يوميات الأخبار

روزاليوسف حين سجلت طموحى فوق ساقها المكسورة

مفيد فوزى
مفيد فوزى

مفيد فوزى

فى يوم من الأيام وكنت أتعامل بالقطعة فالخبر الصغير يدفعون 25 قرشا والخبر الكبير يدفعون جنيها أما الخبر فى حكاية فيدفعون جنيها ونصفاً والموضوع الصحفى ثلاثة جنيهات

-١-
أصفها لكم، كما رأت عينى.
قصيرة كما تتشبث بالأرض. ليست نحيلة كالهوانم ذوات الأظافر الطويلة المطلية بمبى. رأسها كبير مثبت فوق جسد يتحدى الضعف والوهن. واثقة الخطوة تمشى ببطء الحذر. وجه جميل القسمات يرفض توقيع الزمن. ارادة قوية يشى بها صوتها المجلجل. عينان كالصقر لكنهما يفيضان حنانا. وإن كان للحزم رائحة فإن وجودها هو الحزم كله. لها طلة زودتها السنون بالخبرة، ففى صمتها رأى. كنت اراها تسير أمامى فى صالة روزاليوسف المبلطة كما شوارع عابدين وأنا بعد اتدرب داخل قلعة حرية، اطلق عليها كامل زهيرى −واحد من فرسان روزا: «التعبير فى الهواء الطلق». كتمت انفاسى داخل ضلوعى حتى لا تخذلنى آهة تسمعها «الست» كما كان شائعا عنها. الست، ليس لقبا ولا وصفا ولكنه كيان امرأة، بعض النساء ستات ولكنهن لسن ستات. الست روزا كانت «ست» بمفهوم المرأة الفاعلة المؤثرة القوية ولا تنسى أم «سان». وسان هو اختصار اسم احسان عبدالقدوس، وقد سمعتها مرات تنادى عليه غاضبة فإذا ما رأته صارت معاتبة وتلاشى الغضب، صحيح ان «سان» ولد وصار شابا وكبر وصار رئيسا للتحرير. كان يريد أن يثبت لها انه جدير بموقعه وكانت الست تنسى امومتها لحظة المهنية. لم اجرؤ فى ذلك الحين أن ألقى عليها تحية الصباح فمن أكون؟ عميد الإمام؟ سامى الليثي؟ سامى داود؟ أبوالعينين؟ فتحى خليل؟ انا لا أحد، ولهذا اكتفيت أن اراقب «موكبها» داخل الصالة فى مبنى روزا 18 شارع محمد سعيد.
-٢-
كانت ترافقها دائما العزيزة الكاتبة مديحة عزت صاحبة باب «تحياتى إلى زوجك العزيز». السيدة روزا أو الست كانت تستريح لمديحة. وكانت مديحة تفهم وتستوعب طباع الست. فإذا غضبت الست وصاحت وجلجل صوتها لاذت مديحة بالصمت. وإذا رأت مديحة، الست «تعنف» سان −إحسان عبدالقدوس− لأى سبب، اكتفت بالصمت وإذا طلبت الست أن تقرأ لها مديحة شيئا سارعت وقرأته. كانت مديحة عزت تحترم الست وتحبها وتراها نموذجا باهرا لنساء العصر. كانت ترى فى مكتبها كبراء رجالات مصر والشخصيات الشهيرة ونجوم الصحافة الذين بدأوا مشوارهم الصحفى فى روزاليوسف. كانت تخفى اعجابها بما يكتبه ابنها احسان لتحميه من الغرور. لم تكن الست تذهب لمقر الجريدة كل يوم ولكنها كانت تختار بعض أيام الاسبوع للذهاب وكان عدد قليل من كتاب الدار يراها ويصافحها ويتحدث معها ومن أهم هؤلاء أحمد بهاء الدين. كانت الست تؤثره على غيره من الكتاب وكانت تصفه بكلمة واحدة هى «موزون» وإذا قالت الست عن أحد انه موزون فهى تقدر عقله وانه «لا يشط» وكانت مقالات بهاء تتميز بالرصانة وانه قادر على مخاطبة النصف متعلم قبل المثقف. وقد بلغ من حب الست لقلم أحمد بهاء الدين انها خصته بقصة حياتها، حيث روت له حكايتها من الألف إلى الياء وكتبها أحمد بهاء الدين بصياغة باهرة وتحولت إلى كتاب منسوبا