إبراهيم عبد الفتاح: جيل الرواد فـخٌّ لأى شاعر عامية

إبراهيم عبد الفتاح
إبراهيم عبد الفتاح

قبل سنوات، كان إبراهيم عبد الفتاح يقرأ رواية «اعترافات قناع» ليوكيو ميشيما، وحدث له ما يشبه الإفاقة، ليس لأن حياته تشبه حياة ميشيما، ولكن لأن الرواية قدمت مفاتيح يستحيل من دونها فهم ما بدواخلنا، يقول: «وجدت عوالم تنفتح أمامي للمرة الأولى، وتذكرت أشياء كنت أظنها حدثت لشخص غيري، وبدأت أفهم أخيرًا لماذا أكره التدوين».
لإبراهيم عبد الفتاح أخ يكبره بعامين، أخ ميت فى الواقع، حي في الذاكرة، وكان -مثل أي أحد- يبحث عن معنى لوجوده، وعن كيفية للتحقق. وفي مرحلة ما، رأى أخاه أن خلاصه الوحيد في أن تكون له سطوة، فكان أسهل طريق أمامه، في حي شعبي لا يعرف سوى لغة العنف، هو أن يصير فتوة. وترتب على ذلك، أنه أهمل دراسته، فسبقه إبراهيم، الذي عرف مبكرًا لغة الشعر.

الاختلاف الواضح بينهما، لم يمنعهما من العيش تحت سقف واحد، لكن حين انهار هذا السقف، بوفاة الأب، المحب للفن، والذى كان يميل بطبيعة الحال لابنه الشاعر، بدأت الأزمة الحقيقية، إذ اكتشف إبراهيم أن أخيه يغار منه، فكان -وهذا أبسط مثال - يرتدي ملابسه وينام بها، فلا يجد إبراهيم وهو ذاهب لعمله شيئًا ليرتديه، إلى أن وقعت الواقعة الكبرى، ففي يوم وجد إبراهيم اسكتشات الرسم ودفاتره التى يدون فيها أشعاره ومسرحياته وأغانيه، ممزقة.
يحكي: «لم أكن معنيًا حينها بالأسباب التي دفعت أخي لفعل ذلك، وسيطر عليّ شعور بالضياع، وبفقدان الذاكرة، فقررت أن أترك البيت، وألا أدون أي قصيدة أو أغنية إلا بعد اكتمالها بداخلي، وبعد أن أكون قد حفظتها تمامًا».

كان إبراهيم عبد الفتاح وقتها يبلغ من العمر ٢٤ عامًا، وكان يعاني من آلام الروماتويد، فأخذ يجر قدميه بصعوبة، وهو لا يعرف إلى أين يذهب، فلا مال معه، ولا رغبة فى أن يكون عبئًا على معارفه، حتى وصل إلى شارع محمد علي، حيث مقهى التجارة، الذى يتجمع فيه الموسيقيون وفرق الصف العاشر، فسمع أحدهم ينادي عليه، ويسأله إذا كان بإمكانه أن يكتب لهم أغنية شعبية. نظر إبراهيم إلى عربة الكبدة الواقفة بجوار المقهي، وطلب منه أن يشترى له رغيفًا ويحضر له كوبًا من الشاي، وجلس يكتب.
يواصل: «فى حياتي كلها، لم أكتب سوى أغنية شعبية واحدة، ولولا حاجتي للمال، ما كنت لأفعل ذلك أبدًا».

فى هذه الليلة، تعلم إبراهيم عبد الفتاح ألا يكون أسيرًا لشخص أو مكان أو نوع فني، فكانت حقيبته جاهزة على الدوام، لأنه قد يطرأ على باله فجأة أن يأخذ أى قطار وينزل فى أي مدينة ليتعرف على ثقافات ولهجات أهلها، ومن ثم يُغني روحه، وقاموسه اللغوي، ورغم أنه كان يرفض السفر للخارج، إلا أنه فى عام ٢٠١٣، تملّكه الإحباط بعد أن خسر كل شيء على المستويين الشخصي والمهني، فقرر أن يغادر مصر ويتنقل بين بلدان مختلفة، ليكتشف أنه مهما تقدم به العمر بإمكانه دومًا البدء من جديد.
«سأحسن التصرف في المرة القادمة
وسيكون بوسعي التورط في الحياة بنصف روح
والوقوع في الحب بنصف قلب
وفي الثورة القادمة
سأخرج عليهم برئة انتهت صلاحيتها
لتليق بقنابلهم الفاسدة»
وحين عاد لمصر، عادت معه كل المشاعر الإيجابية، فالذى يولد في منطقة تتجاور فيها الحياة والموت، يعتاد -بسهولة- تجاور المشاعر، وتجاور الفنون المحتشدة داخله.
في هذا الحوار، نتوقف عند محطات من مشوار إبراهيم عبد الفتاح، الذي يأبي أن يُسجن فى توصيف بعينه.

لا يصح أن يتحرك شاعر فى نفس عالم شاعرٍ آخر ويستخدم نفس قاموسه ومنطقه في الصورة الشعرية وتركيب الجملة ونسَقِها

 تهميش العامية موجود طوال الوقت وليس مرتبطًا بجيل معين، وإلا لرأينا واحدًا كالأبنودي يحصد جائزة في الشعر

 ليس لديّ الثقة الكافية التي تجعلني أؤدي قصائدي بطريقة مسرحية، أنا أقرأ الشعر بذات الطريقة التي أتكلم بها

مجدي الجابري يعد المغامر الأكبر، لأنه أول من آمن بقصيدة النثر في العامية

جيل الوسط تخلّى عن مشروعه، لهذا أحمله المسئولية الكاملة عما وصلت إليه الأغنية المصرية

أحب قصائد البدايات، لأنها خارجة من منطقة ولع كامل بالشعر، وليس من منطقة تأثر أو توجيه

المطربون يريدون من الشاعر أن يصير ترزيًّا.. للأسف لدينا أصوات كبيرة لكن بلا رؤوس

المهرجانات فن هؤلاء الناس، وهذه طريقتهم فى التعبير، والانتقام، لأنهم ظلوا لسنوات طويلة مهمشين وخارج المعادلة الفنية

إسراء النمر وإبراهيم عبد الفتاح

أثناء أحد العروض المسرحية

- قد لا يصدق أحدٌ، حين يسمع اسمك، للوهلة الأولى، أنك لا تملك سوي خمسة دواوين (ثلاثة في العامية واثنين في الفصحى)، هل الغزارة ليست معيارًا لنجاح الشاعر، أو بمعني آخر، هل الدواوين الخمسة هذه كانت كافية لأن تكون واحدًا من الشعراء البارزين؟
لا أعرف إذا كنت حقًا شاعرًا ناجحًا، أو بارزًا، كما تقولين، لكنني أعرف أنني حددت موقفي مبكرًا من الإنتاج والنشر، فكنت أتوقف كثيرًا لأرى أين أقف، وأين يقف الآخرون ممن أحب شعرهم، لأنني أعتقد أن هناك من يستنفد مرحلة فنية كاملة في قصيدة، وهناك من يستنفدها في ديوانين أو أكثر، لهذا لا نستطيع أن نحكم على الشاعر من إنتاجه القليل أو الغزير.

