لن ننسي أن في عهد مبارك استأسد الاحتكار، ونهبت الأصول العامة التي نزف في بنائها دم الشعب وعرقه عبر عشرات السنين .. طرحت مصر للبيع بثمن بخس وضمير ميت للطامعين والمغامرين والنصابين بالطبع فإن أحدا لا يدري ما الذي سيكون عليه حكم القاضي الفاضل المستشار محمود كامل الرشيدي في قضية مبارك .. المؤكد أن مرافعة الديب لقيت ترحيبا واسعا بين جماعة » آسفين ياريس»‬، لكننا لسنا بحاجة إلي تدقيق كبير لنكتشف أنها كانت استعراضا مسرحيا بائسا .. يكفي أن نقارن بين مرافعة النيابة التي خصص لها يوم واحد تحدثت فيه بجدية وبسرعة وبدقة وبين العرض الذي قدمه الديب في أربعة أيام خاطب فيها الجمهور العام أكثر مما خاطب المحكمة، وتأوه وتدلل وتحايل وأرغي وأزبد وأفرط في مداعباته السمجة وهو يحاول إنقاذ مبارك من التهم الثلاث التي قدم بها إلي المحاكمة، بل حاول إقناعنا بأن مبارك مثال للوطنية والإخلاص والشرف، وأن ثورة 25 يناير التي قامت ضده وضد نظامه ليست أكثر من مؤامرة صنعتها القوي الأجنبية .. خطورة محاولة التشويش هذه تكمن في أنها تأتي ضمن هجمة واسعة علي ثورة يناير استطاعت أن تمكن أذناب مبارك من التسلل إلي المشهد، بل وتصدره في بعض المجالات، خاصة ونحن علي مشارف انتخابات برلمانية يأمل فيها النظام الساقط أن ننسي جرائمه كي يستعيد نفوذه السياسي من خلال مجلس النواب بعد أن استعاد بعضا من هذا النفوذ خاصة في الإعلام .. لكننا لن ننسي أبدا الأوضاع المزرية التي كانت عليها البلاد في أيام مبارك الأخيرة التي أدت إلي ثورة 25 يناير .. لن ننسي أن مبارك خان الأمانة ولم يحافظ علي النظام الجمهوري .. مضي أشواطاً في توريث الحكم لولده الذي تاجر بديون مصر، وتلاعب بالدستور ليقطع الطريق علي من عداه، ومنحه صلاحيات رئاسية دون سند من قانون، وأجلس إلي جانبه قرينته علي العرش، تأمر وتنهي، فاستـبدت العائـــلة الجاثمة علي أنفاس المصريين بمصائرهم، وأهدرت كرامتهم .. لن ننسي أن مبارك لم يحترم دستوراً أو قانوناً .. الدستور والقوانين في عهده كانت قماشة يفصلها له الترزية كلما شاء وكيفما شاء، لتمكينه مدي الحياة من الكرسي، وتسليم مقدرات البلاد »‬تسليم مفتاح» لعصابته من رجال المال وأغوات القصر، وسد الطرق أمام تداول السلطة، والتزوير الفاضح لإرادة الشعب، وازدراء مطالب التغيير والإصلاح .. لن ننسي أن مبارك انتهك حريات المصريين وقصم ظهورهم بأدوات التسلط والقمع والرقابة وأطلق عليهم كلاب أمن الدولة وجلادي القهر والتعذيب في الشرطة، وفرض قانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن، وسيطر علي الإعلام الرسمي والخاص، وقيد تداول المعلومات، وحبس الصحفيين، وحظر قيام أحزاب جديدة، وضيّق علي الحياة السياسية والنقابية، وخنق أنشطة المجتمع المدني، واعتقل المعارضين دون مسوغ قانوني، واعتدي علي الحرمات الخاصة بالتنصت والدس وتلفيق التهم .. لن ننسي أن مبارك لم يرع مصالح الشعب .. في عهده، احتُكرت الثروة كما احتكرت السلطة، تسيّد علي الأرض وما عليها نادي العائلات المغلق الذي يدير أباطرته الوزارات ويرسمون السياسات ويسنون القوانين، هم الذين يستوردون، وهم الذين يصدرون، وهم الذين يسمسرون .. في أيامه، زاد الأغنياء غني وانزلق الفقراء إلي القاع .. اختطفت قلة قليلة موارد البلد، وهبرت المال وهربت ما فاض منه إلي الخارج، في حين عاش أكثر من ثلث المصريين تحت خط الفقر، ملايين منهم مدفونون في العشوائيات أو بين المقابر، لا يكادون يجدون ما يسد الرمق، يحتشدون قطعاناً لتلقف شنط رمضان، يقفون كأشباح موتي في طوابير الخبز واللحم والسكر