ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً وتغيير النظم الغذائية

إعصار الجوع يضرب العالم.. تفاصيل

ارتفاع أسعار المواد الغذائية
ارتفاع أسعار المواد الغذائية

كتبت: دينا توفيق

تفشى وباء كورونا أواخر 2019، وسريعًا وجد العالم نفسه محاصرًا، الحياة توفقت؛ والإغلاق الكامل أحكم قبضته على الاقتصاد العالمى، أغلقت الموانئ وتوقفت حركة الطيران، وكذلك عجلة الإنتاج وسلاسل التوريد.. عجز فى ميزانية الدول الكبرى وصل إلى تريليونات الدولارات.. نقص فى السلع وارتفاع للأسعار سواء الطاقة أو الغذاء ما كان له أثره على الاقتصاد عالميًا.. والآن مرة أخرى، يواجه العالم أزمة اقتصادية وارتفاعًا فى الأسعار جراء الصراع الروسى الأوكراني، مع فرض الغرب عقوبات على موسكو ما ينذر بمجاعة وانهيار نظام الغذاء العالمى. 

فى حين أن الوباء أقلم العالم على الإغلاق، والقيام بعمليات التلقيح الواسعة، وعجّل بأكبر عملية نقل للثروة إلى الشركات الكبرى من خلال القضاء على الشركات الصغيرة والمتوسطة وتغيير أنماط الأعمال التقليدية لمواكبة التغيرات الســـــريعــــة فى التكنــــولوجيـــا اســــتعدادًا لمستقبل إلكترونى، كان هناك حاجة إلى ناقل إضافى لتسريع عملية الانتقال؛ الانهيار الاقتصادى قبل أن تتمكن الدول من «إعادة البناء بشكل أفضل»، وفقًا لصحيفة «بوكيت تايمز» التايلاندية. أزمة تلو الأخرى، بداية مع محاولات تخفيف التداعيات الناتجة عن الوضع الوبائى، وتغيير المناخ ويلحقهما العمليات العسكرية الروسية فى أوكرانيا وتحذيرات من أوبئة قادمة وكل ذلك ما هو إلا مرحلة من عملية «إعادة التعيين الكبرى» التى أعلن عنها مؤسس المنتدى الاقتصادى العالمى ورئيسه التنفيذى «كلاوس شواب»، فى يونيو من عام 2020، قائلًا إن كوفيد -19 قدم سببًا عاجلاً للعالم لمتابعة «إعادة ضبط كبيرة» للرأسمالية. والآن يبدو أن المرحلة الثانية من إعادة التعيين الكبرى قد بدأت مع اشتعال الحرب بين موسكو وكييف، والتى تم إشعالها من خلال شبكة مترابطة من أصحاب المصالح العالميين.

 

وتحولت التوترات الجيوسياسية إلى صراع طويل الأمد بين الناتو والمحور الصينى الروسى، قد يؤدى إلى انكماش ثانٍ ومن ثم دفع الاقتصاد إلى الركود التضخمى؛ فهناك اضطراب غير مسبوق فى سلاسل التوريد العالمية، ونقص الوقود ومن ثم ارتفاع أسعار الطاقة والسلع. فقد أدت الحرب إلى الحد بشكل كبير من اعتماد أوروبا على قطاع الطاقة الروسى وعززت مركزية أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة صافى الانبعاثات الصفرية التى هى جزء من خطة شواب؛ حيث أقر الاتحاد الأوروبى مؤخرًا استراتيجية للاستغناء عن الوقود الأحفورى الروسى بحلول عام 2030، مقابل تعزيز كفاءة الطاقة المتجددة.


وحذر الأمين العام للأمم المتحدة، «أنطونيو جوتيريش» الأسبوع الماضى، من «إعصار الجوع وانهيار نظام الغذاء العالمى» فى أعقاب الصراع الدائر فى أوكرانيا. وقال إن أسعار الغذاء والوقود والأسمدة آخذة فى الارتفاع، مع تعطل سلاسل التوريد. كما أن تكاليف وتأخيرات نقل البضائع المستوردة - عند توفرها- وصلت إلى مستويات قياسية». وأضاف أن هذا يصيب من هم الأشد فقراً ويزيد من عدم الاستقرار السياسى والاضطرابات حول العالم. كانت البلدان الفقيرة تكافح بالفعل للتعافى من عمليات الإغلاق؛ وهناك الآن ارتفاع فى معدلات التضخم وأسعار الفائدة وأعباء الديون المتزايدة.