بالنسبة لي، خاصة وأنني بدأت كشاعر عامية، اخترت ألا أكون واقفًا في الطابور، وألا أوقّع كل يوم في دفتر حضور وانصراف الشاعر، لأنني مهتم أكثر بأن أقدم جديدًا، وأن أتجاوز كل ما كتبته، فقد واجهت في مراحل مختلفة من يريدون حصري في منطقة بعينها، وكان يدفعني ذلك للتوقف، خاصة التوقف عن النشر، لأن الكاتب مثل الرسام، إذا لم يمرّن يده باستمرار، ستثقل، وسيواجه مشكلة في كل مرة يريد فيها كتابة ما يطمح إليه، وأتصور أن كثيرًا ممن لديهم إنتاج غزير أو فائض عن الحد هم الذين ينشرون الكتابات التي تنتج عن التمرن، أما فيما يخص النشر بوجه عام، فالنشر في مصر سواء الحكومي أو الخاص لا يحترم الشعر ويتعامل معه كنشاط مجاور وهامشي، ففي ديواني الأول الذي كان بعنوان «الحصي والدواير» والذي لم يطبع حتى الآن، طلب مني الناشر مبلغًا، فرفضت، ولم يكن هناك سوى النشر بالهيئة العامة للكتاب، لكنني أيضاً لم أستطع، لسببين، أولهما أنني كنت في خصومة فنية مع اللجنة المشرفة على شعر العامية، وثانيهما أنني لا أريد النشر أو الكتابة بشروط المؤسسة، ونسيت الأمر حتى صرت في الثلاثين من عمري، وفي يوم اقترحت عليّ إحدي زميلاتي في مجلة «سيداتي سادتي» التي كنت أعمل بها، أن أعكف جدّيًا على ديواني الأول وأنها ستتولي مهمة نشره في الدار التي تعكف على تأسيسها، وبالفعل صدر ديواني «شباك قديم» عن دار نوارة، التي لم تستمر طويلًا.. ولم تتكرر هذه التجربة المريحة ثانية، حتى ديواني «صورة جماعية للوحدة» المطبوع في بيروت، واجه مشاكل جمة، في التحرير والطباعة والتوزيع، رغم أن الدار التي نشرته تدّعي دائمًا أنها تهتم بالشعر، للأسف ليس هناك أيضًا في البلاد العربية من يحترم الشعر.

- أفهم من ذلك أنك اخترت أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك أو تويتر نافذتك الوحيدة لنشر قصائدك، أم أن هناك سببًا آخر؟ وألم تخشَ من الإساءات التي تلاحق القصيدة المنشورة علي هذه المواقع ووصفها مثلًا بالقصيدة الفيسبوكية كدلالة علي الخفة والاستسهال؟
أتعامل مع مواقع التواصل علي أنها كتابي أو ديواني، ولا يعنيني من يُقيّمني أو يقيّم غيري، ولا أسعي للصعود على المسرح خاصة وقت اشتعال الأزمات لأنه ليس ضروريًا أن يكون لي رأي في كل ما يحدث، وما دامت لديّ مشكلة مع النشر ستظل هذه المواقع مكاني، فمن خلالها يستطيع أي شخص الوصول لي بسهولة، وأستطيع أيضًا أن أصل لأصوات جديدة في شتي المجالات، ومن مختلف البلدان، أما بالنسبة للشعر فقد ساعدت هذه المواقع في أن يكون مقروءًا، وأن يكون الاختيار الأقرب لمن يريد الكتابة. قد يري البعض هذا سلبيًا أو يضر الشعر، لأننا نجد من يكتب خواطر أو «بوستات» أو كلامًا عاديًا ويطلق على نفسه الشاعر الكبير، هذه الجرأة في رأيي قرَّبَت الناس من الشعر، وخاصة قصيدة النثر، ومع الوقت سيتحول هؤلاء إلى قراء وسيكون مكسبًا كبيرًا لنا.

- في المقابل، هناك من يتعامل مع الشعر المنشور علي الفيسبوك علي  أنه خواطر أو كلام عادي..
صحيح، لكنني لا أرى -أيضًا- ذلك سلبيًا، لأنه مع الوقت سيكتشف أن ما يقرأه شعرًا. دعينا نتفق أن الشعر كفن نخبوي، وأن الناس لا يتعاطون معه بصورة يومية، وأن السائد والشائع لديهم أن الشاعر عليه أن يقدم ما يرضيهم. إنهم ما يزالون مصدومين من افتقاد قصيدة النثر لعنصر واحد، وهو الموسيقى. بعض الشعراء لديهم الشعور ذاته، رغم أن النثر قادر علي إنتاج شاعرية تفوق ما هو متوقع. أنا أعذر الناس لأن التأثير الشفاهي للشعر بشكل عام، والعامية بشكل خاص، رسَّخَ بداخلهم فكرة الشاعر الخطيب والمؤدي، مثل محمود درويش وأحمد فؤاد نجم، حتي صاروا يرون أي شاعر عكس ذلك متمردًا، أو خائنًا للشعر.

- قبل أن نتحدث عن قصيدة النثر، وتحولك لها، لماذا كان شعر العامية اختيارك الأول؟
كان أبي -بشكل عام- يشجعني على كتابة الشعر، وكان يقول لي: لا ترتكب خطئي وتتزوج مبكرًا، لأنه بعد زواجه وإنجابه لنا، نحن الخمسة، لم يعد يجد وقتًا لكتابة الشعر، إلى جانب صعوبة المعيشة، التي ألزمته بالعمل لساعات أطول. وبالفعل تفرغت لكتابة الشعر منذ كان عمري ١٥ عامًا، وصرت مسلوبًا لصالحه تمامًا؛ آكل وأنام وأفعل الأشياء كلها بمنطق أنها ستؤدي إليه، وكنت لا أسمح لشيء أن يبعدني أو يعطلني عنه، فبمجرد دخولي للقصيدة، أنفرد بنفسي، وكثيرًا ما حدث هذا الدخول وأنا مع صديق أو حبيبة، فأقف فجأةً كأن حية لدغتني، وأنصرف.

