الشاعر عبدالعزيز جويدة: قصيدة النثر «جريمة».. و«الناثر» ليس شاعراً

عبدالعزيز جويدة
عبدالعزيز جويدة

حوار أجراه: عبدالهادى عباس

سنوات النشأة الأولى كان لها تأثير السحر على الشاعر الكبير عبدالعزيز جويدة، لأن أصداءها أسهمت فى صنع بواكير رحلته فى عالم القصيدة، وفى الجزء الثانى من الحوار، الذى أجرته معه اآخرساعةب يحدثنا عن أسرته العريقة وعلاقتها بالكِتاب والإبداع، خصوصًا والده الذى كان عالمًا أزهريًا مستنيرًا، وشقيقه الشاعر الكبير فاروق جويدة، وكيف ذاع صيته فى مرحلة الجامعة حتى أن زملاءه لقبوه بـاشاعر لا تعشقينيب وهو عنوان قصيدة له كان يلقيها فى برنامج إذاعى شهير.

 

كما تطرق جويدة إلى قصيدة النثر واصفًا إياها بـاالجريمةب، واعتبر أن االناثرب ليس شاعرًا، مؤكدًا أن الشعر العربى يشبه الحصان العربى الأصيل له مواصفات الحيود عنها جُرم عظيم.. وفيما يلى نص الحوار:-

< كيف جذبتك نداهة الشعر فتحولت من بذور القمح إلى بذور القصيدة؟

- الشعر يشبه الأنهار العتيقة ويستطيع أن يحول مسار جريانه فى أى وقت للاتجاه الذى يريده، ومهما حاولت المقاومة فمن المستحيل أن تقاوم جنون الشعر وعنفوان فيضانه؛ ورغم أننى فى كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية فإننى عندما دخلت الجامعة وجدت بها ضالتى المنشودة، حيث إن جامعة الإسكندرية كانت جامعة للفنون والآداب؛ ففى مبنى كلية الزراعة بمنطقة الشاطبى توجد مكتبة الجامعة، وذلك المبنى العريق قضيت فيه سنوات أقرأ بنهم كل ما تقع عليه عينى؛ كانت أمهات الكتب فى الشعر والأدب والفلسفة تحت بصرى وبين يدى، وكنت أستعير الكثير من الكتب لأكمل رحلتى مع القراءة؛ وفى سباق مع الزمن انخرطت فى النشاط الثقافى بالكلية، وكان لدينا رجل عظيم فى شئون الطلاب اسمه الأستاذ سمير حامد الذى نقل النشاط الثقافى إلى مستوى غير مسبوق فى الكلية، فكنا على سبيل المثال نعرض فى أكبر مدرجات الكلية فيلم االأب الروحىب وأفلاما أخرى مهمة، وتقام الأمسيات الشعرية تباعا داخل أروقـــــــة الجـــامعــــة، وكــــــان الدكتــــــور خالـــــد الشاذلي، عميد الكلية، من القامات التى تعشق الثقافة، لذا كان يحضر بشخصه ندوات الشعر عندما كنا ننافس جامعات أخرى.

 

لا تعشقينى!

< ما قصة تلقيبك بين طلاب الجامعة بشاعر الا تعشقينىب فى هذه المرحلة المبكرة من عمرك الشعرى؟

- (مبتسمَا): ذاع صيتى داخل أروقة الجامعة ولقبنى الطلاب بشاعر الا تعشقينىب، وهى قصيدة لى كنت قد ألقيتها فى برنامج امسرح المنوعاتب للأستاذ على فايق زغلول، وهذا البرنامج كان من البرامج الإذاعية المهمة وله جمهور عريض داخل مصر وخارجها، وكنت أقيم بمبنى كلية الزراعة ليل نهار: مجلات مطبوعة ونشرات وندوات ورحلات، عشت أجمل فترات حياتى داخل الجامعة، وكانت معارض الكتب تقام فى كل شبر بالإسكندرية، وبين هذه الروح التنافسية بين طلاب الجامعات المختلفة اشتد عودى فى الأدب والشعر وأصبحت مشرفًا على النشاط الثقافى، وهذا جعلنى أهتم بالشعر أكثر وأكثر، وكان الطلاب فى منتهى الشغف للشعر والأدب والسينما والمسرح؛ وأتذكر أن الراحل نور الشريف جاء إلى مدينة الإسكندرية ليعرض مسرحية اسهرة مع الضحكب للكاتب الراحل على سالم، وتمت دعوة نور الشريف ومعه أحمد بدير، لعمل ندوة بكلية الزراعة، وتم بالفعل ذلك، وكان عدد الحضور يفوق الوصف وبدأت الندوة وكان النقاش عظيما راقيا نبيلا، وفى نهاية الندوة قال نور الشريف: فكرت بأننى بين طلاب كلية الزراعة وإذا بى بين طلاب المعهد العالى للسينما والمسرح. كنا نبحث عن الثقافة أينما تكون، كان الرقى عنوانا لمرحلتنا، نحن جيل فيروز وعبدالحليم ونجاة وشادية ووردة وفايزة أحمد ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم، والفنون تُشكل الأشخاص والشخصيات.