أوكرانيا هى أكبر مصدر لزيت عباد الشمس فى العالم، ورابع أكبر مصدر للذرة وخامس أكبر مصدر للقمح. وتنتج روسيا وأوكرانيا معًا أكثر من نصف إمدادات العالم من زيت عباد الشمس و30% من القمح العالمى. تستورد حوالى 45 دولة أفريقية وأقل نموًا ما لا يقل عن ثلث إنتاجها من القمح من أوكرانيا أو روسيا، حيث تستورد 18 دولة ما لا يقل عن 50% من احتياجاتها. قبل الأزمة الحالية، كانت أسعار الوقود والأسمدة ترتفع؛ كشفت الجائحة والحرب فى أوكرانيا عن أن سلاسل التوريد العالمية الطويلة والاعتماد على الواردات والوقود الأحفورى ما هى إلا عوامل ضعف النظام الغذائى السائد عالميًا وأنه عرضة للصدمات الإقليمية والعالمية.. والآن، بسبب مزيج من انقطاع الإمدادات والعقوبات وتقييد روسيا لصادرات الأسمدة غير العضوية، يواجه النظام الغذائى العالمى مرة أخرى اضطرابًا، ما يؤدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقص محتمل. بصرف النظر عن كونها منتجًا ومصدرًا رئيسيًا للغاز الطبيعى المطلوب لتصنيع بعض الأسمدة، تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط وأكبر مصدر للنفط الخام فى العالم. إن هشاشة النظام الغذائى المعولم المعتمد على النفط باتت واضحة بشكل حاد فى ظل هذه الظروف، عندما تكون إمدادات طاقة الوقود الأحفورى الروسية مهددة.


كما كان للصراع أثر أيضًا على سلاسل توريد الأسمدة العالمية، حيث يتحرك كلا البلدين لتعليق صادراتهما منها، ما يعنى ارتفاع أسعار الأسمدة على المزارعين بشكل كبير ويمكن أن يؤدى إلى زيادة تكاليف الغذاء، التأثيرات على تجارة الأغذية الزراعية وأنظمة السلع فى العالم هائلة المعروفة باسم four F’s؛ الوقود والأعلاف والأسمدة والطعام. وهنا يبدأ صناع القرار فى التفكير لمواجهة مثل هذه الأزمة والتعامل مع الصدمات المستقبلية، فالزراعــــــة أيضًا فــــى حاجــة إلى التغيير.

 

ويشير تقرير على موقع الاتفاقية الزراعية والريفية لعام 2020 (ACR 2020) إلى ضرورة الاستثمار بشكل عاجل فى بنية تحتية محلية وإقليمية جديدة لإنتاج الأغذية ومعالجتها والتى تحول النظام الغذائى الصناعى الزراعى إلى نظام إمداد غذائى لامركزى مرن. ومن المعروف عن الاتفاقية الزراعية والريفية؛ فهى منصة لأصحاب المصالح تضم أكثر من 150 منظمة من منظمات المجتمع المدنى داخل 22 دولة عضوا فى الاتحاد الأوروبى تدفع جميعها من أجل إصلاح السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبى (CAP).


ويعتمد نظام التجارة الغذائية والعالمية بشكل كبير على الأسمدة الاصطناعية والوقود الأحفورى. ومع ذلك، فإن نهج الزراعة الإيكولوجية والمرنة إقليمياً من شأنه أن يؤدى إلى اعتماد أقل على هذه السلع. نهج يعتمد على الاكتفاء الذاتى الغذائى المحلى والإقليمى بدلاً من الاعتماد على الإمدادات المستوردة المكلفة. ويوضح التقرير الذى يعيد تشكيل نظام الأغذية الزراعية الأوروبية وإغلاق دورة النيتروجين الخاصة بها، أنه يمكن تنفيذ نظام غذائى زراعى عضوى فى أوروبا من شأنه أن يعزز استقلالية القارة ويطعم الزيادة السكانية المتوقعة عام 2050 ويسمح للقارة بالاستمرار فى ذلك، مع تصدير الحبوب إلى البلدان التى تحتاجها.


ويقدم تقرير 2021 «حركة غذائية طويلة: تحويل النظم الغذائية بحلول عام 2045» رؤى حول الأزمة، التقرير من إعداد الفريق الدولى للخبراء بشأن نظم الأغذية المستدامة (IPES) والمعتمد من منظمة الأغذية والزراعة «الفاو»، يوضح أن المنظمات المحلية والمنظمات غير الحكومية الدولية ومجموعات المزارعين والصيادين والتعاونيات والنقابات بحاجة إلى التعاون بشكل أوثق لتحويل التدفقات المالية وهياكل الإدارة والنظم الغذائية من الألف إلى الياء. فى أوقات الحرب أو العقوبات أو الكوارث البيئية، غالبًا ما تخضع أنظمة الإنتاج والاستهلاك لتحول جذرى؛ فالوباء والحرب الدائرة تدفع إلى تحويل النظم الغذائية لا مفر.