وجعلني هذا بالطبع أخسر علاقات كثيرة. اختيار الكتابة عامةً، وبالتحديد الشعر، يدل على أنك شخص رومانسي وخاسر بمفهوم الآخرين والحياة الاجتماعية، حتى في محيط عائلتك لا يعترفون باختيارك، إلا حين يرون لك قصيدة منشورة أو حوارًا أو جائزة، عدا ذلك أنت مسكين وعاطل. وكانوا علي أيامنا يرددون مقولة «فلان كان بعقله حتي أدركه الشعر».

أما لماذا شعر العامية، فيجب أن أعود بذاكرتي العطبة لأكثر من أربعين عامًا، لأن تجاربي الأولى كانت في كتابة الشعر العمودي، فقد كنت متأثرًا بالتجارب الشعرية القديمة التي قرأتها مبكرًا، إذ كان لوالدي مكتبة ضخمة بها كل الكلاسكيات والدواوين غير المشهورة، ولم أكن -بالمناسبة- قد قرأت في شعر العامية سوي أعمال بيرم التونسي، وفي يوم قررت أن أتقدم بإحدي قصائدي العمودية لمسابقة في قصر ثقافة الغوري، وكنت لم أتجاوز العشرين عامًا، وفزت بالمركز الثاني، فحزنت جدًا، أما ما جعلني أشعر بالقهر، هو أن قصيدة الفائز بالمركز الأول كانت دون المستوى، وحين سألت مدير قصر الثقافة سمير كرم فريد، في حفل توزيع الجوائز، عن أسباب فوزه، قال «دا مدرس أول لغة عربية وأكبر منك بكتير»، ففهمت أن الجائزة كانت لاعتبارات اجتماعية بحتة، فتوقفت عن كتابة الفصحي والذهاب لقصر الغورية والتقدم للمسابقات.

بعد أيام، حلمت -وأنا نادر الأحلام- بوالد أحد أصدقائي، الذي كان يعمل «عطشجي» في سكة حديد حلوان، أي يقوم بتزييت مفاصل القطارات، وكان هذا الرجل يُشعرني بالأسى لأنه ما يزال يعاني ويعمل رغم أنه بلغ من العمر أرذله. وصحوت ممتلئًا بالحلم، وبتفاصيله الواضحة، حيث كان يدور في بيتهم الواقع أمام السكة الحديد. ولكي لا أنساه، قمت بتدوينه، لأكتشف أن ما أكتبه قصيدة عامية، وليس مجرد سرد تفاصيل حلم. أقول: «وعطشجي القطر المستعجل/ بيمد الخطوة ويتكعبل/ من بين قضبان القطر/ ويعدي القطر سريع/ ويضيع العمر يضيع/ ملعون يا زمان الحاجة/ تصحي السكنات من نوم الجوع/ وتمد عزيزة/ تمد تمد/ الخطوة كبيرة/ سكينة بتسرق رقبتها/ تتمدد جنب الجثة وتضحك/ مبروك يا عطشجي القطر/ راح تترقي العام الجاي».

وواصلت كتابة قصائد العامية، إلى أن حدث موقف جعلني أتأكد أنها الطريق الصحيحة؛ كنت مدعوًا في أحد المؤتمرات، وجلست صدفة إلى جوار الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، وهو يكاد يكون على عداء مع العامية، وبعد مناقشة طويلة عن الثقافة، أخبرته أنني أكتب شعر العامية، فصُدِم، وطلب مني أن ألقي له بعضًا من قصائدي، فقال «إنها المرة الأولى التي أسمع فيها عامية ليست آتية من الجنوب أو الشمال، إنها عامية المدينة»، فنبّهني إلى أمور لم أكن لأنتبه لها بسهولة، مثل قاموسي الخاص، الذي قال إنه مغاير لقاموس الرواد، ومثل خصوصية المفردة التي يجب أن تكون مناسبة مع العالم الذي أتحرك فيه.

- تريد أن تقول أنك لم تتأثر في البدايات بأي شاعر عامية؟
نعم، لهذا أحب قصائد البدايات، لأنها خارجة من منطقة ولع كامل بالشعر، وليس من منطقة تأثر أو توجيه. قصائد البدايات -والنهايات أيضًا- يكون فيها الشاعر نفسه، لأنه في الحالتين يكون متحررًا من كلام الناقد وذائقة المتلقي وسطوة الشعر المترجَم، ولا يكتب سوى قصيدته، سوى ما يجعله يشعر بالرضا. ولذلك أتعامل بثقة مع نصوص البدايات، لأنها فطرية وليس بها عنصر الخبرة أو الصنعة، إلى جانب أنني كنت أعمل فيها لصالح الشعر، الذي لم يكن يشغلني عنه شيء، ولا حتى البنت التي أحبها.

- من أقرب الشعراء لقلبك؟
فؤاد حداد، أعتبره متنبي العامية. وقد تعرضت بسببه لصدمة في العشرينيات من عمري، إذ كنت مع مجموعة من الأصدقاء في دار المعارف، وانضم إلينا شخص لا أعرفه، فأراد أن يتعرف عليّ وأن أقول له بعض قصائدي، فأخبرني بنبرة بها الكثير من الثقة والحسم أنني متأثر بفؤاد حداد. حينها فقط شعرت أن الدنيا انغلقت في وجهي، لأنني لم أكن قد قرأته، لم أكن قد قرأت من شعراء العامية -كما قلت لكِ- سوى بيرم التونسي، ولأنني لا أريد أن أكون متأثرًا بأحد. ولكي يخفف من انزعاجي، عرض عليّ أن نذهب إلى مكتبة مدبولي، وأن يشتري لي أعمال فؤاد حداد، كعربون صداقة.