إلى فاطمة اليوسف أى الست روزا. سارة برنار الشرق كما كانوا يطلقون عليها. ولم أكن اعرف معلومات كثيرة عن السيدة آمال طليمات شقيقة احسان إلا من صفحات المجتمع وربما استطعت التعرف على الاستاذ سامى الليثى أهم «مخبر صحفى» فى روزاليوسف وكان رغم حداثة عهدى بالصحافة بينى وبينه «كيمياء» وكنا نلتقى فى مقهى بشارع عرابى فى وسط البلد قريب من مكتب الموسيقار عبدالوهاب. ولم استطع التعامل مع الاستاذ سرى الدين فكان يأمرنى إذا دخلت من الباب أن أغلقه خلفى. فأنفذ ما يقول. كانت الست هى الشخصية التى يهابها الجميع ولا أعرف سر السحر الشخصى فيها الذى يجعلها محل الاحترام والتبجيل. لكنى كنت إذا رأيتها فى صالة التحرير اقف احتراما.
كانت الست تعرف كواليس السياسة ولها رأى فى الاحزاب وهم «يعملون لها ألف حساب» وكانت بعض المظاهرات تقصد روزاليوسف إذا شنت هجوما على حزب من الاحزاب وكان «الوفد» غالبا.
-٣-
فى يوم من الأيام وكنت أتعامل بالقطعة فالخبر الصغير يدفعون 25 قرشا والخبر الكبير يدفعون جنيها أما الخبر فى حكاية فيدفعون جنيها ونصفاً والموضوع الصحفى ثلاثة جنيهات. كنت اقبض من الاستاذ إبراهيم خليل مدير الخزنة فى الدور الثالث من المبنى القديم قبل أن ننتقل إلى شارع قصر العينى. وسرى خبر بين المحررين أن الست «وقعت» على سلم الدار وتألمت وبكت ولم ير أحد دموعها سوى مديحة. وجاء المجبراتى وقام بعمل «جبيرة» لساقها على أن ترفعها دائما لتجرى الدماء فى الساق وتتعافى بسرعة. وعلمت ذات صباح وكنت اركب ترام 30 من شبرا إلى شارع قصر العينى حيث مقر الدار مجاورة لمجلس الوزراء، أن الست قررت أن تخرج بساقها المكسورة وتأتى إلى روزا ولم تستجب لأى نصيحة بهدف الراحة. جاءت الست روزا ومعها مديحة واختارت غرفة رئيس التحرير لتبقى فيها ودخل كتاب كبار وسجل كل منهم أمنيته لها بالشفاء بقلم فلوماستر اسود. كل منهم كتب عبارة تقليدية فلا يجوز الهزار مع الست، ثم ان الأمر لا يحتمل الهزار. كنت أقف خارج الغرفة ولمحنى أحمد بهاء الدين فقال لى: ادخل قول للست سلامتك. كان الاستاذ بهاء يلاحظ «مواظبتى» على الحضور ومواظبتى على تقديم أخبار وكانت الست قد اسندت لكاتب المقال الاسبوعى «حاول أن تفهم» وهو أحمد بهاء الدين مهمة رئاسة تحرير مجلة صباح الخير التى رأيت من كتابها «لويس جريس ومصطفى محمود» المهم تجرأت ودخلت واثار دخولى دهشة رسام الكاريكاتير بهجت عثمان فلم يكن قد رآنى بعد. وعند ساق الست المكسورة فعلت مثلما سبقنى الاساتذة فى كتابة كلمات التمنى العاجل بالشفاء إلا انى كسرت القاعدة وكتبت كلاما بقلم فلوماستر أحمر مختلف عن الصيغة التى تملأ «الجبيرة» التى تغلف ساقها. ولا أعرف حتى هذه اللحظة سر جرأتى فى تسجيل «طموحاتى» فوق ساق الست المكسورة إذ كتبت فوق الساق المكسورة: أتمنى أن أصبح صحفيا مرموقا اكتب من عواصم العالم ووقعت اسمى «مفيد فوزى» واخترت البنط الذى ينشر به «12 أسود» وحرص أحمد بهاء الدين أن يقرأ كلمتى فلم يجد أى معلومة لها صلة بحادث سقوط الست. قرأ كلمتى واصابته دهشة لم يستطع أن يخفيها. فاستدعانى جانبا وقال لى بلهجة لوم ممزوج بالغضب «حد فى الدنيا يزور ست مكسورة ويكتب على رجلها المكسورة امانيه الشخصية»؟! وخجلت من الرد لكنى ابتسمت ويبدو أن الست سمعت كلام بهاء وطلبت أن تعرف المناقشة، فباح بها بهاء الدين وفوجئت بها تضحك وكانت هذه أول مرة أراها وأرى أسنانها. وإذا بمديحة عزت تقوم وتقرأ تعليقى المسجل فوق ساق الست المكسورة وقالت «الواد مفيد ده مختلف». اعتادت مديحة أن تنادينى «الواد مفيد» لعمق علاقتنا وكثيرا ما أشادت بى فى بابها الأسبوعى الذى تنشره بانتظام شديد. ويبدو لى أن الست تفكر فى شىء ما يخصنى ولم اكن اعرفه ولكن بعد أيام قليلة طلبت من أحمد بهاء الدين أن يصدر قرارا بتعيينى فى صباح الخير وكنت أول محرر يصدر قرار بضمه إلى طابور محررى مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة. وبدأت المشوار الطويل حيث أحمل 50 عاما على ظهرى من المهنية.
حين انظر خلفى إلى زمان الصحافة (الرأى) قبل «الخبر» اكتشف اننا كنا نعطى «المهنة» ارواحنا ودموعنا وكنا «آلة وعى» فى عضل الانسان المصرى. ان الاسماء الكبيرة التى تلألأت فى عالم الصحافة لن تتكرر لأنها فريدة فى زمانها. انهم أصحاب مدارس فى أساليب الكتابة. كانت الكلمة على سن قلم الكاتب يحرسها الضمير قبل ان تدلف إلى تروس المطابع.
ان روزاليوسف مدرسة التفكير فى الهواء الطلق مازالت تؤدى المهمة النبيلة «ضخ الوعى» جيلا بعد جيل.
القصيدة التغريدة!
كتبت له هذه المقدمة لعل أحدا يلتفت اليه:
طول عمرى أردد أن الموهوب يحتاج «فرصة» وكان الدكتور مصطفى سويف استاذ علم الجمال يرى ان المجتمع اذا راق له انتاج هذا الموهوب، فهو بمثابة اعتراف بموهبته. المهم الفرصة! وانا شخصيا وجدت من الكشافين العظام «فرصتى»!
والاستاذ فوزى حامد موهوب كشاعر ويملك أدواته. ويكتب القصيدة الخاطفة! وقصيدة فوزى حامد ايقاعها سريع وربما تحمل قيمة أو مثلا أو درسا. المهم ان هناك محتوى خصوصا فى أوجاع الزمن التى طالته! وآلام فوزى حامد «خصبت» قريحته وجعلت له لسانا ينطق بها ويبوح لنا!
هل أراد فوزى حامد أن يكتب القصيدة العصرية أى القصيدة «التغريدة»؟ ربما!
هل أراد الشاعر أن يتمشى معنا فى روضة الشعر، لأن الوقت لم يعد ترفا؟ ربما! لكن فوزى حامد يكتب قصائده الخاطفة من رحم وجع، ولعله لم يتذوق طعم الهناء إلا وهو يفصح لنا عن تلك اللحظات!
هو القائل:
وصعدت فوق مشاكلى فتألمت
قدماى من وخز.. مدبب قاسى!
هو القائل:
وعددت أيام الشقاء وجدتها
عمرى، وكنت اظنها اياما..
هو القائل:
لا استطيع لكيدهن مقاومة
ولقد هزمت من النساء كثيرا
سلم فتسلم فى الحياة معززا
وتعيش فى كنف النساء أميرا.
وهو القائل:
أتسألنى أبيع لك الحياة
أحسنت طلبت شيئا لا يساوى!
هذا هو فوزى حامد الشاعر المغرد على اغصان الحياة!
شاعر متألم يبوح.. وقلب باك يمسح بالشعر دموعه!
ثلاثة
1− خبر الأسبوع: ربط البحث العلمى باحتياجاتنا العملية من الصناعة الوطنية.
2− صورة الاسبوع: ظهور مبارك فى احتفالات استرداد طابا «أرشيف التليفزيون».
3− حفل توقيع كتاب المستشار أمير رمزى «أعداء مصر الخمسة» فى قصر عابدين بين مثقفين وفنانين.