من باب العشم| رسالة خاصة من يحيى حقى إلى بدر الدين أبو غازى

من باب العشم | رسالة خاصة من يحيى حقى إلى بدر الدين أبو غازى
من باب العشم | رسالة خاصة من يحيى حقى إلى بدر الدين أبو غازى

كتب : د. عماد أبوغازى

ربطت بدر الدين أبو غازى بيحيى حقى علاقة صداقة امتدت لأكثر من عشرين عامًا، كانت البداية علاقة قارئ متابع ومعجب بأديب مبدع، وأتذكر جيدًا أن كل أعمال يحيى حقى كانت تحتل مكانًا بارزًا فى مكتبة المنزل، وكانت من الكتابات التى يرشحها لنا أبى لنقرأها إلى جانب مسرحيات توفيق الحكيم وروايات نجيب محفوظ. 
 وجاء التعارف الفعلى بينهما فى فترة تولى يحيى حقى لرئاسة مصلحة الفنون (1955-1958)، ثم توطدت العلاقة فى الستينيات عندما رأس يحيى حقى تحرير مجلة المجلة فى منتصف عام 1962، واستمر فيها حتى أواخر عام 1970، فقد أصبح بدر الدين أبو غازى خلال هذه الفترة أحد الكتاب الأساسيين فى المجلة، نشر قرابة 90 مساهمة خلال 9 سنوات كلها باستثناء مساهمتين اثنتين فى فترة رئاسة يحيى حقى للتحرير.


وقد كان يحيى حقى الرئيس الرابع لتحرير المجلة، من بين خمسة رؤساء تحرير فى إصدارها الأول الممتد من عام 1957 إلى عام 1971، وقضى أطول فترة فى رئاسة التحرير وترك بصماته واضحة على المجلة التى ارتبطت باسمه لما أدخله عليها من تطوير، جعلها منبرًا مفتوحًا لكتاب ونقاد ومبدعين ينتمون لأجيال مختلفة، كان بدر الدين أبو غازى واحدًا منهم، وقد ترك يحيى حقى رئاسة تحرير المجلة قبل تعيين بدر الدين أبو غازى وزيرًا للثقافة بأسابيع قليلة.


 وعندما تولى أبو غازى وزارة الثقافة كان من أول من اتصل بهم يحيى حقى لمشاورته والاستنارة بآرائه، لما له من  خبرة فى إدارة العمل الثقافى وللعلاقة التى تربطهما ببعض، وكان الاتصال التليفونى متضمنًا وعدًا بلقاء طويل لحديث لا تتسع له المكالمات التليفونية، لكن اللقاء تأخر لبضع أسابيع بسبب مشاغل المنصب الجديد، الذى جاء فى بداية عهد جديد، وبدأ «أولاد الحلال» يسعون للوقيعة بين الرجلين، ويهمسون فى أذن يحيى حقي، ويقولون له: «إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك».

 


عندها أرسل يحيى حقى خطابًا إلى بدر الدين أبو غازى الصديق قبل الوزير على عنوان منزله، وعندما تلقى أبو غازى الخطاب سارع بالاتصال بيحيى حقى وتم اللقاء بينهما، وأذكر جيدًا مدى تأثر بدر الدين أبو غازى بهذا الخطاب رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على هذا الموضوع. 


 مؤخرًا عثرت على هذا الخطاب الذى كنت أعلم بأمره، لكنى لم أره من قبل أو أطلع على ما جاء فيه، وقد عثرت عليه وأنا أنقب فى أوراق بدر الدين أبو غازى الخاصة.

 

وأعمل على ترتيبها، ونشر ما يجدر نشره منها، وجدت فيه هذا الخطاب خطابًا من صديق إلى صديق، يبثه فيه ما دار بخاطره من هموم بصدق وصراحة تحتملها علاقة الود بينهما، ويعرض فى الخطاب رؤيته ومقترحاته للنهوض بالعمل فى وزارة الثقافة، ويوصيه بالاهتمام ببعض الأمور والعناية ببعض الموهوبين الذين حدد أسماءهم، ويطلب منه أن يكون «الجانب الإنساني» طابع عهده فى الوزارة، وأعتقد أن مقترحات يحيى حقى التى ضمنها خطابًا طال لأكثر من أربع صفحات، تكشف عن رؤيته العميقة للعمل الثقافى وكيفية إداراته، وعن حسه المرهف وروحه الخلاقة المتطلعة إلى النهوض بالإنسان على المستويين الفردى والجماعي، حرصه على الاحتفاء بكبار المبدعين والمفكرين بقدر اهتمامه بالشباب وإتاحة الفرص أمامهم.


 وإلى نص الخطاب: «عزيزى الأستاذ الجليل بدر الدين أبو غازي
 وجدتنى أخيرًا أُدافع الأوهام، أسخفها وأشقها، ولكن لى بعض العذر فى ظنى إذا قلت لك إننى كدت أصدق بعض هذه الأوهام، إن عذبتنى معرفة السبب، بعض الناس من حولى ممن علموا باتصالك المبكر بى – ولا تدرى كم سررت به وشكرتك عليه – بدأوا يقولون: إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك.