والبضاعة البائرة، يفرمهم صعود الأسعار وتدني الأجور وضياع الحلم .. لن ننسي أن في عهد مبارك استأسد الاحتكار، ونهبت الأصول العامة التي نزف في بنائها دم الشعب وعرقه عبر عشرات السنين .. طرحت مصر للبيع بثمن بخس وضمير ميت للطامعين والمغامرين والنصابين، وسلمت مصانعها، عرضها وقوت عيالها ومصدر منعتها للأفاكين الأجانب ( شركة الورق راكتا وطنطا للكتان والنيل للحليج وغزل شبين الكوم وعمر أفندي وغيرها )، وشرد العمال وخردت الآلات ووزعت أراضي الدولة هبات علي أهل الحظوة، وشاعت الرشوة والبرطلة بالأمر المباشر، واستشري الفساد في مفاصل الدولة حتي بلغ الحلقوم ووصل إلي الرقاب لا الركب ( ألف موظف في الدولة يتقاضي الواحد منهم مليون جنيه شهريا – رئيس الوزراء عاطف عبيد يعين بعد إقالته رئيسا لبنك وهو عضو بالشوري – 12 نائبا في مجلس الشعب يعينون في مناصب حكومية بالمخالفة للقانون ).. لن ننسي أن في عهد مبارك شرب الشعب الماء مختلطاً بالصرف الصحي، ورويت الزراعات بالمجاري، وتلوثت مياه النيل، مصدر حياة المصريين ورزقهم، إهمالاً وعمداً .. في عهده انهارت خدمات الصحة، واجتاحت البلاد أمراض الكلي والكبد والسكر والسرطان ( 70 الف حالة سرطان و40 ألف حالة فيروسات بالكبد كانت تتعرض للموت كل عام )، وطُرح مشروع للتأمين الصحي لا يفي بأمان، واختطفت عصبة متنفذة ميزانيات العلاج علي نفقة الدولة ( أحد النواب حصل علي 250 مليون جنيه من هذه الميزانية في 4 سنوات ).. في عهده، شهدنا أمل الشباب في المستقبل ينعدم، فلا سكن ولا فرصة عمل، حتي طالت العنوسة 13٪ من فتيات مصر و24٪ من فتيانها الذين في سن الزواج، وقُضي مئات من اليائسين في قوارب الهجرة الغارقة، وبلغ عدد العاطلين 2 مليون و375 ألفا في 2009 .. لن ننسي أن في عهد مبارك لم يكن هناك تعليم ولا تربية .. كان بيننا 22 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون، ومن أبنائنا 27٪ يتسربون من التعليم، وجامعاتنا تراجعت مكانتها حتي غابت عن قوائم التميز في العالم .. في عهده، عاني الفلاح، الذي تغني به الحزب الوطني، من ديون بنك التسليف، ومن ندرة البذور، ومن غلو سعر الأسمدة، ومن المبيدات المسرطنة وتراجع إنتاج المحاصيل الرئيسية، وأصبح غذاء الناس تحت رحمة الأجنبي .. وفي عهده أيضاً، تمزقت اللحمة الوطنية، وشاعت الفتن الطائفية، وسيطر السفه والإسفاف علي الإبداع، وانحطت الأخلاق العامة، وازدادت معدلات العنف والجريمة والبلطجة والاغتصاب .. لن ننسي أن في عهد مبارك تتالت أزمات المعيشة، وتتالي الفشل في إدارتها، من فشل في إدارة مباريات كرة، إلي فشل في رفع القمامة، إلي فشل في معالجة التلوث، إلي فشل في تفادي حوادث العبارات والطرق، إلي فشل في أزمة العشوائيات، وفشل في أزمة البنزين والخبز والبوتاجاز ( كانت الأنبوبة تباع بـ 40 إلي 50 جنيها ) وغيرها .. لن ننسي أن مبارك خان الأمانة ولم يحافظ علي استقلال الوطن .. انصاع مبارك للولايات المتحدة وامتثل لإرادتها في كل ما يتعلق بمصالحها في المنطقة .. تواطأ معها في غزو العراق، وقدم لها سجونه كمراكز للاستجواب والتعذيب، ومكنها من أن تكون المورد الوحيد للسلاح .. حالف مبارك إسرائيل حتي أصبح كنزها الاستراتيجي، وأتاح لها سلب الغاز المصري، وضيع مكانة مصر بين الأمم خاصة في إفريقيا، وفرط في مصالح المصريين وامتهن كرامتهم في الخارج بعد امتهانها في الداخل .. سواء كان الحكم في قضية مبارك الآن بالبراءة أو بالإدانة .. سواء رأي الناس في الديب الأراجوز أو البطل، فالمؤكد أن الشعب لن ينسي جرائم مبارك، ولن ينسي لماذا ثرنا في 25 يناير ..