاد ملحمية محتملة.

وعندما ينتهي الأمر، قد ينتهي المطاف إما بوضع جاو تحت لائحة اتهام جنائية، أو يمكن أن يصبح أغنى رجل في العالم.

كيان غير واضح المعالم

لطالما قدمت "بينانس" نفسها كشركة لامركزية – هذا إذا كانت "الشركة" هي المصطلح الصحيح لما يبنيه جاو. من الناحية القانونية، تمتلك الشركة المسجلة في جزر كايمان المسماة "بينانس هولدينغز" علاماتها التجارية (مثل الشعار الذي وشمه جاو على ساعده الأيمن). ولم يتم الكشف عن ملكية هذا الكيان حتى الآن. لكن جاو هو المالك الوحيد لشركة "بينانس كابيتال مانجمنت"، المسجلة في جزر فيرجن البريطانية، التي اشترت موقع بيانات التشفير "كوين ماركت كاب" (CoinMarketCap) مقابل 400 مليون دولار، ووفرت 200 مليون دولار مقابل حصة في شركة، خططت لطرح "فوربس" للاكتتاب العام.

ووفقاً لإيداعات الشركات، فإن العديد من عمليات "بينانس"، مثل تلك الموجودة في مالطا وسنغافورة وأيرلندا وفرنسا وإيطاليا، مملوكة بالكامل لجاو، إما بشكل مباشر أو من خلال كيان يسيطر عليه. وتمر معظم التداولات على "بينانس" من خلال البورصة الرئيسية "بينانس.كوم"، التي لا يعرف أحد من يمتلكها أو أين مقرها.

وقال جاو في مقابلات مع وسائل الإعلام الصينية إنه يستخدم مصطلح "شركة" فقط من أجل الغرباء. بقدر ما هو معني، فإن "بينانس" هي "منظمة" وموظفوها هم "أعضاء الفريق". مهما كان الأمر، لا يبدو أنه لدى "بينانس" هيكل مساهم تقليدي أو مجلس إدارة. يقول جاو - تماشياً مع أيديولوجية الكريبتو - إنه معجب بالحركات التي ليس فيها قيادة والتي تتحد حول المنطق غير القابل للتغيير في "بلوكتشين". ولكن عندما يتعلق الأمر بـ"بينانس"، يقول الموظفون والمستثمرون السابقون، إن جاو وحده هو من يتحكم بها. "في نهاية المطاف، هو الشركة القابضة"، كما يقول مسؤول تنفيذي سابق، طلب، مثل الآخرين المقتبسين في هذا المقال، عدم الكشف عن هويته لتجنب إغضاب جاو.

شروط التداول

بالنسبة لمعظم المستثمرين في "بينانس"، لا شيء من هذا يهم. فحصتهم في بورصة جاو لا تأتي من أسهم فيها - إذ يبدو أن "بينانس" لا يكاد يكون لديها أي مساهمين خارجيين - ولكن من خلال عملتها المشفرة المعروفة باسم "بي إن بي" (BNB). اليوم، يتم تداول تلك العملة المشفرة مقابل 220 دولاراً للواحدة، بقيمة سوقية إجمالية ضمنية تبلغ حوالي 36 مليار دولار، لكن "بينانس" باعت تلك العملات المشفرة لأول مرة مقابل 15 دولاراً لكل منها في عام 2017 كجزء من "عرض الشراء الأولي للعملات" (ICO) - وهو إصدار عملات مشفرة غير منظم يماثل الطرح العام الأولي. وأعلنت نشرة المستثمرين لشركة "بينانس قائلة عنها: "بلوكتشين لا حدود لها".

وخلال الأيام الأولى للشركة، كان على أي شخص يرغب في التداول على "بينانس" أن يحوز "بتكوين" أولاً، على عكس البورصات الخاضعة للتنظيم مثل "كوين بيس".

ويمكن للمتداول تحويل الأموال من حساب مصرفي إلى بورصة منظمة قبل إرسالها إلى "بينانس"، أو يمكنه الخروج من النظام المصرفي، على سبيل المثال، عن طريق بيع شيء ما (سيارة مستعملة، مواد أفيونية) لقاء "بتكوين" أو عن طريق شراء عملة مشفرة من زميل متحمس والدفع نقداً. تسمح منصة "بينانس.كوم" لأي شخص بفتح حساب من أي مكان في العالم تقريباً بواسطة معلومات شخصية أساسية وعنوان بريد إلكتروني فقط، بدون أي شيء يثبت هويته.