 

< ما أبرز الآثار المعرفية الباقية التى طبعتها هذه المرحلة فى وجدانك الشعرى؟

- هى مرحلة من أهم مراحل التنوير فى تاريخ هذه الأمة من شعراء وكتاب قصة ورواية وسينما ومسرح وفن تشكيلى، هذه المرحلة صقلت مواهبنا ومنحتنا تأشيرة السفر لنطوف العالم شرقا وغربا من خلال عبقرية الفنون والأدب؛ كان لدينا فريق كورال عظيم بكلية الزراعة وفرقة فنون مسرحية، وفى كل عام كانت تقام دورة تسمى بـبالدورة الزراعيةب، تقام كل عام فى محافظة من المحافظات التى بها كلية للزراعة، وكانت هذه الدورة يجتمع فيها كل كليات الزراعة على مستوى الجمهورية؛ وتقام التنافسية فى جميع الأنشطة الثقافية والرياضية والمسرحية؛ وكانت الدورة الزراعية عُرسًا ثقافيًا بمعنى الكلمة لأن الكليات والأساتذة والطلاب لديهم قناعة كاملة أن المكون الثقافى هو أهم مكونات العملية التعليمية، لأن هذا المكون يحافظ على الهوية التى بمثابة خط أحمر كقضية أمن قومى للانتماء لهذا الوطن؛ لقد جئت من قريتنا أحمل فى حقيبتى الوحيدة ملابسى وأحلامى، كنا ندافع عن أحلامنا بشراسة لأننا أبناء الريف نأتى إلى المدينة لا نملك من الدنيا شيئًا سوى أحلامنا وعزيمتنا ودعوات أهلنا وتوفيق الله لنا، وبالفعل انتصر الشعر فى النهاية لأن الشعر لا يستطيع أن يهزمه أحد.

 

ثلاثية مقدسة

< أنت من أسرة عريقة فى علاقتها بالكتاب.. كيف أسهمت أسرتك فى دعم أواصر إبداعك الشعرى؟

- فتحت عينى بمنزلنا الهادئ بقريتنا فى مركز حوش عيسى محافظة البحيرة بعزبة الحاج محمد جويدة أبى العظيم رحمه الله، على مكتبة عظيمة، وأب خلوق وعالم أزهرى مستنير وعاشق للكلمة والفنون والإبداع، وأخ كريم ومبدع رائع هو الشاعر العظيم فاروق جويدة؛ كانت هذه االثلاثية المقدسةب عنوانا للمرحلة الجديدة، وإيذانا بفتح كل نوافذ النور فى قلبى وعقلى ووجداني؛ كان أبى يعشق المشى فى الليالى المقمرة، وكنا دائما بعد صلاة العشاء نبدأ فى قطع مسافة تصل إلى خمسة كيلومترات ذهابا وإيابا فى سكون الليل وعلى ضوء القمر وبين الزراعات الباسقة، يأخذنا الحديث عن الشعر والأدب والفنون، وكان أبى يحفظ الكثير من أبيات الشعر العربى العمودى الفصيح من عصور مختلفة، ويرددها دائما وأنا فى قمة الإنصات، وكنا نتنقل بين المتنبى وأبوتمام والبحترى والفرزدق وجرير والخنساء وطه حسين والعقاد، وكانت تقام بمنزلنا حلقات الذكر فى حب الله ورسوله، وفى هذا الجمع الكبير تذبح الذبائح وتقام الولائم ويبدأ الجميع فى الذكر بقصائد أهل التصوف: ابن عربى وابن الفارض والحلاج وغيرهم، وتلك القصائد كان لها عظيم الأثر فى نفسى، وكان أبى دائمًا ونحن نتناول وجبة العشاء يسألنا فى إعراب جملة أو تفسير آية قرآنية أو إظهار البلاغة فى بيت شعر؛ كان أبى عاشقا للموسيقار محمد عبدالوهاب، وكانت إذاعة الأغانى تبدأ إرسالها من الخامسة مساءً وتنتهى فى التاسعة مساءً، وكانت قريتنا الصغيرة بكاملها والناس تجلس أمام البيوت عندما تأتى الساعة الثامنة مساءً كانت إذاعة البرنامج العام تذيع تلاوة قرآنية لأحد عظماء دولة التلاوة المصرية: مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد والمنشاوى ومحمد رفعت والطبلاوى.