وتعتبر كل من روسيا وأوكرانيا بمثابة سلة خبز العالم، وسيؤدى النقص الحاد فى الحبوب والأسمدة والزيوت النباتية والمواد الغذائية الأساسية إلى زيادة أهمية التكنولوجيا الحيوية فى تحقيق الأمن الغذائى والاستدامة ويؤدى إلى إنشاء العديد من الشركات صناعة الأغذية البديلة للحوم مثل «Impossible Foods»  التى تأسست عام 2011، فى ولاية «كاليفورنيا»، بتمويل مشترك من قبل الرئيس التنفيذى السابق لشركة مايكروسوفت  «بيل جيتس»، مع الكيميائى «باترك براون». لذلك يمكن توقع المزيد من اللوائح العالمية من قبل الحكومات لإدخال إصلاح جذرى على إنتاج الأغذية الصناعية وزراعتها، مما يفيد فى نهاية المطاف مستثمرى الأعمال التجارية الزراعية والتكنولوجيا الحيوية، حيث سيتم إعادة تصميم النظم الغذائية من خلال التقنيات الناشئة لزراعة البروتينات «المســـتدامــــة» ومحاصيـــل كريســــبر «CRISPR» المعدلة جينيًا. 


فيما كشفت منظمة «Grain» الدولية غير الربحية لدعم صغار المزارعين، مطلع العام الماضى فى تقرير لها عن انضمام أكبر شركات التكنولوجيا ومنصات التوزيع فى العالم Big Tech مثل «مايكروسوفت» و«أمازون» و«ميتا»، و«جوجل»، إلى عمالقة الأعمال التجارية الزراعية التقليدية، مثل «كورتيفا»، و«باير»، و«كارجيل»، و«سينجينتا»، ما يخلق إمكانيات لاستحواذ مؤسسى أكثر عمقًا وكاملة على نظام الغذاء، وفرض نموذجهم للزراعة على العالم، وتقوم مايكروسوفت، على سبيل المثال، ببناء منصة زراعية رقمية تسمى Azure Farm Beats. كما تشارك مؤسسة «بيل وميليندا جيتس» أيضًا سواء من خلال شراء مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية، أو الترويج لـ «ثورة خضراء»، أو دفع تقنيات الهندسة الوراثية والأغذية الاصطناعية أو تسهيل أهداف شركات الأغذية الزراعية الضخمة بشكل عام، مثل الثروة. 

 

 أصبحت الأراضى الزراعية مركزة فى أيدى عدد قليل من الأثرياء سواء عن طريق ملكيتها أو توفير المنح والدعم إلى المناطق المراد الاستثمار فيها، مما أدى إلى دفع أكبر للزراعة الأحادية وتقنيات الزراعة الصناعية الأكثر كثافة لتوليد عوائد أكبر. فى عام 2018، قام جيتس بشراء ما يقرب من 15 ألف فدان من الأراضى الزراعية قبيلة «ياكاما» فى «هورس هيفين هيلز» منطقة زراعة الكروم الأمريكية فى جنوب شرق واشنطن، مقابل 171 مليون دولار. وخلال مطلع العام الماضي، بات عملاق التكنولوجيا ملك الأراضى الزراعية فى الولايات المتحدة بعد أن امتلك حوالى 242 ألف فدان من الأراضى الزراعية وما يقرب من 27 ألف فدان من الأراضى الأخرى فى 19 ولاية، وفقاً لتقرير «الأرض» مجلة مستثمرى الأراضى تتتبع أكبر ملاك الأراضى فى الولايات المتحدة.

وترى المجلة الأمريكية، أن الخطر الأكبر يكمن فى الدور الاحتكارى الذى يلعبه مالكو الأراضى الزراعية الخاصة مثل جيتس، فى تحديد الأنظمة الغذائية وأنماط استخدام الأراضى، وليس دعمهم المعلن للزراعة المستدامة الموجود غالبًا فى العمل الخيرى. ويحاول جيتس إقناع صانعى السياسات بأن رؤيته للعالم هى الرؤية التى يجب اتباعها.

كان آخرها فى رؤيته التى طرحها فى «قمة القادة حول المناخ» الافتراضية للرئيس الأمريكى «جو بايدن»، وفى ظل هذه الخلفية، تقوم مصالح الأعمال التجارية الزراعية والجهات المانحة الخاصة، بما فى ذلك مؤسسة جيتس، بإطلاق ما يصفه النقاد بأنه ألعاب قوى لتعزيز السيطرة على سياسات الزراعة العالمية فى قمة الأمم المتحدة للأنظمة الغذائية لعام 2021. وتشمل هذه مقترحات لتنفيذ إطار جديد لإدارة النظم الغذائية ومركزية الرقابة على مراكز البحوث الزراعية عالميًا. ما يحدث الآن معركة شديدة الخطورة حول الرؤى المختلفة للعلم والمعرفة بالنظم الغذائية التى تبدو أن تكون عليه ومن يجب أن يحكمهم.