في هذه الأيام، لا يمكن للمستخدمين الذين لديهم حسابات لم يتم التحقق منها فعل الكثير، ولكن لسنوات كان يسمح لهم بسحب عملتي "بتكوين" في اليوم، بقيمة تصل إلى 120 ألف دولار قبل تغيير هذه السياسة في عام 2021. حيث خفّضت الشركة الحد الأقصى إلى 0.06 من "بتكوين"، أو حوالي 1200 دولار في اليوم بأسعار اليوم. يقول جاو: "ربما نكون من أوائل الشركات التي نمت في 180 دولة في الوقت نفسه" - أي بعبارة أخرى، جميع الدول تقريباً - ويضيف "كان لدينا مستخدمون في كل مكان، كانت لدينا فرق في كل مكان".

الخروج من الصين

لكن في كل مكان، لم يكن يعني بالضرورة أنها ليست موجودة بشكل ثابت في مكان ما. كان جاو نفسه يعيش كالرحالة، حيث يعمل من غرف الفنادق والشقق المؤجرة والمنتجعات في جميع أنحاء العالم، بينما يتواصل مع الموظفين عبر الرسائل النصية والبريد الإلكتروني ومكالمات الفيديو. لكن الموظفين السابقين يقولون إنه لسنوات عديدة، كان لدى "بينانس" أيضاً قاعدة أم سرية. وكان هذا غير مريحاً، ليس فقط لأنه يتعارض مع أيديولوجية الشركة المعلن عنها كـ"منظمة" لامركزية، ولكن أيضاً لأن القاعدة الرئيسية كانت في الصين، حيث تمنع العملات المشفرة.

وهكذا، حتى عندما أغلقت بكين البورصات المنافسة، كان أكثر من 100 موظف في "بينانس" يرفعون تقارير كل يوم إلى مكتب في منطقة هوانغبو الواقعة شنغهاي، حيث جلسوا في وحدات عمل تقليدية مع وجود بطاقات أسماء بلغتين موضوعة أمام مكاتبهم. حيث تم تعيينهم وتقدموا للحصول على تأشيرات عمل باستخدام اسم مستعار للشركة، "رويك كالتشارل ديفيلوبمنت" (Ruique Cultural)، وتم حثهم - كما يقولون - على توخي الحذر عند ارتداء المنتجات المتعلقة بالشركة في الأماكن العامة وتجنب إخبار أي شخص بمكان عملهم.

ثم، في نوفمبر 2019، طُلب منهم حزم أمتعتهم ومغادرة المبنى. عندها قاموا بحزم أجهزة الكمبيوتر وألعاب مكاتبهم وغيرها من التحف الزهيدة. وطبقاً لما قاله العديد ممن كانوا هناك في ذلك الوقت، قام بعضهم بتجميع بطاقات عملهم الخاصة التي تحتوي على أسمائهم ووضعوها تحت الماء في مغاسل الحمام لجعلها غير قابلة للقراءة. بعد ذلك تمت إعادة تعيينهم في مجموعة من مساحات العمل المشتركة في محيط شنغهاي بينما سافر بعضهم الآخر إلى الخارج كما فعل جاو.

مكتب شنغهاي

عندما أفاد موقع "ذا بلوك" (The Block)، وهو موقع إخباري متخصص في العملات الرقمية، أن مكتب هوانغبو تعرض لـ"مداهمة من قبل الشرطة" كجزء من حملة الصين على العملات الرقمية، نفى جاو ذلك. ولم يزعم فقط بعدم حدوث مداهمة، بل بعدم وجود مكتب لـ"بينانس" في شنغهاي على الإطلاق. وكتب على "تويتر": "لا شرطة ولا مداهمة ولا مكتب". وأشار إلى تقرير "بلوك" على أنه (FUD) وهو اختصار لعبارة "الخوف وعدم اليقين والشك" المستخدمة كتلميح في دوائر الكريبتو لوصف أي أخبار غير مفيدة لتصورات "بتكوين"، وأضاف: "سنلجأ للقضاء". وقام موقع "ذا بلوك" بتحديث قصته، موضحاً أن مصطلح "مداهمة" كان محل نقاش، لكن الموقع بخلاف ذلك صمد بثبات تجاه ما ادعاه.