- كيف يكون الشاعر مستقلًا إبداعيًا؛ ألا يكون متأثرًا بالرواد، خاصة أن الكثير من شعراء العامية لم  يستطعوا حتي الآن الخروج من عباءة نجم وجاهين وفؤاد حداد وغيرهم؟
بأن يدخل لهم من باب الاستمتاع، وليس من باب الانبهار أو التعلم، لأن جميعهم، سواء نجم أو جاهين أو فؤاد حداد فخ كبير، ويجعلونك تحت ضغط البحث عن أفق مغاير، والحفر في اتجاه ليس مطروقًا من قبل، فلا يصح أن يتحرك الشاعر في نفس عالم شاعر آخر ويستخدم نفس قاموسه ومنطقه في الصورة الشعرية وتركيب الجملة ونسقها. أنا اكتشفت أن الرهان عند هؤلاء المتأثرين يكون علي القصيدة التي تدّعي المعرفة بالآخر، وأنها تدافع عنه، وهذا أكبر «سوكسيه» يحدث، فنسمع دائمًا أن «الشاعر الفلاني دخل ولَمّ الليلة»، علي طريقة المطربين.

- لماذا يشعر دومًا جيل الوسط من شعراء العامية بالظلم والتهميش والتجاهل، وبأن اهتمام النقاد -والناس كذلك- توقف عند جيل الرواد؟
الرواد أيضًا عانوا من هذا الشعور، فهناك دومًا استعلاء رسمي على شعر العامية، فالمجلات مثل فصول وإبداع لم تكن تنشر قصائد لبيرم أو جاهين أو فؤاد حداد، لاعتقاد ما أن كل ما هو محكي بالعامية لا صلة له بالإبداع، رغم أن الفصاحة موجودة منذ الأزل، وقبل اختراع اللغة. هناك كاتب مثلًا صُنف علي أنه ساخر، رغم أنني أراه شاعرًا، وهو جلال عامر، ولا أعتقد أن هناك ظلمًا أكبر من ذلك.

تهميش العامية موجود طوال الوقت وليس مرتبطًا بجيل معين، وإلا لرأَيْنا واحدًا كالأبنودي يحصد جائزة في الشعر. المؤتمرات أيضًا تعكس وضع وحال شعر العامية، بداية من وضعه علي هامش الفعاليات، نهاية بالسجالات العنيفة بين شعراء العامية والفصحى، لأن شعراء العامية يخطفون الضوء من شعراء الفصحي لاستخدامهم لغة قريبة من الناس ولاعتمادهم علي الأداء.

لا أميل بالمناسبة للأداء لأنني أشعر أن به مخادعة كبيرة وأنه يوهم المتلقي أنه يسمع شيئًا عظيمًا في حين أن ما يسمعه ليس به شيء على الإطلاق، ولأنني ليس لديّ الثقة الكافية التي تجعلني أؤدي قصائدي بطريقة مسرحية، أنا أقرأ الشعر بذات الطريقة التي أتكلم بها.

وأذكر أنني كنت ممثلًا لجيلي في أحد المؤتمرات، وكان هناك من يريد أن يصنع سجالًا علي المنصة بطرحه سؤالًا عن الفارق الفني بين شعر العامية والفصحى، فقلت له: نحن ممدّدون علي جمر القصيدة الجديدة ولسنا منشغلين بالتنظير أو بالكلام عن الفارق الفني، وأن هناك شعراء مبشرين جدًا مثل الراحل مجدي الجابري، الذي يعد المغامر الأكبر، لأنه أول من آمن بقصيدة النثر في العامية، وأعطاها من وقته وجهده، وبسببه آمن كثيرون بها.

للأسف بعد جيل مجدي الجابري حدثت ردة في العامية، ردة فنية بالأساس، لأن قصيدة العامية كانت قد تحررت من الخطاب الأيديولوجي، ومن فكرة أنها تتبني فقط القضايا الكبرى، وأن بإمكانها محاكاة أشياء أخرى، والتحرك في أفق مغاير عن كل ما رسخته الفنون المكتوبة باللغة المحكية.

هناك أسماء مثلًا لم تعد موجودة علي الساحة الشعرية، مثل أسامة شهاب ومجدي السعيد وشحاتة العريان وأبو العربي أبو يزيد وأشرف عتريس وعبد الدايم الشاذلي ومحمود الحلواني، وآخرين افتقدناهم، إما لأنهم توقفوا عن الكتابة أو لأنهم ماتوا، وكان يجب أن يخرج النقد من العباءات الكبيرة وأن يشتغل عليهم، ليحدث تراكم في شعر العامية، وألا نري فجوة بين جيل الرواد والأجيال التي جاءت بعده، ولكي يَطّلع الشعراء الشباب علي تجاربهم، لنجرؤ أن نسألهم في يوم: إلي أين ذهبتم بقصيدة العامية؟

- هل تتابع أحدًا من جيل الشباب؟
هناك أسماء ملفتة، مثل أحمد الطحان، لديه عالمه الخاص وصوته ليس به أي شوائب، ومصطفي إبراهيم، أحد الذين تواصلت معهم لأنني كنت حريصًا على أن يخرج من عباءة نجم.

- إلى أي مدى تؤثر ظاهرة شعر الحفلات -التي أحد نجومها الآن عمرو حسن- بالسلب علي العامية؟
قلت لك إن العامية تعاني من ردة فنية، سببها أيضًا أنها عادت لخانة إرضاء الجمهور، وكتابة نص بمواصفاته وليس بمواصفات الشاعر. الجمهور مخادع، لأن ذائقته تتغير من حين لآخر، لهذا نشهد دومًا سقوط الكثير مما كانوا نجومًا، لأن نصوصهم لم تعد مرغوبة أو مطلوبة من الجمهور.

- لماذا اتجهت خلال العقد الماضي لكتابة شعر الفصحي بعد أن قطعت شوطًا كبيرًا مع العامية؟
في حياتي كلها، لم أخطط لشيء، ولم أتعامل مع الفن بجمود، أو بقناعة ثابتة، وكانت كل فكرة تفرض شكلها عليّ، سواء كان هذا الشكل أغنية أو مسرحية أو لوحة، حتى اختياري في البداية للعامية كان استجابة لحلم، واستمراري فيها لم يكن لخدمة مشروع أعكف عليه، ولكن لأنني آمنت أن الفصاحة ليست مقتصرة على اللغة الرسمية، وأنها موجودة في المثل الشعبي والموال والأهازيج والعدودة وغيرها من الفنون، ولأنني وجدت أن هناك من يختار الفصحي للبحث عن وقار ما، وكنت أحيانًا أقرأ قصائد فصحي وأحولها مع نفسي لقصائد عامية -أعترف أن هذه خيانة للشعر ولأصحاب هذه القصائد- واكتشف أنها فارغة من الشعر، ومن المعنى.

