إنها مصر

عمالقة الفن الجميل

كرم جبر
كرم جبر

والتهبت أيدى الحاضرين بالتصفيق الحاد، وعلى رأسهم الرئيس جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وهم يطلبون من الموسيقار الكبير إعادة كوبليه "صبحنى فى هم وويل من طول ما بفكر فيه، نسانى أيام الليل خلانى أبات أناجيه".


كان ذلك فى ديسمبر عام 1954 فى حفل نادى الفرسان، وأتمنى أن يأتى يوم يستعيد فيه الغناء المصرى عافيته، ويظهر فنانون كبار مثل الذين أناروا سماء المنطقة كلها بالفن الجميل.


عبد الوهاب هو الذى غنى لمصر قبل الملك فاروق "حب الوطن فرض عليا" فى وقت كانت البلاد تحلم بالحرية والاستقلال، ووصل الإبداع غايته فى مقطع فى النشيد يقول فيه "ليه بس ناح البلبل ليه، فكرنى بالوطن الغالي".


والبلبل هو أجمل مخلوقات الله وأحلاها صوتاً، وعندما يذكرنا بالوطن، فهو اختيار للهدوء والجمال، وليس الصخب والضجيج والصوت العالي، وقارنوا بين "نواح البلبل" و"صليل الصوارى".


عبد الوهاب الذى كان مطرباً للملك فاروق، هو نفسه الذى أرَّخ بطولات الثورة فى ألحانه وأغانيه، ولم يعادِهِ عبد الناصر أو يعزلْه باعتباره من العهد البائد؛ لأنه كان يدرك أن الفنانين العظام ملك لمصر قبل أى شيء آخر.


عبد الوهاب ابن باب الشعرية قدم لمصر ألحاناً ثورية هائلة، مثل "صوت الجماهير" و"الوطن الأكبر" و"يا نسمة الحرية" و" ليالى الشرق" و"بطل الثورة".. "يا نسمة الحرية يا اللى مليتى حياتنا، يا فرحة رايحة وجاية"، وكانت مصر تغنى كلها.


أتمنى أن يأتى يوم يعود فيه الفن المصرى محلقاً فى سماء المنطقة، برعاية الدولة الوحيدة القادرة على تقديم الدعم والمساندة لاكتشاف المواهب الجديدة، ودفعها لمقدمة الصفوف.


أما عبد الوهاب وأم كلثوم، فهما حكاية ينبغى إعادة تذكير الأجيال الجديدة بها، فقد كان لقاؤهما قمة العملاقين أو لقاء السحاب. كانت بينهما حرب ومنافسة، من أجل اعتلاء قمة الغناء، وأنتج الصراع إبداعاً وألحاناً تنساب فى وجدان الوطن، وتنشر روحاً من الجمال والروعة والعشق بين المصريين..

ولأن الفن فى ذلك الوقت كان وساماً للشرف والفخر، فقد حاول طلعت حرب باشا مؤسس بنك مصر أن يجمعهما فى عمل فني، بين "بلبل الشرق" و"كروان الشرق".


ولكن الرئيس جمال عبد الناصر حقق المستحيل، أولاً بحضوره حفلات الاثنين ليؤكد أنه على مسافة واحدة منهما، ثم التقى بهما معبراً عن رغبة مصر فى لقاء السحاب، وكانت المفاجأة عندما قال عبد الوهاب "لا مانع" ورحبت أم كلثوم، لأن الحرب لم تكن تكسير عظام، وإنما: الإبداع.


وكانت "انت عمري"، واختارا الكلمات للشاعر أحمد شفيق كامل، حتى جاء اليوم المنتظر فى سينما قصر النيل، ووقف عبد الوهاب خلف الستار، وكأنه تلميذ فى امتحان صعب، وعندما ضجت القاعة بالتصفيق والآهات هدأ الموسيقار العظيم وذهب إلى منزله. هذه هى مصر العظيمة بفنها وفنانيها، كانوا جزءًا لا ينفصل عن جسد الوطن، بأخلاقه وطموحه وكفاحه الطويل.