«أمير الرومانسية» إحسان عبد القدوس.. رحل في يناير عن عمر يناهز 71 عاما

تمثال إحسان الذى صنعه له النحات فتحى محمود عقب خروجه من المعتقل
تمثال إحسان الذى صنعه له النحات فتحى محمود عقب خروجه من المعتقل

تعود الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس على الاحتفال بعيد ميلاده فى اليوم الذى ولد فيه فى الأول من يناير من كل عام، ويقول نجله الزميل الصحفى محمد عبد القدوس إن والده الذى كان يحمل لقب «سانو» الذى عرف به بين أسرته وأصدقائه من الصحفيين والفنانين القريبين جدا منه يجمع بين الاحتفال بليلة رأس السنة والاحتفال بعيد ميلاه معا

 وكان الاحتفال بعيد ميلاده يشع بهجة، وتعودت الأسرة أن تحيى الاحتفال بعيد ميلاده الذى تلاه القدر برحيل إحسان عبد القدوس فى 11 يناير من نفس الشهر الذى ولد به بفارق 10 أيام بين الميلاد والرحيل عن عمر يناهز 71 عاما قدم خلالها عشرات الروايات التى عاشت عليها السينما ومئات المقالات التى سببت له الكثير من المشاكل وأدت إلى اعتقاله ودخوله السجن بقرار من صديقه جمال عبد الناصر، وقد كتب إحسان عبد القدوس مقالا عن يوم ميلاده قال فيه: «أول يناير قبل سنوات..

اقرأ أيضاً

 13 كتابًا ومئات المقالات تكتب الحياة لـ«عندليب الصحافة»

فى مثل هذا اليوم وفى منتصف الليل تماما وبينما كان التاريخ يقلب صفحات الزمن من عام إلى عام، والعالم يرقص ويتبادل الأنخاب والقبلات تحية لعام 1920، وكان المصريون فى ثورتهم يحصدهم رصاص الإنجليز ليخمد فى حناجرهم صوت الحرية والاستقلال. دوت «واء.. واء» فى أذن الوجود تبشر بمولدى السعيد!!

واستمرت حياتى إلى اليوم، بصورة من ليلة مولدی: رقص ودموع، ودم وقبلات ولكمات وضحكات وعرق، وظلمات تبددها الأنوار.. ولا أذكر فى حياتى أنى ربحت ربحا سهلا أو حققت أمنية بمجرد أن طلبتها من الله، أو خطوت خطوة اعتمدت فيها على الحظ وحده.. فقد كتبت أول قصة فى حياتى عندما كنت فى العاشرة من عمرى، وكانت تمثيلية أردت من أطفال الحى أن يقوموا بتمثيلها، ولكن أحد أقربائى كان يقوم بالإشراف على حياتى المدرسية لمح القصة فى يدى فضربنى ضربا مازالت آثاره فوق جسدى، ومزق القصة، فحاولت الانتحار ثم فضلت عنه أن أهرب من المنزل، وقد هربت ليلتها وأعدت كتابة القصة على ضوء مصباح الشارع وقمنا بتمثيلها فى اليوم التالى.. وكتبت أول خبر صحفى عندما كنت فى السنة الرابعة الابتدائية بمدرسة «خليل أغا» الملكية، وكان خبرا عن نجل المغفور له زكى الإبراشى باشا وكان طالبا معى فى نفس المدرسة، وقدمت الخبر إلى مصطفى أمين الذى كان يتولى تحرير باب الطلبة فى «روزاليوسف» فهنأنى عليه ثم مزقه، وأعاد كتابته وعرضه على الأستاذ محمد التابعى فهنأه عليه ثم مزقه وكتبه من جديد!!

وعلم ناظر المدرسة أنى أنا الذى أوصل الخبر إلى الجريدة، فنادانى وضربنى «قفا» ثم صادرنى من المدرسة لأنه لم يستطع أن يصادر المجلة.. ورفت منها، وعندما كنت فى الرابعة عشرة من عمرى أردت أن أسافر إلى الإسكندرية فى الصيف فمنعنى والدى ومنع عنى النقود وكانت لى «حصالة» صغيرة كنت أحتفظ بها للأيام السوداء بتحويش العمر كله..

واعتقدت أن أيام الصيف فى القاهرة هى الأيام السوداء فحطمت الحصالة وكان بها خمسة جنيهات أخذتها وهربت إلى الإسكندرية، وقضيت هناك ثلاثة وثلاثين يوما كنت خلالها أطهى طعامى بنفسى وأغسل ثيابى بيدى، وأكنس وأمسح الكابينة الصغيرة التى كنت أقيم فيه.. وكتب عنى يومها الأستاذ فكرى أباظة فى «المصور» مشيدا باعتماد الشباب على نفسه، وقد اعتبرت نفسى يومها عظيما من العظماء الذين تكتب عنهم الصحف، رغم أنه كان يسرنى أن أعتمد على والدى لا على نفسى فى التصييف !!