لم يقاض جاو الموقع. كما لم ينف خلال المقابلة في فندق "فور سيزونز" دبي وجود مكتب في شنغهاي، إذ قال: "زار أحد المسؤولين الحكوميين المكتب، لم يكن حتى أمراً مُنظماً. لقد كان مجرد مسؤول حكومي". ثم أطلق جاو بعض الانتقادات تجاه الإعلام، قال جاو: "كصحفي، يمكنك كتابة روايتين مختلفتين تماماً، أليس كذلك؟ يمكنك أن تقول: هذا الرجل هرب إلى مطعم، أو يمكنك القول: الرجل دخل ببطء إلى المطعم وهو يستمتع بمنظر أشعة الشمس".

أثناء اللقاء، توقف ونظر حوله، كما لو أنه يشير إلى الخيار الذي يفضله. كنا في غرفة فارغة تماماً تم فحصها من قبل حارس أمن جاو. كانت هناك أشعة شمس تدخل من النوافذ، وتابع: "هناك الكثير من الروايات حول ذلك وهي تستند إلى معلومات غير دقيقة للغاية".

الروايات

لطالما كان لدى صناعة العملات المشفرة اعتماد إلى حد ما على حكايتها. ولطالما أشار داعمو "بتكوين" إلى أن عملات الدول المحلية تستند للمعتقد الجماعي والمرسوم الحكومي "الإلزامي" الموجود عند النقود الورقية. ولكن في حين أن الدولار يستفيد من الاتفاق الواسع النطاق بأنه سيحتفظ بقيمته بشكل أو بآخر بمرور الوقت، فقد انتشرت العملات المشفرة بسبب الاقتناع المشترك بين المؤمنين بها بأنها سترتفع، مع وجود القليل من الاهتمام بفائدتها المتأصلة.

عن ذلك، يقول ديفيد بورتنوي "لماذا؟ لا أعرف بتاتاً". بورتنوي هو رجل أعمال في مجال الإعلام الرياضي عمل لفترة وجيزة مع مستثمري أسهم الـ"ميم"، ووصف الاستثمار في عملة مشفرة غامضة لم يتم تداولها على منصة "بينانس"، بأنه كان "نظام بيع بونزي. عليك الانخراط بالمشروع منذ بدايته".

إعلانات وترويج

من جهة أخرى، يقول متداول يستخدم البورصة، إن منصة "بينانس" هي "كازينو ضخم من نوع (شيت كوينز)".

ويضيف هذا الشخص الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه يخشى أن تقوم "بينانس" بالانتقام منه وتجميد حسابه، إن جاو يستحق الثناء لإدراكه أن جزءاً كبيراً من جاذبية العملة المشفرة كان مجرد تكهنات، إذ يقول: "لقد أخذ أغبى أجزاء الصناعة وجعلها سهلة الاستخدام للغاية". فلطالما كانت الرسالة من "بينانس"، كما يقول المتداول، "اذهب واشتري عملات (دوج كوين) الخاصة بك وستصبح ثرياً".

بدورها، تشير المتحدثة باسم "بينانس"، جيسيكا جونغ، إلى أن بعض بورصات العملات الرقمية تقدم عملات مشفرة أكثر من "بينانس" وأن الشركة تطبق "عملية صارمة" لفحص قوائمها، وتقول إنه بعد انهيار "تيرا"، بدأت "بينانس" في تقييم الكيفية التي يتم الإعلان بواسطتها عن العملات المشفرة.

مع ذلك، أصبح نهج "بينانس" تجاه عملات "شيت كوينز" عاملاً مميزاً رئيسياً خلال الأيام الأولى للشركة: في حين أن "كوين بيس" - البورصة الأميركية الكبيرة - عرضت ثلاث عملات رقمية فقط، باعت "بينانس" أكثر من 100 عملة رقمية.

إذ روّجت لها بشدة كما يروج مؤثرو وسائل التواصل لمنتجات مشروبات البروتين للحصول على تخفيض من أي شخص يشتري من خلالهم. أجرت "بينانس" مسابقات تنافس فيها المستخدمون ذوو أحجام التداول الأعلى على الجوائز، بما في ذلك سيارات "لامبورغيني" و"مازيراتي"، بينما قام المتطوعون، المعروفون باسم "بينانس أنجيلز" (Binance Angels)، بالترويج للشركة في محادثات "تيلغرام" ونظموا فعاليات لنشر الحكمة الداعية إلى وضع الأموال في العملات المشفرة.

يقول "بينانس" إن المتطوعون يعملون مجاناً، وليس بدافع الرغبة في الثراء، ولكن انطلاقاً من حب مجتمع العملات المشفرة. يصفهم: "إنهم مثل القساوسة"، بحسب تعبير المُؤسسة المشاركة هي يي، وهي مذيعة تلفزيونية سابقة أعادت صياغة نفسها كمؤثرة في عالم الكريبتو، وهي تعمل الآن كمديرة التسويق في الشركة.

