حسن حافظ
عبر صفحات لا تتجاوز المئة إلا قليلا، يبدع عدد من كتّاب الرواية القصيرة أو (النوفيلا)، وهى الصورة التى تتوسط الرواية الطويلة والقصة القصيرة، لكى تكون مساحة وسطاً تجمع بين تقنيات الكتابة الروائية والقصصية معا، فهى عمل يُقرأ فى جلسة واحدة ربما، لكنها تترك فى النفس علامة لا تزول، ربما لذلك أبدع الكثير من كبار الكتّاب فى هذا الفن الأدبى على مدار القرن العشرين، مع توقع استمرار ازدهارها مع إيقاع القرن الحادى والعشرين اللاهث الراكض يبدو أن مواصلة ازدهار فن الرواية القصيرة، التى غالباً ما تتمحور حول مكان واحد وزمان واحد، سيكون طبيعيا خصوصا أنها نبتة تراث عريق فى الثقافة العالمية.
تعدُّ الرواية القصيرة استجابة حقيقية لتطورات القرن العشرين، الذى شهد تسريع الإيقاع فى نمط الحياة، فبعدما شهدت الرواية الملحمية التى تتجاوز الألف صفحة كما ظهرت فى رواية االحرب والسلامب لتولستوى، أو االإخوة كارامازوفب لدوستويفسكي، أو الثلاثية لنجيب محفوظ، قمة تطورها، أفسحت المجال لازدهار الرواية القصيرة التى بدأت تعرف طريقها سريعا إلى صدارة المشهد الإبداعى العالمي، بعدد من الروايات أبرزها اقلب الظلامب للبولندى جوزيف كونراد، وامزرعة الحيوانب للبريطانى جورج أورويل، واالعجوز والبحرب للأمريكى إرنست همنجواي، واليس لدى الكولونيل من يكاتبهب للكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز.
وترجع الرواية القصيرة بجذورها فى الأدب العالمى إلى عمل االديكاميرونب للأديب الإيطالى جيوفانى بوكاتشيو، فى القرن الرابع عشر الميلادي، الذى عُدّ عمله من بواكير عصر النهضة الأوروبية، وتم استخدام مصطلح النوفيلا أى الرواية القصيرة على القصص التى تضمنها العمل الروائى القائم على الحكي، ليكتب العديد من كتّاب أوروبا على نفس منوال عمل بوكاتشيو، حتى اكتملت فنيًا بعد ذلك بقرون، بينما يرى البعض الآخر أن القصص التى تضمنها العمل الإنسانى الخالد األف ليلة وليلةب هى البداية الحقيقية لهذا الفن، خصوصا أنه انتقل إلى أوروبا وأثر فى جميع أجيالها الأدبية بما فى ذلك بوكاتشيو نفسه.
ورغم الجذور المتعددة للرواية القصيرة، فإنها ظهرت بوضوح كشكل فنى متكامل بداية من القرن التاسع عشر، ليتم وضع تعريف لهذا الفن الروائى يقول بأن الرواية القصيرة هى العمل المبدع إبداعا نثريا محققا التوازن الدقيق بين الإيجاز المعبر، وبين التوسع السردى المعمق، وهما عنصران يعتمد عليهما أساسا فن الرواية القصيرة، فهو فن يستفيد بأفضل ما فى فنى القصة القصيرة والرواية معا، لتتجه الآراء للقول بأن الرواية القصيرة تتراوح ما بين 20 ألف كلمة، و40 ألف كلمة، وعرفها الأديب العالمى ماركيز، أحد من برع فى كتابة الرواية القصيرة، بأنها مثل عمود الخرسانة تصب دفعة واحدة، بينما الرواية مثل البيت العالى تتعدد فيه الشرفات، فالرواية القصيرة عمل فنى شديد التكثيف سواء فى عدد الشخصيات أو على مستوى استخدام اللغة.
وأصبح فى كل لغة أوروبية من يمثل الرواية القصيرة، فنجد فى ألمانيا الروائى توماس مان، الذى أبدع مجموعة من الروايات القصيرة، مثل اتريستانب، واتونيو كروجرب، واماريو والساحرب، واالموت فى البندقيةب التى تعدُّ درة من درر الأدب الألمانى وواحدة من أهم وأنضج الروايات القصيرة، التى أثرت فى العديد من الأجيال الأدبية منذ صدورها عام 1912، وكذلك رواية اسد هارتاب لهيرمان هسا، ونجد بالألمانية أيضا رواية االمسخب للروائى التشيكى فرانز كافكا، التى تعدُّ واحدة من أشهر الروايات القصيرة على مستوى العالم.
وفى أمريكا ازدهر هذا الفن على يد الروائى هرمان ملفيل صاحب الرواية الملحمية اموبى ديكب، إذ كتب رواية قصيرة بعنوان ابينيتو سيرينوا ونشرها عام 1855، لتصبح على الفور علامة فى تاريخ الأدب الأمريكي، بينما ألف الفرنسى ألبير كامو رواية قصيرة بعنوان االغريبب لتصبح منذ تاريخ نشرها 1942، واحدة من أشهر الروايات القصيرة عالميا خصوصاً أنها عبّرت عن موجة العبث التى اجتاحت العالم فى أثناء مرحلة الحرب العالمية الثانية، فى نفس الفترة كتب الروائى الفرنسى جان بروليه رواية قصيرة بعنوان اصمت البحرب، التى نشرها تحت الاسم المستعار فركور، لمواجهة الاحتلال الألمانى لبلاده.
