«أمية الرسول» في خواطر الإمام الشعراوي

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يقول الحق فى الآية 44 من سورة القصص: «وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ»، وقوله: «بِجَانِبِ الغربي...» أي: الجانب الغربى من البقعة المباركة من الشجرة، وهو المكان الذى كلَّم الله فيه موسى وأرسله «إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر...» يعني: أمرناه به أمراً مقطوعاً به، وهو الرسالة «وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين».

ولك أنْ تسأل: إذا لم يكُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً لهذه الأحداث، فمَنْ أخبره بها؟ نقول: أخبره الله تعالى، فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر، أو قرأها فى كتب السابقين.. نقول: لقد شهد له قومه بأنه أُميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يُعْلَم عنه أنه جلس فى يوم من الأيام إلى مُعلِّم، كذلك كانوا يعرفون سيرته فى حياته وسفرياته ورحلاته، ولم يكُنْ فيها شيء من هذه الأحداث.

لذلك لما اتهموا رسول الله أنه جلس إلى معلم، وقالوا: كما حكى القرآن: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...» «النحل: 103» ردَّ القرآن عليهم فى بساطة: «لِّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» «النحل: 103».

وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول الله وكذلك كانت الأمة التى بُعِث فيها رسول الله أمة أمية، فمَّمن تعلَّم إذن؟،وإذا كانت الأمية صفة مذمومة ننفر منها، حتى أن أحد سطحيى الفهم يقول: لا تقولوا لرسول الله أميٌّ ونقول: إن كانت الأمية مَذمَّة، فهى ميزة فى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمى يعنى المنسوب إلى الأم وما يزال على طبيعته لا يعرف شيئاً.

واقرأ قوله تعالى:» والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً...» «النحل: 78» ونقول فى المثل(فلان زى ما ولدتْه أمه) يعني: لا يعرف شيئاً، وهذه مذمة فى عامة البشر؛ لأنه لم يتعلم ممَّنْ حوله، ولم يستفِدْ من خبرات الحياة.

أما الأمية عند رسول الله فشرف؛ لأن قصارى المتعلِّم فى أيِّ أمة من الأمم أنْ يأخذ بطرفٍ من العلم من أمثاله من البشر، فيكون مديناً له بهذا العلم، أمَّا رسول الله فقد تعلم من العليم الأعلى، فلم يتأثر فى علمه بأحد، وليس لأحد فضل عليه ولا منة.

لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب، هذه الأمة الأمية المتبدية التى لا يجمعها قانون، إنما لكل قبيلة فيها قانونها الخاص، يعجبون: كيف سادتْ هذه الأمةُ العالمَ، وغزتْ حضارتهم الدنيا فى نصف قرن من الزمان.

ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن الإسلام قفزة حضارية، كما قالوا بعد انتصارنا فى أكتوبر، وبعد أن رأى رجالنا أشياء غيرعادية تقاتل معهم، حتى أنهم لم يشكُّوا فى أنها تأييد من الله تعالى لجيش بدأ المعركة بصيحة الله أكبر،

وإذا ثَقُلَ على هؤلاء الاعتراف بجنود الله بين صفوفهم، أليس المهندس الذى اهتدى إلى فكرة استخدام ضغط الماء فى فتح الطريق في(بارليف) لينفذ منه الجنود، أليس من جنود الله؟. نعود إلى قضية الأمية ونقول لمن ينادى بمحو الأمية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر؛ ليتكم قُلْتُم نمحو الأمية عندهم لنعلمهم عن الله.

إذن: فقوله تعالى: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين» يعني: ما رأى محمد هذه الأحداث ولا حضرها، ثم يقول الحق سبحانه: «وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ».. أهل مدين هم قوم شعيب عليه السلام، وكان لهم شُغُل بالقراءة، لذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «وَمَا كُنتَ ثَاوِياً...» أي: مقيماً «فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا...» أي: تلاوة المتعلم كما يتلو التلميذ على أستاذه ليُصحِّح له «وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» أي: أن الرسالات كلها منا: مَنْ كان يقرأ، ومن كان أمياً.