اللغة الرسمية خادعة، لهذا كنت أحاول أن أحصن نفسي منها، وحين قررت استخدامها، كان لاعتبارات فنية بحتة، لأنني أردت أن أكتب ديوانًا عن الوحدة، لأنها محور مهم في حياتي، ووجدت أنني عبرت عنها في قصائد عامية متفرقة، فجاء ديواني «صورة جماعية للوحدة» بمثابة تجلٍّ للفصحي والوحدة معًا، وعندما كتبت ديواني الفصحي الثاني «لا شيء يحمل اسمه القديم غير وجهك الجديد»، تعمدت الابتعاد عن العامية لأنه ديوان عن الثورة بتراكماتها التاريخية واستشرافها، فالسائد أن الأحداث الوطنية الملتهبة يتم معالجتها بالعامية، لأنها الوسيلة الأسهل والأسرع في الوصول للناس، لكنني أري ذلك ركوبًا للموجة، وكنت أتعجب كثيرًا من الذين كانوا ينشرون ما يكتبونه أولًا بأول أو يذهبون للميدان لإلقاء أشعارهم، لأنني ضد الكتابة من منطقة ساخنة، ولكي يعبّر الفن عن الحدث يجب أن تمر فترة، نكون قد فقدنا فيها تحيزنا الأعمى، لذلك نختار لغة بعينها أحيانًا لمغايرة السائد، ولاكتشاف مناطق بِكْر وطازجة.

- كيف ألقت العامية بظلالها الجمالية علي قصائدك النثرية؟
انتبهت لذلك فقط حين كنت في الأردن قبل سنوات بصحبة مجموعة من الأصدقاء، بينهم الشاعرة جيهان عمر، التي أخبرتني حين سمعت إحدى قصائدي النثرية، أن المنطق الذي استخدمته في هذه القصيدة عاميّ، فقلت لها: ولِمَ لا؟ هل حكر على الفصحى أن تقول هذا المعنى؟ وأدركت أن هناك صورًا شعرية منطقها أو تركيبها عامي، وأنني أستعين بها دون قصد في قصائدي النثرية.

- هل واجهت انتقادات بعد كتابتك للفصحى؟
بالتأكيد، لكنني أريد أن أذكر من دعموني، ومنهم الشاعر ياسر الزيات، والشاعر الراحل محمد عيد إبراهيم الذي سألني هل معقول أن تظل تكتب العامية أربعين عامًا وتكون فيها رقم واحد -وهذا تقييمه وليس تقييمي- وتختار أن تكتب الفصحي لتكون فيها رقم عشرين، فقلت له إنني لا أبحث عن ترتيب أو أفضلية، أنا يعنيني أن أجيب علي الأسئلة التي تؤرقني، بغض النظر عن الشكل الذي ستخرج فيه. واقعيًا صدرت موسوعتان عن شعر العامية في مصر، واسمي ليس موجودًا في أيٍّ منهما، ونظرتُ لهذا الأمر بإيجابية لأنني لا أريد أن يضعني أحد في خانة بعينها، لأنني أفعل أشياء كثيرة؛ أرسم وألحن وأكتب الأغنية، أنا حتي مكتوب في بطاقتي مؤلف مسرحي، وليس شاعرًا، من الممكن أن أكون قد كتبت قصائد كثيرة، وفي النهاية أرى قصيدة واحدة هي مشروع حياتي.

- قصائدك مزدحمة بالصور الشعرية، التي تصلح كل واحدة منها لأن تكون قصيدة مستقلة بذاتها، هذه الصور أيضًا تصلح لأن تكون لوحة، مثل «من كام جنينة ماشوفتكيش/ من كام قمر»، هل الأمر متعلق بحبك للفن التشكيلي؟
مرة أهداني أحد أصدقائي الرسامين لوحة، مكتوب عليها سطر شعري واحد لي، وهو «البحر دا كان جبل نزل عليه الحب»، فرحت جدًا، لأنني أرى أن الفن يمكن ترجمته والتعبير عنه في أي شكل. أنا مهتم بالصورة الشعرية، وبالبعد البصري فيها، لأنني أري أن الشعر مثل السينما، والدراما، وأي فن بدون صورة، يكون فنًا ميتًا.

ولا يغيب أبدًا عن بالي وصف الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفي لي -في بداياتي- بأنني شاعر رأسه كله عيون، وكانت نصيحة غير مباشرة لكي أقتصد في الصور الشعرية حتي لا يلهث القارئ ورائي، لكنني لم أكن أتعامل بجدية مع المدح أو التدليل أو النصائح التي تريد أن تحصرني في منطقة بعينها.

-لا يعرف كثيرون أنك فنان تشكيلي، وأن لديك ما يقرب من ٤٠ لوحة، إلي أي مدي يعوض الرسم الفجوة التي لا يستطيع الشعر سدّها، فقد قلت: «أرسم أحيانًا لاتنفس لأوسّع مساحة في رئتي للهواء»؟
إجابتي ستكون استكمالًا لموضوع اللغة؛ اللغة محنة الشاعر، والمبدع، وكل شخص أداته اللغة، لأنها ليست آمنة بدرجة كبيرة في التعبير عن خصوصية ودقة مشاعرنا، هناك قصيدة أقول فيها: «بعد كل الشعر دا ماعرفتش تكتب وردة»، وهناك أغنية أقول فيها نفس المعنى: «بكتب الوردة اللي ماقدرش اشتريها/ وأرسم الدنيا اللي بحلم تسكنيها/ وأندهك رغم السكون وأعشقك حد الجنون/ لو بإيدي كنت أكون كل غنوة بتعشقيها».

أحلم طيلة الوقت بلغة تستطيع الوصول لدرجة التشكيل والموسيقى، بلغة عابرة لكل القواميس، ففي كل مرة أكتب فيها أشعر أنني في صراع مع اللغة، في حرب، وأنه سيكون هناك جرحي وضحايا، فأيًّا كانت النتائج، لا أستطيع أن أسلم للجملة الأولى أو الثانية أو الثالثة، لأنها جُمَل ممتلئة بالغواية. الرسم فيه تعويض كبير، لأنني من خلاله أستطيع قول أشياء تعجز اللغة عن قولها.