وأصبح للرواية القصيرة مكانتها وحضورها على الساحة المصرية، فنجد توفيق الحكيم يكتب روايات قصيرة عديدة يؤسس بها لهذا الفن على الساحة العربية فى النصف الأول من القرن العشرين، إذ كتب رائعته ايوميات نائب فى الأريافب كرواية قصيرة عام 1937، كما كتب رواية اأشعب ملك الطفيليينب، واستخدم مصطلح رواية قصيرة فى عمله اراقصة المعبدب (1939)، التى ضم إليها فيما بعد الرواية القصيرة االعوالمب ونشرتا معاً. كما أبدع الأديب يحيى حقى رائعته اقنديل أم هاشمب فى شكل رواية قصيرة (1944)، التى تعدُّ واحدة من أهم الروايات العربية فى القرن العشرين.
وبداية من منطلق النصف الثانى من القرن العشرين مع أدباء الأجيال الشابة التى انطلقت بالتوازى مع ثورة 23 يوليو 1952، ويعدُّ يوسف إدريس، الذى أبدع فى كتابة القصة القصيرة، من أهم كتّاب الرواية القصيرة وأحد روادها الكبار، فنجد أن جل إنتاجه الروائى يقع تحت خانة الرواية القصيرة، مثل: االحرامب 1959 واالعيبب 1962، واالعسكرى الأسودب 1962، وارجال وثيرانب 1964. ويعتبر نجيب محفوظ من أشهر الكتّاب المصريين والعرب فى كتابة الرواية القصيرة، فنجد لديه عدة أعمال يمكن وضعها تحت خانة هذا الفن، فصاحب االثلاثيةب واالحرافيشب، كتب روايات قصيرة شديدة الإبداع، ومن أشهر أعماله التى تندرج تحت هذا الفن االكرنكب 1974، وارحلة ابن فطومةب 1983، وايوم قتل الزعيمب 1985.
وازدهر فن الرواية القصيرة عند كتّاب جيل الستينيات، فنجد بهاء طاهر يتألق فى مجموعة من الروايات القصيرة التى حفرت اسمه كأحد كبار المبدعين المصريين، إذ كتب الرواية القصيرة ابالأمس حلمت بكب، واأنا الملك جئتب، واشرق النخيلب، واقالت ضحىب، وصولا إلى إحدى أبرز روائعه اخالتى صفية والديرب، بينما كتب خيرى شلبى روايته القصيرة االسنيورةب، وكتب سليمان فياض روايته اأصواتب، ويمكن عد معظم أعمال إبراهيم أصلان خصوصا عمله الأشهر امالك الحزينب، ضمن الروايات القصيرة، خصوصا لما تميز به من أسلوب خاص يقوم على التكثيف والتجريد يناسب هذا النوع من الأشكال الإبداعية.
واستمرت الرواية القصيرة تعيش حالة ازدهار، إذ كتب إبراهيم عبدالمجيد روايات قصيرة عدة منها: اليلة العشق والدمب، واالصياد واليمامةب، واقناديل البحرب، واشهد القلعةب، بينما كتبت سلوى بكر رواية قصيرة بعنوان امقام عطيةب، وكتب محمد جبريل روايته القصيرة االأسوارب، بدوره كتب صبرى موسى روايته القصيرة احادث النصف مترب، ومحمد سلماوى االخرز الملونب، ومحمد حجاج االزلزالب، أما أهم رواية قصيرة على المستوى العربى فهى ارجال فى الشمسب لغسان كنفاني.
الناقد حسن الجوخ، صاحب كتاب االرواية القصيرةب، يوضح هذه الظاهرة الأدبية ويقول: اانتشار هذا الفن فى هذه الحقبة من تاريخنا المعاصر، يعود إلى عدة أسباب من ضمنها الثورة التكنولوجية فى جميع وسائل الاتصال، التى تمارس تأثيرها على أشكال الأدب وإيقاعه وفنياته، إذ أدت سرعة إيقاع العصر فى التغيير والتطور، وسرعة تغيُّر التوجهات الفكرية والسياسية والاقتصادية، وتوالى أحداث عالمية مؤثرة، إلى أن تصبح الرواية القصيرة شكلا سردًيا يتساوق وإيقاع هذا العصر الراكض اللاهث المتوترب.
وأشار إلى أن تطور القصة القصيرة وازدهارها وتطورها المطرد فى الآونة الأخيرة، وضع كتّاب الرواية الطويلة فى مأزق صعب، من ثم أخذوا يتوجهون إلى شكل الرواية القصيرة، كمحاولة للخروج من هذا المأزق، بل راحوا يدمجون بين فنى القصة القصيرة والرواية، مستجيبين فى ذلك لروح عصرهم وطبيعته وسرعة إيقاعه، لافتا إلى أن الضغوط التى يعانيها الإنسان المعاصر المتوتر، ورغبته الدائمة فى التغيير والتجديد، تجعله لا يُقبل على كتابة الرواية الطويلة أو الملحمية ذات القواعد الكلاسيكية المحددة، مما هيّأ فرصا ذهبية لكتّاب الرواية القصيرة فانتشرت رواياتهم، واتسعت قاعدة قرائهمب.