حديث الاسبوع

نطق ناطق من أهلها

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

وجدت قضية التوزيع العادل للثروة التى تكتنزها الكرة الأرضية نفسها فى صلب الاهتمام العالمي، و فى طليعة انشغالات الأوساط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و الحقوقية المهتمة بها. هذه المرة لم يحصل هذا الاهتمام نتيجة خلاصات تقرير من تقارير المنظمات الدولية والجهوية والإقليمية، ولا من هيئات ومراكز أبحاث متخصصة، و لا من الأمم المتحدة، و لا من أذرعها المالية والاقتصادية التى تبدع فى رصد الحالة باختلالاتها العميقة والمتجذرة، لكنها تعجز عن تقديم وعرض الوصفات العلاجية المناسبة للداء المستفحل المتعلق بالتفاوتات الكبيرة والخطيرة التى تشوه بنية توزيع الثراء العالمي.


و أيضا لم تجد هذه القضية نفسها فى مقدمة الانشغالات لأن تقارير حديثة، وضمنها تقرير حديث للبنك العالمي، يؤكد أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية فى العالم المترتبة عن تداعيات انتشار فيروس كوفيد-19 لا تزال بعيدة عن النهاية، حيث توقعت هذه المؤسسة المالية العالمية استمرار انخفاض معدل النمو العالمى خلال السنة الجارية، وأن جميع دول العالم معنية بهذا الانخفاض.

لكن الآثار المترتبة عن ذلك ستكون أقوى فى الدول التى تسجل سنويا معدلات مرتفعة للدين الخاص والعام، وتلك المعرضة باستمرار لتقلبات أسعار العملات وانخفاض وضعف الحساب الجاري. ومن بينها أيضا تقرير صدر قبل شهور عن صندوق النقد الدولى أشار فيه إلى أن الناتج الداخلى الخام العالمى يمكن أن يفقد، بسبب الأزمة الصحية العالمية الطارئة ولأسباب أخرى، ما قيمته 4500 مليار دولار. ولا أيضا بسبب توقعات الخبراء والمختصين فى عالم الاقتصاد والمال الذين أكدوا فى تقارير متعددة أن الدين العمومى فى العالم ارتفع فى زمن الجائحة اللعينة بنسبة 10 بالمائة ليصل إلى مستوى قياسى ( 64 بالمائة )، مما أفرز وخلف وهنا كبيرا وضعفا شديدا وتراخيا مفرطا فى مواجهة قوة الصدمة الناتجة عن تداعيات الوباء على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كافة، مما تسبب إلى الآن فى ضياع ست سنوات كاملة من التدارك المأمول الهادف إلى التعافى الاقتصادي. وكل هذا وغيره يهدد -برأى هؤلاء الخبراء- بارتفاع معدلات انعدام المساواة بين الدول وداخل كثير من الدول نفسها، خصوصا بالنسبة للدول ذات الدخل المحدود أو حتى المتوسط، وبالنسبة للأشخاص الذين يشتغلون فى القطاعات غير المهيكلة التى لا تتوافر على الشروط والإمكانيات فى حدودها الدنيا لمواجهة الصدمات الطارئة، لأن هشاشتها المفرطة تحول دون ذلك، مما يعنى أن هؤلاء الأشخاص سيجدون أنفسهم، وكثيرا منهم وجد نفسه فعلا، بدون عمل وبالتالى بدون مصدر عيش.


ليس كل هذا ما أعاد الحياة إلى قضية الاستفادة من الثراء الذى سخرته الطبيعة والحياة للبشرية جمعاء، لكن منطق وشروط ومواصفات نظام اقتصادى عالمى مختل فرضت جميعها خريطة معينة فيما يتعلق بالتوزيع و الاستفادة من هذا الثراء. بل الذى كان السبب هذه المرة هم المستفيدون من الثراء أنفسهم، أو لنقل عددا منهم على الأقل.