الوزير العاشق

< كيف أسهمت هذه الروافد الثقافية المتعددة فى حشد طاقاتك المعرفية واستنفار حاسة الأدب لديك؟

- كانت روافد الإبداع متعددة، ونحن فى عملية شحن دائم للذائقة الإبداعية فى كل المجالات، وكنا نبحث عن الكتاب، وكانت الجرائد والمجلات الورقية المطبوعة أهم اهتماماتنا، وبصفة يومية نمسك بتلابيب الجريدة من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، نقرأ للعظماء ونستفيد ونفيد ونناقش غيرنا، وكان النقاش بين أبى رحمه الله والشاعر القدير فاروق جويدة فى كل النواحى، نقاشا ثريا مفيدا جميلا، وكانت علاقة أبى بفاروق علاقة أصدقاء وإخوة قبل أن تكون أبوة وبنوة؛ وكان أبى فخورا بابنه فاروق؛ وأتذكر عندما حضر أبى وأمى مسرحية االوزير العاشقب لفاروق جويدة، وكانت تعرض على خشبة مسرح السلام، وعاد أبى كى يحكى الحكاية بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة لكل من يراه أو يجلس معه، لأن المسرحية أحدثت دويا هائلا فى الساحة الثقافية، وكانت كل الجرائد والمجلات والإذاعة والتلفزيون تتنافس فى الحديث عن هذا الحدث الأهم، عن مسرحية شعرية هزت الدنيا وزلزلت الناس، وعرضت المسرحية خارج مصر فى الأردن وتونس فى احتفاء وحفاوة لم يسبق لهما مثيل، كل هذا الزخم الأدبى والثقافى والمعرفى كان يحاصرنى أينما وليت وجهي، وكان معرض القاهرة الدولى للكتاب وجهتنا الثقافية والحضارية وأسهم فى أن وضعنا مع المبدع وجها لوجه، فنشأت تلك العلاقة الرائعة بين مبدع بحجم السماء وجمهور بحجم الكرة الأرضية، عرفنا نزار قبانى والبردونى وسميح القاسم ومحمود درويش وفاروق جويدة وفاروق شوشة وسعاد الصباح وحجازى والأبنودى وأمل دنقل، مع حفظ الألقاب للجميع، لم تكن السوشيال ميديا قد أتت بعد لتغير العالم وتغيرنا معه، لم تكن الأفكار قد سُطحت بعد، ولم يكن كل هذا العبث يتسيد المشهد الثقافى ليعلن عن نظام جديد وعهد جديد ومصطلحات مختلفةً لا تتفق معنا ولن نتفق معها.

ليست شعرا

< فى الساحة الثقافية الآن يتنافس الشعر الموزون المقفى مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر.. برأيك، أى الأنواع الثلاثة الأقرب إلى ذائقة الجمهور العربى؟

- لا يوجد شيء يسمى بقصيدة النثر، والشعر العربى يشبه الحصان العربى الأصيل له مواصفات الحيود عنها جرم عظيم، وتسمية النثر قصيدة جريمة وتسمية الناثر شاعرا عقوق، فهو شكل أدبى له كل التقدير والاحترام، لكننا نسميه شعرا فهذا من باب المجاملة، وإلا كان محمد عبدالحليم عبدالله وعبدالحميد جودة السحار ويوسف السباعى شعراء لأنهم يكتبون النثر أقرب ما يكون إلى الشعر، وتخريب الشعر وارد جدا، وهنالك مخطط لذلك، والذى لا يستطيع أن يكتب شعرا يكون متذوقا له ويقول أنا أكتب نثرا ورزقى على الله، وهل النثر نقيصة؟! فلماذا أذهب وأنا أكتب النثر إلى الشعر وأدعى أنى شاعر؟! والشعر الذى تحدث عنه القرآن الكريم هو الشعر العمودى الموزون المقفى، وسورة الشعراء تقصد هؤلاء الشعراء وليس غيرهم، أما هذه المجاملات الكاذبة من أجل أن نسمى النثر شعرا فهذا لا يجوز، وهو ضرب من ضروب الهوس لكى يصبح كل من هب ودب شاعرا، وماذا قدمت قصيدة النثر لنا سوى هذا الخلل وهذا الملل وهذا العدد الهائل من الأسماء التى تدخل من باب الأدعياء للقصيدة العربية، لأن قصيدة النثر فى نظرى هى مكان يهرب فيه كل الأدعياء لخلق عالم مواز لعالم الشعر لإحساسهم الدائم بأن الشعر منزلة صعبة المنال بالنسبة إليهم، ولو كان النثر بمنزلة الشعر فى نظرهم ما تهربوا منها، فالأم غير المرضعة والنائحة الثكلى غير النائحة المأجورة والشعر غير النثر منذ خلق الله الأرض وحتى قيام الساعة؛ جاملوا بعضكم بعضا ولكن ليس على حساب الشعر.