 


 وكنت أنتظر لقاءنا بلهفة لأن فى قلبى أشياء كنت أريد أن أقولها لك، أنها تنفذ إلى العمل عن طريق الجانب الإنساني، فأنى أتمنى أن يكون هذا هو طابع عهدك فى الوزارة، من ذلك مثلًا: -


 – البحث عن الكفاءات المنزوية التى لا يسأل عنها أحد. يحضرنى الآن إسمان، الأول جمال حمدان الذى تعرف فضله، إنه منزوٍ لا يسأل عنه أحد، كنت أريد أن أرجوك أن تسأل عنه وتحاول إخراجه من عزلته، الاسم الثانى هو صبرى السربوني، وأنت تعرفه وهو من أصدقاء مختار، أزوره أحيانًا فيحدثنى بمرارة عن العراقيل التى تقام فى وجهه وتؤخر إصداره لمؤلف بالفرنسية عن حضارة العرب فى أفريقيا، كنت أريدك أن تسأل عنه وتقول له: ما هى متاعبك؟ ولعلى أنجح فى العصور على أسماء أخرى أو يدلك عليها غيري.

  – استعادة كفاءات هاجرت، يحضرنى هنا اسم ولى الدين سامح، كنت أريد أن أرجوك لتبعث إليه تسأله هل يعود؟ هل هناك خير منه للإشراف على أفلامنا التسجيلية التى نادى بها أحمد بهجت أخيرًا فى مقاله البديعة عن الفارابي.


 د. مصطفى بدوي، د. أنور لوقا، من أعمدة الأدب والنقد عندنا، هاجر الأول لإنجلترا والثانى لسويسرا، إذا لم نستطع استعادتهما للوطن فعلى الأقل يبلغهما من وزير الثقافة أسف لغيابهما، ورجاء بأن يشاركا بقلمهما فى الحركة الأدبية عندنا، وتقديم مقترحات لك على ضوء خبرتهما فى أوروبا.


 المسألة الثانية، كنت أريد أن أقول لك أيضًا إننى أتمنى أن يتميز عهدك بالاعتناء بالشباب.
ــ السعى للحصول على أكبر قدر من البعثات الدراسية للتخصصات التى تهتم بها وزارة الثقافة، النهضة المسرحية الأخيرة كانت بفضل هذه البعثات.

ــ تحريك تنفيذ الاتفاقات الثقافية مع الدول الصديقة، والانتفاع بكل الفرص وطلب المزيد من الوفودالمسافرة حبذا لو جعلت شرطها أن تضم نسبة محترمة من الشبان يسافرون مع الشيوخ.

 


ــ فى الأقاليم شبان تتحسن أحوالهم إذا وجدوا فى حضن الوزارة فى عهدك عملًا لهم، يحضرنى اسم عفيفى مطر، شاعر يشكو من أنه مرهق بالتدريس فى كفر الشيخ. 


 هل تذكر عبد الحكيم قاسم وكيف تفضلت بخدمته، إنه معدود من النجوم الصاعدة، فى ذهنى اسم كمال حمدي، إنه خميرة طيبة لو سافرت لأوروبا لعاد أستاذًا مرموقًا فى الأدب الكلاسيكي.  لأجل أن تعرف الأمثلة التى أقف عليها لضياع بعض الشبان أرسل لك مقصوصة من خطاب لواحد منهم يقول لى فيها إنه يَقتُل ويُقتل كل يوم، إننا لا نريد تدليع الخائبين والبلطجية، ولكن مساعدة من يستحق المساعدة.


ــ أحلم أنك تفتتح فصولًا حرة فى المعاهد الفنية، إنك تنشئ جامعة شعبية لدراسات عن تاريخ مصر وجغرافيتها وآدابها إلخ إلخ، أن تأمر بترجمة كتاب وصف مصر، ووضع دائرة معارف أن يذكر الناس عهدك بعمل عظيم، أين أفلامنا التسجيلية عن متاحفنا؟  أشياء كثيرة تنتظر التنفيذ على يديك بإذن الله.


وكنت أريد أن أعرض عليك أيضًا رأيًا فى المجلات، فإنى أتصور أن الحل يكون بتحريك النقابات المهنية لأداء واجبها الثقافي، وتعينها وزارة الثقافة بمبلغ محدد، نقابة المهندسين تصدر مجلة العمارة، عيب أن لا يكون فى مصر أم العمارة مجلة للعمارة، نادى السينما يصدر مجلة السينما، وهلم جرا.


 لم يكن لى مطلب لنفسى فأنا والحمد لله فى نعمة كبيرة، ولا أنسى أفضالك السابقة التى أنقذتنى من ورطات كثيرة.
 كتبت لك الآن لأنى أولًا خفت أن هذا الكلام مهما قلت قيمته قد يضيع من رأسي، ولأنى – ثانيًا – أظن أن خطابى هذا قد يأتينى بكلمة منك ولو بالتليفون تبدد أوهامي.

المخلص يحيى حقى
هذا خطاب خاص لذلك أرسلته بعنوان منزلك»
 وبعدها كان اللقاء، وترك بدر الدين أبو غازى الوزارة بعد ستة أشهر إلا أيام من توليه المنصب، واستمرت الصداقة واستمر التواصل إلى أن رحل بدر الدين أبو غازى قبل يحيى حقى بتسع سنوات وشهور.

اقرأ ايضا | د.عماد أبو غازي يكتب : قرأءة في السياسة الثقافية د. جابر عصفور