كتابة

عن المخزنجى فى عُزلته ( 3 ) عُمر من الكتابة الجميلة

محمود الورداني
محمود الورداني

بقلم: محمود الورداني

أواصل هنا ماسبق أن كتبته عن محمد المخزنجي في الأسبوعين الماضيين.
قبل رحيله إلى أوكرانيا ليتخصص في الطب النفسي، كان قد عمل في عدد من المستشفيات في المنصورة والقاهرة والإسكندرية، كماعمل طبيبا في الحجر الصحي في القناة. وسوف أقرأ فيما بعد صدى وتأثيرا لتلك التجارب في مجموعتيه الفاتنتين التاليتين على « الآتي» وهما « الموت يضحك» 1988 و» سفر» 1989 اللتين ضمتا قصصا قصيرة جدا، محكمة ومكتنزة، بالغة التكثيف وتشبه ومضات، ومن بينها قصص المرضى النفسيين الودعاء الطيبين الخائفين.

وأود أن أضيف هنا أنه قطع رحلة طويلة، أثناء وبعد دراسته في أوكرانيا للطب النفسي، استغرقت عدة مجموعات من القصص ذات الحجم المضغوط وفقا للتجارب التي اختار أن يكتب عنها، وكلها تجارب تنطلق من عالمه وحياته الشخصية وعلاقته بالدنيا والناس.

لكنني في الوقت نفسه أريد أن أستدرك سريعا لأشير إلى انه كاتب» واقعي» وهو وصف « نقدي» إن صح، فينبغي تخليصه من ابتذال طالما لحق به، والأعمال الواقعية هي أعمال عظيمة حسبما أرى، لكن المخزنجي وصل إلى ذُرى في هذا الخصوص، وإلى الجنون في تحطيم هذا الشكل والانقلاب عليه على النحو الذي نراه مثلا في مجموعاته التالية « البستان» 1992 و» أوتار الماء»2003  و»حيوانات أيامنا» 2007 «رشق السكين» 2007 .

نعم المخزنجي كاتب واقعي أحب يوسف إدريس. لم يتأثر به أو يقلّده بل أحبه، وأخلص مثله للقصة القصيرة وعشقها فبادلته عشقا بعشق ومنحته أسرارها. عكف عليها وسكن إليها، ولم يغادرها إلا أخيرا ليكتب، تبعا للتجارب التي شاء أن يكتب عنها، قصصا طويلة. ليست «نوفيلات» وليست قصصا قصيرة أيضا، بل كتب القصص التي تلائم التجارب الجديدة.

وعندما التحق بمجلة العربي وسافر إلى الكويت في ثمانينيات القرن الماضي أنجز أمرين أساسيين أضيفا إلى  إنجازه الضخم في القصة القصيرة، وهما الاستطلاعات التي قام بها للمجلة، ولحُسن الحظ أنه جمعها وحفظها من الاندثار في مجلد أصدرته دار الشروق عام 2011 في نحو خمسمائة صفحة. والأمر الثاني هو اتجاهه للكتابة العلمية، حيث كتب عشرات المقالات التي نشر بعضها في العربي والبعض الآخر في صحيف»الشرق الأوسط» وغيرها من الصحف، وواصل الكتابة حتى وقت قريب وقرأت له بالفعل في ملحق الأهرام مرة أو اثنتين.

لا أعرف في حقيقة الأمر ما إذا كان قد جمعها في كتب أم تكاسل، لكنني وفي حدود ما قرأت لاأعتقد أنها تقلّ عن إنجازه القصصي في العكوف والدقة والإخلاص والعناء واحترام القارئ، وأتمنى أن يجمعها وينشرها في كتب تحفظها من الضياع فهي جهد سنوات طويلة من المثابرة والعكوف، وهنا أنا أكتب عن واحد أعرف جيدا كيف يأخذ نفسه بالشدة، ويحترم قارئه، ويحترم نفسه قبل كل شئ. أنا أكتب عن صديق أعرف جيدا ماذا تعني الكتابة بالنسبة له.

من جانب آخر، أعرف جيدا أنني أكتب بعاطفة جارفة نحو المخزنجي. نعم أنا أمتدحه لرحلته الطويلة ولإنجازه القصصي ولضميره الصاحي ومن حقي أن أمتدحه. أفتقد المخزنجي الذي لم أره منذ سنوات. أحترم عُزلته وإن كنا نتحدث هاتفيا على فترات متباعدة، ومنذ أتيح لنا أن نمضي عدة أيام معا- أثناء اشتراكنا في لجنة تحكيم جائزة محمود درويش قبل مايزيد عن خمس سنوات- لم نلتق إلا لساعة أو اثنتين ربما اثناء ندوة لصديقتنا الكبيرة والقريبة إنعام كجه جي في بيت السناري.

أضيف هنا أنني عندما بدأت الكتابة عن المخزنجي كنت أريد الكتابة عن عُزلته فقط، لكنني وجدتُ نفسي أكتب ثلاثة مقاطع أو مشاهد قبل أن أصل إلى ما رغبتُ في كتابته أول الأمر.
وأخيرا أظن أنني سأكتب في الأسبوع القادم - إذا امتد الأجل- عن عُزلته التي أعرف دقائقها وأسبابها جيدا وأتمنى أن أتمكن من الاقتراب منها.