ففى مبادرة مفاجئة، وجه قبل أيام قليلة من اليوم أكثر من مائة شخص مليونير من مختلف دول المعمور رسالة مفتوحة إلى منتدى دافوس الاقتصادى العالمي، تضمنت نداء للزيادة فى الضرائب التى يدفعونها. وأكدت الرسالة التى وقع عليها 100 مليونير واثنان (أن النظام الضريبى الحالى غير عادل ومصمم بشكلٍ مدروس لجعل الأثرياء أكثر ثراء) و(أنه يجب على العالم، كل بلد على حدة، أن يطالب الأغنياء بدفع نصيبهم العادل).


الواضح أن هؤلاء الأثرياء يرفعون راية التحدى فى وجه المنتقدين لتوزيع الثروة العالمية، وهيمنتهم على الجزء الغالب منها، وقد يكونون يلمحون إلى أنهم بدورهم مجرد ضحايا لأنظمة جبائية مختلة وغير عادلة مما يجعلهم على الدوام عرضة للانتقاد والهجوم. وهم فى هذا الخروج الإعلامى اللافت يردون بشكل مباشر على مضامين دراسة حديثة أنجزت من طرف منظمات غير ربحية خلصت إلى التأكيد على أن فرض ضريبة على ثروات أغنى الأشخاص فى العالم يمكن أن يجمع 2٫52 تريليون دولار سنويا، وهو ما يكفى لضمان تكلفة تلقيح جميع شعوب العالم، وانتشال 2٫3 مليار شخص من الفقر، وتوفير رعاية صحية كاملة وشاملة لنحو 3٫6 مليار شخص فى البلدان منخفضةِ ومتوسطةِ الدخل. كما أنهم يعلنون بذلك مواجهة مكشوفة مع منظمة ( أوكسفام ) الخيرية العالمية التى كشفت فى تقرير حديث لها صدر قبل أيام أن (أغنى عشرة أشخاص فى العالم ضاعفوا ثرواتهم خلال العامين الماضيين المواليين لظهور فيروس كورونا المستجد، لتصل إلى ما قيمته 1٫5 تريليون دولار ، وفى مقابل ذلك ارتفعت معدلات الفقر وعدم المساواة) وهو الإقرار نفسه الذى أكدته رسالة المليونيرات حينما قالوا «يمكن لمعظمنا أن يقول إنه بينما مر العالم بقدر هائل من المعاناة فى العامين الماضيين، شاهدنا أن ثرواتنا تزداد أثناء الوباء، لكن القليل منا يمكن أن يقول بصدق إننا ندفع نصيبا عادلا من الضرائب».


و حينما يختار هؤلاء الأشخاص، من ذوى الثروات المالية والتجارية الهائلة توجيه هذه الرسالة إلى منتدى دافوس الاقتصادى العالمي، فإنهم يضعون منظمى هذا المنتدى، الذى ذاع صيته وانعدمت نتائجه الفعلية على طبيعة النظام الاقتصادى العالمي، فى وضعية لا تخلو من صعوبة. لأن الرسالة تعفى المشاركين فى هذا المنتدى من البحث عن الحلول لتحقيق مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية فى العالم، وتقترح عليهم حلا من الحلول الجذرية، وهم أصحاب الاقتراح، مما يعنى استعدادهم الكامل للتفاعل الإيجابى لتنزيل وتطبيق هذا المقترح العملي.


لذلك فإنه لا جدال فى القول: إن منتدى دافوس الاقتصادى العالمى فى ورطة حقيقية هذه المرة، لأن الأمر يتعلق بامتحان حقيقى لمصداقية وفعالية هذا المنتدى العالمي، وسيتضح ما إذا كان المنتدى خرج إلى الوجود لبحث ودراسة الإشكاليات والقضايا المتعلقة بالاقتصاد العالمى وإيجاد الحلول لها، أم أنه يستعمل حبة من حبات تخفيف أوجاع الرأس؟
نقيب الصحافيين المغاربة