هي يي، مديرة التسويق في "بينانس" عند بورصة باريس القديمة، فرنسا

هي يي، مديرة التسويق في "بينانس" عند بورصة باريس القديمة، فرنسا

السيطرة على البورصات

على الرغم من الادعاءات الواردة في "العرض الأولي لشراء العملات" بأن "بينانس" ستكون بورصة "كريبتو خالصة"، يبدو أن جاو كان لديه طموحات أوسع بكثير منذ البداية تقريباً. إذ يتذكر مدير مُنتج سابق أنه تم إخباره خلال مقابلة عمل عام 2017 أن "بينانس" ستسعى للسيطرة ليس فقط على سوق بورصات العملات المشفرة، ولكن أيضاً على بورصة مثل "ناسداك".

وللقيام بذلك، ستحتاج إلى خدمة العملاء الذين لم يمتلكوا بالفعل عملات مشفرة، مما يعني التعامل مع الأنظمة واللوائح المصرفية. بدوره، قال جاو أثناء اللقاء في فندق "فور سيزونز" في دبي: "إن مستخدمي العملات المشفرة الأوائل، هم راضون بالتبادل خارج الحدود. لكن البقية هم مستخدمون عاديون وربما يفضلون التبادل المنظم".

لدى بورصات العملات المشفرة الأخرى خطط مماثلة، لكن بينما طورت "كوين بيس" سياسات بدت مصممة لإبقاء المنظمين الأميركيين بعيداً، مثل مطالبة المستخدمين بإظهار هوية حكومية، تبنت "بينانس" نهجاً يتماشى مع روحها الحرة. حيث ستظل "بينانس.كوم" بورصة غير منظمة، لكن الشركة ستعمل أيضاً على إنشاء بورصات محلية منظمة يمكن للمستخدمين خلالها شراء العملات المشفرة بالدولار أو العملات الوطنية الأخرى.

موطأ قدم

وكانت المنصة حاولت التقرب من الحكومات في اليابان ومالطا وسنغافورة، التي تحركت جميعاً في النهاية لمنعها من فتح أعمالها هناك، بينما حذر المنظمون في أماكن أخرى - بما في ذلك هولندا وجنوب أفريقيا وتايلندا وحتى جزر كايمان - من السماح بتشغيل البورصة محلياً. من جهته، ووصف جاو هذه الإخفاقات بأنها انتكاسات، وهي جزء من عملية "البحث في أماكن متعددة لمحاولة معرفة أيها سيصبح أكثر ملاءمة للعملات المشفرة".

انفصالات داخلية

كانت الأمور أكثر فوضوية في المملكة المتحدة، حيث كان هناك وحدتان متنافستان من "بينانس"، وهي سمة مميزة كما يقول الموظفون السابقون لاستراتيجية عمل متناثرة غذّت المنافسات الداخلية الشديدة. كان لدى الشركتين الفرعيتين القليل من التواصل لدرجة أن أحد المسؤولين التنفيذيين قال إنه اكتشف الآخر فقط عندما تمت تهنئته على تعيين شخص لم يقابله من قبل. وتقول جونغ من "بينانس" إن فرق المملكة المتحدة عملت معاً. وتضيف: "إنها ليست مبعثرة" متحدثة عن استراتيجية الشركة، بل "إنها هادفة".

في يونيو 2021، أمرت هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة إحدى الشركات التابعة للمنصة، وهي "بينانس ماركتس" بوقف أي "أنشطة خاضعة للتنظيم"، ووضع إشعار على موقع الويب الخاص بها يشير إلى أنها غير حاصلة على تصريح ممارسة الأعمال التجارية في البلاد. وأعلنت الهيئة أن "بينانس" "غير قادرة على الإشراف بشكل فعال". وبالفعل عرضت "بينانس" الإشعار على موقعها في المملكة المتحدة، لكن موقع "بينانس.كوم" ظل مفتوحاً للمتداولين في الدولة، لأنه من الناحية القانونية، لا علاقة له بالشريك البريطاني الذي تم توبيخه.