- كيف حدث عندك هذا التجاور بين الرسم والشعر والأغنية والمسرح؟ وهل حقيقي أن روح المبدع لا يكفيها في بعض الأحيان نوعٌ واحدٌ من الفن؟
لا أعرف صراحة، ولا أعرف أنا موهوب في أي فن، وهل يمكن أن يكون الواحد ابن موهبة بشكل مجرد أم ابن تجارب وتراكم واختيار وإرادة؟ أعتقد أن التجاور الذي تتحدثين عنه حدث بشكل تلقائي، لأنني لو كانت لديّ فرصة للاختيار، كنت سأكون موسيقيًّا، لكن شاء القدر ألا أجد في بيتنا آلة، إنما كتاب، وأن أطلع على أغلب المذاهب والمدارس المسرحية، وأن أتعمق في الشعر، والسينما، والسيناريو، والصورة.

أعتقد أن ما سعيت إليه، وراهنت عليه، في كل ما كتبت من شعر أو مسرح أو أغنية، هو المقترح البصري، وهذا ما يجعلني ألجأ أحيانًا للرسم، فمحاولة تبديد السائد وإكسابه ألوانًا جديدة حتي لو لم يكن ممكنًا أن تتجاور هذه الألوان، مُغرية بالنسبة لي، فحين كنت أشتغل في المسرح كانت لديّ مشكلة كبيرة مع العناصر المسرحية، فالإضاءة مثلًا لها أفق ودلالات، الأزرق دال على فقد أو موت أو حنين، الأصفر دال على الغيرة أو الحقد، الأحمر على الشغف، الأسود علي الحداد، الإكسسوار أيضًا له أفق، والملابس، الوحيدان اللذان ليس لهما أفق، الجملة الموسيقية والجملة الشعرية، طاقتهما أبعد من أن يضع الواحد لهما حدودًا، فكل جملة بإمكانها أن تختزن العالم، وأن تبوح بمكنونات لا تخطر على البال، فحين كان يُعرض عليّ نص مسرحي لأكتب أغانيه، وأجد النص محشوًا بالسرد، أعترض، ولو هناك فرصة لأن أعدّل في النص، أفعل ذلك، أو أعتذر، لأن حضور المشهد في المسرح أو الدراما أو الفيلم هو المهم، وليس قول الحكاية كاملة. المسرح هو نقطة ضعفي الوحيدة، هو أبي وأمي، فمن أجله أوافق على أي شيء، وأفعل أي شيء، من الممكن أن تجديني -رغم أن مهمتي فقط كتابة الأغاني- في البروفات، ومع مصمم الرقصات، ومع الملحن، ومع مسئول الإكسسوار، من الممكن أن أتولى مهمة فتح وغلق الستارة. ربما دخولي لهذه العوالم في وقت واحد حررني من فكرة الإطار، أو العنوان الدائم لما أفعل.

- متي بدأت علاقتك بالمسرح؟
حين كان عمري ١٨ عامًا، إذ كنت أسكن بالقرب من حوش الباشا المدفون فيه أغلب أسرة محمد علي، ومسجد الإمام الشافعي، الذي به بهوٌ كبيرٌ ومدرج يستطيع الناس الجلوس فيه، وكنا نستغل أنا ومجموعة من أصدقاء الحي، هذه المساحة، لنعرض فيها مسرحياتنا، فكنت المسؤول عن تأليف المسرحية وكتابة أغانيها وتلحينها، وفي يوم، جاءت سيارة شرطة للبيت، وطلبوا أن أذهب معهم إلى قسم الخليفة لمقابلة فايدة كامل النائبة البرلمانية وزوجة النبوي إسماعيل وزير الداخلية الأسبق، فذهبت، واستقبلتني بودٍّ كبير، وأخبرتني أن أحد أفراد مكتبها شاهد أحد عروضنا، وتريد أن ننظم لها عرضًا خاصًا في مسرح القلعة لتحضره السيدة الأولي وقتها جيهان السادات، وبالفعل عكفنا على تنفيذ مسرحية تتناول عددًا من القضايا الاجتماعية، وكانت اجتماعاتنا كلها تتم داخل القسم، وحضرت جيهان السادات العرض، وكان حدثًا كبيرًا بالنسبة لنا، لأنهم سمحوا لنا فيما بعد أن نقيم عروضنا في مسرح القلعة وأي مسرح آخر نريده.

بعد فترة قصيرة، اتصلت بي فادية كامل وقالت إنها تريد أن ترد الجميل لي، وإنها أخذت لي موعدًا مع الأستاذ محمد عبد الوهاب، وأنّ عليّ أن أستعد. طبعًا لم أصدق نفسي لأنه كان حلم مراهقتي أن تغني لي أم كلثوم ويلحن لي محمد عبد الوهاب. وذهبت، وفي يدي ورقة بها غنوة كتبتها له خصيصاً. أقول في مقطع منها: «الذكري بتنده علي ماضي كان قلبي قرب ينساه/ وبتملالي الكاس الفاضي وتقولي اشرب واملاه».

فرح بالغنوة، وبتماسُكها، لكنه أخبرني أننا لا نستطيع أن نقول «وبتملالي الكاس الفاضي». اعترضت وقلت له: «حضرتك اللي بتقول الكلام دا؟»، قال لي: «يابني الفن دلوقتي بينتح بمواصفات خليجية»، فأخبرته أنني ليس لديّ طموح أن يسمعني هؤلاء. وخسرت الفرصة.

- من أغانيك الأولي التي أحدثت نجاحًا كبيرًا «لما الشتا يدق البيبان/ غناء علي الحجار»، ما كواليسها، وكواليس انضمامك للوسط الغنائي بشكل عام؟
بداياتي كانت مع وجيه عزيز، فكنت أعد عام ١٩٨٦مسرحية شعرية عن فؤاد حداد، تبدأ وتنتهي بنص درامي، واختار المخرج وجيه عزيز ليلحن ويغني أغاني المسرحية، وأنا كنت أظنه عازفًا فقط، فأعطيته نصًا صعبًا، ليس فيه سطر له علاقة بالآخر، ففاجأني بلحن خرافي. بعد فترة تعرفت أنا ووجيه علي صاحب شركة استيراد وتصدير، وعرض علينا أن ينتج لنا «ألبوم»، فاقترح عليّ وجيه أن أكتب كل الأغاني، لكنني فضلت كتابة بعضها، وكانت أول أغنية أكتبها هي «لو بإيدي»، والتي حمل الألبوم اسمها. ثم كانت المحطة الثانية مع علي الحجار، إذ طلب مني في يوم أحمد الحجار أغنية ليلحنها ويغنيها علي، وأنا كنت أفكر في قصيدة عن الشتاء، لكنني قلت إذا كتبت قصيدة ونشرتها في مجلة أدب ونقد، لن يقرأها إلا أربعون شخص، فخرجت معي أغنية، وأرسلتها له، ورغم نجاح الأغنية، إلا أنني لم أكن أتمني أن يكون اللحن ميلودراميًا، لأن الأغنية بدت وكأنها نحيب، وتصوري أنها متجاوزة هذا الأمر، لأن الاحتياج فيها ليس مُلِحًّا أو أبديًّا؛ «مش جاي ألومك علي اللي فات/ ولا جاي أصحي الذكريات/ لكنّي بحتاجلك ساعات/ لما الشتا يدق البيبان»..

في نفس توقيت ألبوم «لو بإيدي»، كان الملحن ياسر عبد الرحمن يعمل علي الألبوم الأول لحنان ماضي «عصفور في ليلة مطر»، ووجدته يعرض عليّ ثلاثة ألحان لأكتب عليها أغاني، وأنا كنت ضد هذه الطريقة، لكنني عندما سمعتها شعرت بانجذاب تجاه أحدها، وبالمصادفة كانوا يريدون هذا اللحن للأغنية الرئيسية في الألبوم، فكتبت عليه أغنية «وأنت بعيد».

- إلي جانب المغنين الذين ذكرتهم، تعاونت أيضًا مع مدحت صالح وإيمان البحر درويش، فى رأيك ما الذي جعل جيل الوسط يفقد تأثيره رغم أنه أحدث نقلة فى الأغنية علي مستوي الكلام والغناء والتلحين؟
لا، السبب الوحيد -في رأيي- أن جيل الوسط تخلى عن مشروعه، لهذا أحمِّلُه المسؤولية الكاملة عمّا وصلت إليه الأغنية المصرية، فلو ظل كل منهم في مكانه، وحافظ على توجهه ولونه، ما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فجميعهم لم يختاروا بداياتهم اللامعة، على العكس حضورهم بدأ يخفت ويتراجع عندما بدأوا يختارون. فإذا نظرنا مثلًا للمشهد الغنائي اللبناني سنجد تنوعًا كبيرًا؛ فيروز وماجدة الرومي وجورج وسوف ووائل كافوري وكارول سماحة ونانسي عجرم وإليسا وهيفاء وهبي وجوليا بطرس، وجميعهم ناجحون ومستمرون في مشاريعهم، فيروز مثلًا لم يخفت نجمها يومًا، واستطاعت أن تحافظ علي وجودها رغم أنها كسرت الإطار بعملها مع زياد الرحباني. وكان لدينا مثل هذا التنوع، لكنهم أردوا أن يغنوا بنفس الطريقة، ويقولوا نفس الكلمات، لن أنسى مثلًا لقائي الوحيد مع سميرة سعيد، إذ طلبت مني أن أكتب لها أغنية على نفس منوال أغنيتها ذائعة الصيت «قال جاني بعد يومين»، انزعجت جدًا، وقلت لها ليس هناك أغنية مثل أخرى، وبإمكان من كتب لكِ هذه الأغنية أن يكتب مثلها، أيضًا عندما نجحت «لما الشتا يدق البيبان»، طلب مني كثيرون أن أكتب لهم مثلها، وهذا يعني أنهم يريدون من الشاعر أن يصير ترزيًا، وألا يكون له شروط، خاصةً إذا طرح نفسه كشاعر أغنية محترف، ولقد رفضت هذا من البداية، فلم أفعل شيئًا رغمًا عني ولم أتنازل عن شروطي، وظللت أكتب فقط للأصوات التي أحبها، وما حدث من استثناءات كان بسبب أن الشركة المنتجة متعاقدة مسبقًا مع مطرب معين، مثلما حدث في فيلم «ليلة البيبي دول»، فكان الإنتاج متعاقدًا مع روبي، أما الكتابة فأمر يخصني بمفردي، وليس من حق أحد أن يدفعني لتغيير جملة دون منطق، أو يجعلني أكتب أغنية «شبه اللي بجد». للأسف لدينا أصوات كبيرة لكن بلا رؤوس.

- هل يعني ذلك أنك تعفي «انتهازية الانتاج» و«تغير ذائقة الجمهور» و«غياب النقد» من مسؤولية تدهور الأغنية المصرية، فإذا لم يختر المطرب أغانيه من سيختار له؟
المطرب بالطبع من يختار أغانيه، لكن ضمن فريق عمل، يثق في مصداقيته، فهو يظن طيلة الوقت أنه يفهم في الشعر أكثر من الشاعر، وفي التلحين أكثر من المحلن، وفي السياسة أكثر من السياسي، لذلك تحدث له مشاكل كثيرة، ويقع في منتصف الطريق. المطرب عندنا ليس مغامرًا، لأنه يريد أن يحافظ علي صورته التي رسخت في أذهان الناس، والفن حين يخلو من المغامرة، يفقد الكثير من معانيه.

ولهذا نراه يهتز من أي موجة، مثل موجة حميد الشاعري في التسعينيات، فكثيرون ركضوا وراءه، وكنا نجده محجوزًا لأكثر من خمس سنوات، في حين أنه كان يقول لنا كلما التقيناه: أنا أحسدكم لأنكم قادرون علي صناعة الفن الذي تريدونه، ومثل موجة صلاح الشرنوبي الذي أعاد الأغنية للشكل البليغي، وموجة أغنية «ميال ميال» لعمرو دياب، لدينا مشكلة حقيقية، موجودة أيضًا في السينما والدراما، وهي ثبات النمط، لذلك لا أرى تغير ذائقة أو مزاج الجمهور سببًا في تراجع الأغنية، بدليل أن الجمهور ذاته استمتع بالغناء الأوبرالي في موكب نقل المومياوات رغم عدم فهمه للكلمات، الجمهور حجة الإنتاج، الذي ساهم بالطبع فيما وصلنا إليه، لأن رهانه كان على المكسب، لا الفن، أما نقد الأغنية، فلم يكن لدينا من قبل نقاد يتحدثون عن عناصر الأغنية من كلمات وتوزيع ولحن وغناء، كان هناك فقط من يتحدث إمّا عن التلحين مثل الموسيقار الراحل عمار الشريعي، أو عن تاريخ الأغنية مثل المؤرخ الراحل فرج العنتري.

- خلال العقدين الماضيين، لعب جيل الأندرجراوند دورًا مهمًا في إنعاش الأغنية عبر المنصات الصوتية الحديثة، إذ استطاع أن يضيف بصمته الخاصة على الكلام واللحن، كيف ترى هذا الجيل؟ وبم تفسر اختفاء عدد كبير منهم؟
حين بدأ جيل الأندرجراوند في الظهور، سواء كفرق أو مطربين مستقلين، شعرنا بأن ثمة موجة مبشِّرَة ستقودنا إلى نتائج مهمة، قد تكون من بينها الثورة، فكنت بشكل شخصي أسعى لمقابلاتهم، لنتحدث عن الفن وأشكال الغناء وضرورة تحرير الأغنية من التنظير ومن كل المعادلات القديمة التي تحدثت بالنيابة عن الناس..

الأندرجراوند أحد الروافد التي ساهمت في دعم المشهد الغنائي المصري، رغم عدم انتشاره، فقد ظللت أرى -قبل ظهورهم- أن أغاني التترات هي حائط الصد الأخير للأغنية، لكن للأسف خفَتَ صوت الأندرجراوند بعد الثورة، بسبب الإحباط الذي ساد المشهد، فجميعهم سواء كانوا مطربين أو شعراء أو ملحّنين شباب موهوبين، وأنا أعذر من تراجع ومن انكسر، وعلي ثقة بأن انسحابهم لن يدوم طويلًا.

- بالتزامن معهم، كان جيل المهرجانات يحفر طريقه أيضًا، لكن بثقة وجرأة عاليتين، وحدث ما يشبه الانقسام المجتمعي حولهم، فالبعض رآهم انعكاسًا لتدهور الذوق العام، والبعض الآخر تعامل معهم باعتبارهم لونًا شعبيًّا، إلى أيّ الطرفين تنتمي؟
المهرجانات فن هؤلاء الناس، وهذه طريقتهم في التعبير، والانتقام، لأنهم ظلوا لسنوات طويلة مهمَّشين وخارج المعادلة الفنية، المهم عندي هو توضيح أن جيل المهرجانات انطلق من الراب الشعبي، والراب بشكل عام لا يعرف الطبطبة أو الهيام، حتي رومانسيته لها منطق، وطريق مغاير عن رومانسية عبد الحليم حافظ ومصطفي قمر، فهم يستخدمون المفردات التي تستطيع أن تفهمها الحبيبة التي تسكن في حارة. المشكلة الحقيقية أن الإعلام سلط الضوء علي المهرجانات، وسيَّدَها، ما جعل كثيرين يعتقدون أن ليس هناك سواها، فأغلب أغاني الإعلانات والأفلام وتترات المسلسلات تحولت لأغاني مهرجانات. هذا الإلحاح في رأيي ضد مطربي المهرجانات، ولا يخدمهم، لأن الإعلام وضعهم في مكان ليس بمكانهم، أين أوكا وأورتيجا الآن فهم أيضًا مطربو مهرجانات!

- بما أنك مغامر، وتحب التجريب، لماذا لم تفكر فى كتابة الأغاني الشعبية أو المهرجانات، خاصة وأنك كتبت فى بداياتك أغنية شعبية واحدة؟
مفهومي عن الأغنية الشعبية ينتهي عند «الحلوة داير شباكها طبق الفاكهة» و «يا حلو صبح يا حلو طل»، ما منعني من المساهمة في هذا المجال، أنني ببساطة لن أكون مقنِعًا، إلى جانب أنني لا أمتلك قاموس هذا العالم، وفي زماني كانت الأغاني الشعبية بها تطرف ومفردات لا أحبها، مثل «توهان توهان عالم مليان دخان»، وإذا كنت استجبت للإغراءات الكثيرة التي تعرضت لها، للانضمام لهم لكنت صرت شخصًا آخر. أذكر أنني كنت جالسًا في مقهي مع صديقي عبد الوهاب يحيى، أقرأ له آخر ما كتبته: «بفتح ببان الحلم واندهلك بشوق/ قضيت ليالي الغربة مستني الشروق/ يا حبيبي يا مسافر بحر الحنين غادر/ قولي ورسيني هتغيب كتير/ ولا شمس الحنين هلّه هتجيبها وتجيني»، فوجدت من يربّت علي كتفي ويقول: نبتدي من هنا، لأكتشف أنه عبد العزيز محمود ، صاحب «يا تاكسي الغرام يا مقرب البعيد» و«منديلي الحلو»، وأصر أن نشتغل علي الغنوة، لكن عبد الوهاب يحيي قال له: «سيبه في حاله، دا عنيد». الأمر إذن ليس له علاقة بالتعالي، إنما بالمفهوم، لأن مطرُبي الأغاني الشعبية أو المهرجانات مطلوبون، وشغلهم يعبر عن شريحة من المجتمع.

- وأخيراً، لماذا تنزعج من وصف الشاعر الغنائي ما دمت كتبت الأغاني التي تقتنع بها؟
لأن كتابة الأغنية ليست كل تاريخي، هي نشاط من ضمن أنشطتي الشعرية، فلم أحرص يومًا علي المنافسة فيها أو تقديم نفسي كشاعر أغنية محترف، فكانت تمر عليّ أشهر وربما سنوات لا أكتب فيها أغنية واحدة، إنما لو توقفت -مدة- عن كتابة الشعر تحدث لي خصومة مع الحياة، فالأغاني كثيرة، بينما الشعر قليل، ولا أقصد بذلك أن بإمكاني إنقاذ الشعر أو سَدّ الثغرة التي به، فأنا لا أجرؤ علي وصف نفسي بالشاعر، لأنني أعتقد أن هناك قصيدة، وليس شاعرًا.

أنا أيضًا أنزعج حين ينعت أحدهم الأغاني التي كتبتها بالقصائد، لأنني أشعر بخلل في مفهومه عن الشعر، وربما هذا ما جعلني أرفض كثيرًا نشر الأغاني في كتاب، ولا أعدها، حتى لا يتم حصري في هذه المنطقة، إلى جانب أنني أرى أن مكانها الإذاعة، وليس الكتاب.

يبدو أن الموضوعات تأتي معي بشكل عكسي، فكلما مدحني أحد في مجال معين، أو سجنني في توصيف، أشعر باختناق، لأنني ابن اللحظة، فلا أستطيع مد يدي للوراء لأتذكر شيئًا، أو مدها للأمام لأتوقع ما سيحدث.