مغازي شوقي يكتب: خطيئة البشر الأولى

مغازي شوقي
مغازي شوقي

أسراب من العقبان والغربان ملأت شوارع المدينة الضيقة  الحزينة آنذاك  ، غطت لتوها على نوح الحمام الباكي ، ذلك الذي لم تمنعه حرارة يونيو عن التواجد في المشهد .. اصطفت جميعها هناك في حداد مهيب . وبالقرب من باب الجامعة الذي كانت ترجو منه الكثير .. هناك حيث عاش حلمها أن تخرج منه وعلى رأسها تاج التخرج ويلفها رداء العلم .. عصفورة صغيرة بألوان الصبا وروح الأمل .. عظام طرية لينة نبتت لتوها بين ضلوع والديها .. ورسمت عشها و حلمها الأخضر، الذي سرعان ما انقلب إلى كابوس قض مضاجع والديها . خطوات بسيطة تفصلها عن بوابة الحلم التي هجرتها المغاليق  وتركتها مشرعة من الجانبين. وهناك تبعها أحد الضواري متخفياً في هيئة الطاووس المتبختر بخيلاء الذكورة وعنفوانها، لتوه قد ترجل خلفها ، وبكل خسة ونذالة ، وبمنتهى الوضاعة التي استأثر لنفسه بالنصيب الأعظم منها .. استل سكينه في غدر . واغتال حلم العصفورة الصغيرة بعش هاديء وحياة ملؤها البساطة . تلقفها بجبن الغدر سريعا وذبحها من الوريد إلى الوريد. ثم  مالبث أن وقف بعدها مختالآ بفعلته . ومن حوله  ضباع البرية التي ماتت فيهم اخلاق البشر فجأة ، واختفوا من المشهد كأن لم يكونوا ، فقط هو وقطيع الضباع  التي آذرته بصمتها و كاميرات وعدسات السوشيال الميديا اللعينة ، وبدأو ا جميعاً في توثيق اللحظة . 

تلك كانت خطيئة البشر الأولى .. رأس ملقى على الأرض يشهد ويناجي ربه الغفران .. وبقايا عصفورة انتزعت منها الحياة في غفلة من الزمن والمارة. أما أسراب المستنكرين منهم وتمتماتهم كانت أسوأ مافي المشهد من غياب المروءة والنخوة .. وكأنها أصوات نعاب الغربان الحائمة حول فريسة ملقاة .. 

وفي بقعة أخرى بعيدآ عن هذا المكان .. وعلى عتبة الدار كانت الأم الثكلى تستبق أبواب الرحمة بسرعة جنونية أنستها حتى أن ترتدى حذائها ربما .. ورجل هزيم جلس في صمت مكلوم .. لا شيء في هذا الكون يمكن أن يطفيء نار عبرات اخترقت تجاويف قلبه . يدرك أن أثقل الأحمال في هذه الدنيا هو نعش ابنك . و لا يذكر من هذه الحياة شيئاً الآن  غير صورة رأس ابنته الملقى على الأرض .. وكأن مخيلته ترفض أن تصدق ، كما أن ذاكرته جفت دروبها فقط عند مشهد سبوعها وأجراس المهنئين بقدومها . ما أقصر رحلة العصفورة تلك . كانت لتوها قد خرجت خماصاً من عشها تسعى ، ما لبثت أن تعلمت كيف تطير . لتوها بدأت تتلمس جديد ريشها النابت وتألفه. و حوله تحوم الأم المجنونة ، على غير هدى ، تبحث عن عصفورتها هنا وهناك ، تفتش حجرتها وتقبل سريرها ، وتبحث عنها تحته أو خلف ستائر الغرفة ربما ، كانت كثيراً ما تختفى هناك في صغرها ، فراحت ترتطم تارة بالباب وأخرى بالنافذة  مذبوحة كابنتها من الألم. لا ينقطع صوت ندائها .. نيرة حبيبتي ، يا قلبي .. أين أنتي ؟؟ فقط تنادي وتنادي وتلهث وتحوم وتجلس ثم تنهض لا تدرك ماذا تفعل  .. لا تريد شيئا من هذه الدنيا غير أن تسمع ولو لمرة صوت (نيرة )  ترد عليها كالمعتاد -نعم يا أمي - .. 

وتلك صديقاتها كن ينتظرنها داخل أسوار الجامعة كما اعتدن يومياً .. في أرض الحلم قد افترشن البساط بعذارى الأحلام . وصبغوها بألوان الربيع القادم . يتناجين بينهن .. أيهن ستحتضنها أولآ ..لم يكن يدركن أن حضنها قد خضبته دماء البراءة بسكين غدر الوحش والجهل والمجتمع المستأسد فقط على البسطاء وأحلامهم ..  وكأن (نيرة ) أرادت لنفسها أن تكون رسالة أخرى لكل منهن أن اجعلن حلمكن سرآ في مجتمع ينصب نفسه حكماً وجلاداً. في مجتمع يرفع شعار التربية والتعليم بينما تراه في الحقيقة أبعد ما يكون عن المعنيين -غابت التربية ومات التعليم - وأخذت سلاسل المثل والأخلاق في الاحتضار شيئا فشيئا حتى تلاشت وانعدمت .. لهثت الأجيال خلف وسائل التواصل الاجتماعي ودققوا النظر في أجهزتهم الإليكترونية وانغمسوا في رسم الصورة البراقة لنفسهم في عالم افتراضي ارتضوه ، ونسوا أو تناسوا أن يدققوا النظر في وجوه أبنائهم وجدران بيوتهم وكأنه عالم حقيقي يرفضونه . وكأي جنين مشوه التكوين ولد جيل مبتور القيم والمثل والأخلاق . ليلاقي من نجا من هذه الصورة القاتمة مصيراً كمصير نيرة .. لا أستطيع أن أنصب نفسي حكماً وجلاداً للمجتمع وماأسهل أن أدعي ذلك . لكنني بعد أن أفرغ من الكتابة عاهدت نفسي أن أشرع في تدقيق النظر إلى نفسي وأسرتي وأن ألملم أبنائي حولي وأستمع لهم أكثر  في محاولة مني أن أبدأ بنفسي ..