محاولات في أميركا

وفي عام 2019، أسس جاو "بينانس يو إس"، التي قال إنها ستكون مستقلة تماماً وتسعى إلى الامتثال لقوانين الولايات المتحدة من خلال تقييد الوصول إلى العروض ذات المخاطر الرتفعة. ولكن في عام 2020، أفادت مجلة "فوربس" أنها حصلت على وثيقة مسربة تصف الاستراتيجية المقترحة بـ"العرض الزائف" والتي من خلالها ستكون "بينانس يو إس" مجرد حيلة مصممة لإبعاد التدقيق عن البورصة الرئيسية. وقالت "بينانس" إن الاقتراح قد تم تحريفه ورفعت دعوى قضائية بتهمة التشهير، حيث قاد القضية تشارلز هاردر، المحامي الذي اشتهر بإطاحته بـ"غوكر ميديا" (Gawker Media) عندما مثّل بيتر ثيل.

وقفت "فوربس" خلف قصتها، وأسقطت "بينانس" الدعوى في النهاية. عن ذلك، قال جاو في دبي: "المقال غير دقيق"، على الرغم من أنه أضاف أن الخلاف لم يؤثر في قراره تقديم 200 مليون دولار مقابل حصة في المجلة، وأنه لن يتدخل في الأمور التحريرية. وعندما سئل عما هو غير دقيق في المقال، قال إنه غير متأكد. لم يذهب جاو إلى الولايات المتحدة منذ سنوات وهو ما يعتبره البعض بمثابة اعترافاً بالخوف من احتمال اعتقاله. لكنه قال إن هذا ليس هو الحال. بل إنه يتجنب البلاد فقط حتى لا يثير المواجهة. ويضيف: "أعتقد أنه مسموح لي الدخول إلى الولايات المتحدة تماماً، ليس هناك مشكلة، لكني لا أريد أن أعطي تصوراً بأننا نحاول استقطاب المستخدمين هناك". وعندما يتحدث جاو في المؤتمرات الأميركية، يفعل ذلك بواسطة "زووم".

عدم الامتثال

أصبحت "بينانس" الآن موضوع تحقيقات هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، في مسألة البيع المحتمل للأوراق المالية غير المسجلة خلال "عرض الشراء الأولي للعملات" في 2017، والتداول من الداخل. كما تواجه المنصة أسئلة من الوكالة حول العلاقة بين البورصة العالمية والذراع الأميركي. يقول تود وايت، الشريك الإداري في "رولون آند وايت غوفيرننس ستراتيجي" (Rulon & White)، وهي جهة ضغط في واشنطن تركز على العملات المشفرة، إن هذه التحقيقات هي نتيجة لفشل جاو في أخذ الامتثال للأنظمة على محمل الجد. ويضيف وايت: "كانوا فقط يخلقون منصات في جميع أنحاء العالم". وتابع: "أتفهّم أنك تحاول بناء شيء ما، لكن قواعد مكافحة غسيل الأموال مهمة". ويذكر وايت أنه حث المديرين التنفيذيين في "بينانس" على التعامل مع الامتثال بجدية أكبر في اجتماع 2018، لكن ذلك تم رفضه. إذ يقول: "لقد كانوا رافضين للغاية. الغموض هو خيار استراتيجي. من مبدأ أنه لا يمكنك مقاضاة الأمور الغائمة".

من جهتها، تعارض "بينانس" هذا التفسير وتقول إنها تأخذ الامتثال على محمل الجد. حاولت "بينانس" أن تشرح للمنظمين سبب انعدام تنظيم البورصة الضخمة للعملات المشفرة، هو ليس بالمسألة الكبيرة. لكن جاو أدرك، على حد تعبيره "أننا لن نعلّمهم ونغير رأيهم في هذا الشأن. التغيير أسهل بالنسبة لنا من التغيير بالنسبة لهم".

دمج الأعمال

ومن المفارقات بالنسبة لشركة تقوم على مبدأ التشكك في "وول ستريت"، أن "بينانس" أكثر مركزية حتى من أكبر المؤسسات المالية. وهي اليوم، بشكل متزامن، بورصة، وشركة سمسرة، وبنك ادخار، ومستثمر في رأس المال المجازف، ومزود بيانات، ومشغل "كازينو شيت كوينز". وبعبارة أخرى، فإنها كما لو أن "ناسداك"، و"تشارلز شواب"، و"بنك أوف أميركا"، و"أندريسن هورويتز"، و"مورنينغ ستار"، و"سيزارز بالاس"، كلها مدمجة في كيان واحد.

يقول ليكس سوكولين، خبير اقتصادي في شركة "كونسينسيس سوفتوير" (ConSensys) إن مؤسسة جاو للكريبتو "متكاملة رأسياً بشكل لا يمكن أن يُسمح لمؤسسة مالية تقليدية أن تكون عليه أبداً".