وكتبت أول قطعة أدبية نشرت لى فى «روزاليوسف» اليومية عام ١٩٣٥ وكانت من الشعر المنثور وعنوانها «أخيرا وجدها»، وقد أرسلتها إلى الجريدة بالبريد وبلا إمضاء، فنشرت فى الصفحة الأدبية، وذهبت بعدها إلى والدتى السيدة «روزاليوسف» لأكشف لها عن شخصية الكاتب العظيم صاحب هذه القطعة الأدبية الخالدة ولكنها ما كادت تعلم أن هذا الكاتب العظيم هو أنا حتى ثارت فى وجهى وحرمتنى من المصروف، فقد كان موضوع القصة الأدبية يدور حول فتاة وخمر، وكانت والدتى تظن حتى ذلك الحين أنى أجهل ما هى الفتاة وما هى الخمر!! وعندما نلت ليسانس الحقوق رفضت وظيفة سكرتير عرضها علىّ المرحوم أمين عثمان باشا ورفضت أن ألتحق بعدة شركات وقررت أن أشتغل بالصحافة مدة خمس سنوات فإن لم أنجح فقد بقى لى من عمرى ما يكفى لأن أتجه اتجاها آخر..

وقد بدت جميع المقدمات تبشر بفشلى فى الصحافة.. فقد طردت من «روزاليوسف» للآراء التى لم يوافق عليها رئيس التحرير فى ذلك الوقت، ورفضت الاشتغال فى مجلة «الإثنين» لأن رئيس تحريرها مصطفى أمين رفض أن أوقع باسمى مقالا كتبته ونشره، ثم عملت فى «آخر ساعة» وارتقيت فيها إلى حد كان الأستاذ محمد التابعى يعهد إلىّ بالإشراف على تحريرها أثناء غيابه فى رأس البر، ورغم ذلك لم يكن لى حق الإمضاء إلا بالحرف الأول من اسمى «إ»، ثم أصبح إمضائى مقصورا على اسمى دون لقبى فكنت أوقع « إحسان»، وكان أغلب القراء يعتقدون أن الكاتب «فتاة»!!

وتركت «آخر ساعة» لأبحث عن جريدة ترضى أن أوقع اسمى كاملا، ولكنى لم أجد.. وكنت قد تزوجت، وكانت عائلة زوجتى تستنكف أن أكون صحفيا حتى أنهم كتبوا فى بطاقة الدعوة إلى عقد القران أنى «محامى» لا «صحفى»، وكانوا يلحون علىّ أن أهجر الصحافة لأشتغل بالمحاماة ولكنى رفضت أن أهجرها قبل مضى الخمس سنوات التى حددتها للتجربة، ووافقتنى زوجتى على رأيى فكان أن قضيت ثلاثة أشهر عاطلا لم يزد دخلى خلالها عن ستة جنيهات فى الشهر، وكنت كلما عرضت على جريدة أن أعمل بها اشترط أن أضع اسمی كاملا متى أردت وفى أى صفحة أردت فكان رؤساء التحرير يرفضون، وفى الشهر الثالث فكرت فى أن أكتب قصصا للسينما، فكتبت ثلاث قصص فى يوم واحد اشترتها منى السيدة عزيزة أمير بمبلغ ٢٤٠ جنيها، وعندما أمسكت بالشيك فى يدى لم أستطع أن أقول لصاحبته شكرا بل أخذت أجرى إلى بيتى وما كدت أدخل إليه حتى وضعت رأسى فى الأرض وضربت «بلانس»، وكان أول وآخر بلانس فى حياتى..

ووضعت الشيك فى يد زوجتى فبكت.. وعدت إلى «روزاليوسف» وقد أصبح لى حق الإمضاء، ولكنى طالبت بأن أكون رئيسا للتحرير، فرفضت والدتى واستمرت فى رفضها إلى أن بدأت حملتى على اللورد «كيلرن» ودخلت السجن، وعندما خرجت كافأتنى بأن عهدت إلىّ برئاسة التحرير وعندما خرج اللورد «كیلرن» من مصر كافأتنى بمائة جنيه. وبقى حساب السير «هدلستون» حاكم السودان، تلك كانت بعض قبلات الزمن وصفعاته، ودموعى وبسماتى.

وفى مقال آخر ينوه إحسان عبد القدوس إلى مفهوم الموت فيقول: «إن التوقف عن السير هو الموت.. أما الحياة فهى خطوات، ليس فى الحياة مكان للجلوس.. ليس لها قمة تجلس عليها.. إن القمة وراء الحياة، والمحاسب المدقق هو الذى يراجع حسابه مرة واثنتين وثلاث مرات.. وفى كل مرة قد يكتشف خطأ فى الحساب وقد اكتشفت أنى ظلمت نفسى فى المحاسبة الأولى، وإنى لست ضعيفا.. ولست سيئ الحظ، ولست فاشلا وقد صنعت بحياتى ما قدمته للناس ولنفسى وهذه الليالى الطويلة التى قضيتها فى مكتب لم تضع عبثا فقد ساهمت فى إسعاد الناس وإسعاد نفسى، وعندما أحببت نفسى أحببت الحياة، أحببت مبادئى وأحببت الحب، والذين يؤمنون بالحب يؤمنون بالحياة ويؤمنون بأنفسهم، والذين يدعون للحب يوفرون على الناس وأنفسهم عذاب الحقد والكراهية، والذين يدعون للسلام يوفرون على أنفسهم عذاب الحرب.

«الأخبار» تضىء لإحسان عبد القدوس الشمعة 103 لأنه من مواليد 1 يناير 1919، ونحيى ذكرى رحيله الثانية والثلاثين التى ستحل علينا فى الحادى عشر من يناير الجارى.. رحمه الله.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي