إنها مصر

فصاحة رسول الله

كرم جبر
كرم جبر

اتفقت أحوال العالم على انتظار رسالة.

واتفقت أحوال محمد صلى الله عليه وسلم على ترشيحه لتلك الرسالة.

وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التى تؤدَّى بها رسالته على أحسن الوجوه.

كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول.

وكان من الممكن أن يظهر الرسول فى البيت الصالح وفى البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التى يتم بها أداء الرسالة.

ولكن الذى اتفق فى رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التى تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولًا سائغًا بغير عنت ولا استكراه…
فكان محمد مستكملًا للصفات التى لا غنى عنها فى إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ.

كانت له فصاحة اللسان واللغة…

وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة…

وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغَيرته البالغة على نجاحها…

وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول… ولكنها هى التى عليها المدار فى تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.

الفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، ولموضوع الكلام، أما فصاحة محمد؛ فقد تكاملت له فى كلامه، وفى هيئة نطقه بكلامه، وفى موضوع كلامه…

فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشى واستُرضعت فى بنى سعد بن بكر» فله من اللسان العربى أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة… وهذه هى فصاحة الكلام.

ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا فى بنى سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس… فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه النطق الجميل.

أما محمد فقد كان جمال فصاحته فى نطقه، كجمال فصاحته فى كلامه، وخير من وصفَه بذلك عائشة — رضى الله عنها — حيث قالت: «ما كان رسول الله ﷺ يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه».

واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها فى أحسن مواقعها… فهو صاحب كلام سليم فى نطق سليم.

ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا فى بنى سعد، ويكون سليمًا فى كلامه سليمًا فى نطقه، ثم لا يقول شيئًا يستحق أن يستمع إليه السامع فى موضوعه.

فهذا أيضًا قد تنزَّه عنه الرسول فى فصاحته السائغة من شتى نواحيها… فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتى حقًّا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كِفَاء ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام.

من كتاب (عبقرية محمد) لـ "عباس محمود العقاد".