ليلة الحناء 

مغازي شوقي
مغازي شوقي

تَعَدَّدَت طقوس وأعراف الزَّوَاج فِي مِصْر مُنْذ فَجْر التَّارِيخِ . اخْتَلَفَت وَفْقًا لِاتِّسَاع الرُّقْعَة السكانية وَتَنَوَّعَها عَطْفًا عَلَى التقسيمة الديموجرافيه للمصريين . فَتباينت مظَاهِرٌ وطقوس وَشُرُوط الزَّوَاج فِي الْحَضَرِ وَالْمُدُن الْكُبْرَى كَثِيرًا عَنْ مثيلاتها فِي الرِّيفِ وَالْبَادِيَة - وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَقْصِد - هُنَا سنتوقف الْآنَ عِنْدَ أَحَدٍ هَذِهِ الطقوس . . (ليلة الْحِنَّاء ) فِي عُرْفِ الرِّيف كبيئة للرصد . وَهِيَ أَحَدُ الْمُظَاهِر الْمُهِمَّة لِلاحْتِفَال بِالزَّوَاج . لَا تَقْتَصِرُ فَقَط عَلَى الْعَرُوسِ وَلَا حَتَّى عَلَى الْمِصْرِيِّين حصريا . فَلَيْلَة الْحِنَّاء هِيَ مِنْ تَقالِيدِ العَدِيدِ مِنَ الْبُلْدَانِ . فِي الْمَغْرِبِ وَالشَّام وَحَتَّى الْهِنْد تُعْرَف هُنَاك بِاسْم لَيْلَة الْكُرْكُم أَوْ مَا يُسَمَّى بَال ( كرادو بَاتًّا ) فِي الثَّقَافَةِ الْهِنْدِيَّة . . 
مَشْهَد 1 . قرية ريفية شمال الدلتا عَام 1980 
عَلَى ظَهْرِ أَحَدُ الْخُيُول الْعَرَبِيَّة الْأَصِيلَة أَدْهَم اللَّوْن أَو أَشْهَب ، ظَهَر مُرْتَدِيًا جِلْبَابَه الْأَبْيَض . تراقص الْخَيْلُ فِي نَغَم وَطَرَب عَلَى معزوفات الْمِزْمَار وَالطَّبْل الْبَلَدِيُّ مِنْ فَرْقِهِ الْعَمّ رَاغِبٌ . مرحبين بِموكب دُخُول العَرِيس وَكَأَنَّهَ رِكَاب لِلْخَلِيفَة فِي أَدَبِ الْمُتَصَوِّفِين . بِدَاخِل خَيْمَة ضَرَبَتْ عَلَى مِسَاحَةِ كَبِيرَة وتزركشت بِأَلْوان الْبَهْجَة ودعوات الْحَاضِرِين بِالرِّفَاء وَالْبَنَات وَالْبَنِين . دَار السَّاقِي بِأَكْوَاب الشَّاي عَلَى الحضور بَعْدَ أَنْ انْتَهَوْا مِنْ الطَّعَامِ وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَكَانَهُ فِي الحفل . 
تَرَجَّل العَرِيس بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ دَوْرَتِه فِي تَحِيَّةِ الجمع مِنْ فَوْقِ ظَهْرِ حِصَانَه الراقص . وَجلِس مُتَوَسِّطًا المكان وَمَن أمَامِه تمركزت شمعتان فَوْقَ سَطْحٍ مَكْتَب صَغِيرٌ . . وَإِلَى جِوَارِه جْلِس شَخْصَان اخْتَارُهُم بِعِنَايَة . . أَحَدُهُم يَقُوم بِتَسْجِيل مساهمات الْحُضُور ( مَا يُعْرَفُ بالنقطه ) فِي كُرَّاسَةٍ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ . وَالْآخَر يَجْمَع الْمُبَالَغ والمغلفات وَيَضَعُهَا فِي الحَقِيبَةِ ( السيمسونايت ) . طَاف الْجَمْع سَلَامًا عَلَى العَرِيس مُسْتَمِعِين ومستمتعين برقص الْخُيُول وَعَزْف سيمفونية الْمِزْمَار وَالطَّبْل الْبَلَدِيّ لأغاني حَلِيمٌ وَالسِّتّ وَنَجَاةٌ وَغَيْرِهِم . 
فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ الْقَرْيَةِ كَانَ حَفْلَ الحناء لِلْعَرُوس . جَرَتْ الْعَادَةُ دَوْمًا أَنَّ يكونَ أَكْثَر بِسَاطِه . حَيْث اجْتَمَعَت نِسَاء وَبَنَات الْقَرْيَة حَوْلَهَا . جَلَسَت سِتّ الْحَسَنِ فِي كُوشَة بَسِيطِه مِنْ جَرِيدٍ النَّخِيل وخلفية مِن الملائات القماشية السَّادَة وَبَعْضًا مِنْ البالونات الْبَسِيطَة . تَرَاصَّت النِّسَاء وَالْبَنَاتُ فِي دَوائِر مُتَوَازِيَة مرددات الْأَغَانِي الْمَعْرُوفَة لِفَاطِمَة عِيدٍ أَوْ خَضِرَةٌ مُحَمَّد خُضْر وَغَيْرِهِنّ . . أَمْسَكَت إحْدَاهُنّ بالطبلة وَبِصَوْت عَال بَدَأَت (يا حُلْوٌ . . وَش دَلَّك عَلَى نسبنا ؟ . . خدت الْأَصِيلَة بِنْت شَيْخ بَلَدِنَا . . يَا حُلْوٌ . . وَش دَلَّك عَلَى دِي الْحَارَّة ؟ . . خدت الْأَصِيلَة وَأُمّهَا نوارة . . تستاهليه ياللي رِجالكَ دُوَلاً .. ) وَتَطَوُّل اغانيهن ورقصاتهن العفوية حَتَّى يقاطعها مَشْهَد دُخُول طِبْق كَبِيرٌ مِنْ الْحِنَّاءِ النوبي أوالهندي لتبدأ مَرَاسِم تَزْيِين يَد العروسة وَرِجْلَيْهَا وَكَأَنَّهَا عَلَامَةٌ تُودَع بِهَا حَيَاةٌ الْمَرِح وتستقبل بِهَا عَالم المسئولية . إَذِن خُرُوجٍ مِنْ بَيْتِ أَبِيهَا وحضن أُمِّهَا إلَى بَيْتِهَا الْجَدِيد . تَصَاعَدت الْأَصْوَات وَارْتَفَعَت الْحَنَاجِر بِالْغِنَاء حِينَ وَصَل مَوْكِب العَرِيس سَيْرا عَلَى أقْدَامَه لِيُسَلِّمْ عَلَى ست الحسن فِي زِينَتِهَا . . تسابقت نِسَاءُ الْقَرْيَةِ فِي نَثَر مَا جَمَعُوه مِن زُهُور وَرَد وياسمين أَوْ حَتَّى لفات من الحَلَبَة الخَضْرَاء أَوْ وَرِقٍ الصَّفْصَافِ والليمون . . 
مَشْهَد 2  لنفس القرية عَام 2020 
عَلَى مشارف الْقَرْيَة . كُلِّ الْأَشْيَاءِ تَغَيَّرَت . الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . اللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ . حَتَّى وُجُوهَ النَّاسِ وأزيائهم . فِي مَدْخَل الْقَرْيَة وُضِعَت بَوَّابَة خَشَبِيَّةٌ ضَخْمَةٌ ومرتفعة. . علَقَ فِيهَا أطنان مِن اللمبات بِمُخْتَلِف الْأَلْوَان . . وَحَلَّت عَلَيْهَا رُوحُ الْحَدَاثَة بأعمدة إِنارَة بتكنولوجيا جَدِيدَة تَرَسم دَوائِر وَاسِعَة تَقْبِضْ الْعَيْنَ وَتَزِيد الضَّغْطِ عَلَى اعصابها . وَعَلَى جَانِبَي المسار وَالطَّرِيق إلَى الحفل تسابقت كائِنات مِنْ الْفَضَاءِ الخارِجِيِّ متنازعة الْمِسَاحَةِ فِي الِاصْطِفَافِ بِشَكْل عبثي وَكَأَنَّه عِرَاك بَيْن التوكتوك ومكبرات صَوْت بِحَجْم الْفِيل . . تَغَيَّر الْمَشْهَد كثيراً . . اسْتَبْدَلْت الْخِيَام الْقَدِيمَة بخلفيات جدارية وستائر بِأَلْوان عَدِيدَة مُزَرْكَشَة وَغَطَّى السجَّاد الْأَرْضِيَّة التُّرَابِيَّة حَتَّى تَلاَشَت رَائِحَتُهَا . جَلَس المدعوون بَعْدَ أَنْ تبادلو ا التَّحِيَّة بِالْعُيُون تَارَةً وَتَارَةً بالإيماءات أَوْ حَتَّى بِسَلَام فَاتِرٌ . . كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى كُرْسِيِّهِ مطالعا جَوَّالَةٌ . جَاء فَقَط بجسده ليسجل اسْمُهُ فِي دَفْتَرٍ النُّقْطَة وَهُوَ بِذَلِكَ قَدْ أَدَّى وَاجِبَهُ . . أَوْ هَكَذَا يَظُنّ . بَعْض الْفِتْيَة اللَّذَيْن اخْتَارُوا شَكْلا مُعَيَّنًا لحلاقة رُؤُوسَهُم حَتَّى تَكَادَ أَنْ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَهُم . تَشَابَهَت طَرِيقَتِهِم فِي كُلِّ شَيْءٍ . . فَوْضَى عَلَى أَصْوَاتِ مهرجانات كَثِيرَةٌ يَحْفَظُونَهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ بَيْنَمَا اِسْتَعْصَت عَلِيّ أحياناً تَرْجَمَة مَعَانِيهَا أَوْ حَتَّى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ المستخدمة . . وَرُبَّمَا غَالَى بَعْضَ الشَّبَابِ مِنْهُم وَأَمْسَك بساطور أوسكين وَرَاح يَتَمَايَل مَع وَقَع الموسيقى ومكبرات الصَّوْت الَّتِي تَعْلُو بِشَكْل هيستيري . سَاعَة وَاحِدَة أَوْ رُبَّمَا اثْنَتَان كَافِيَةٌ جِدًّا لِمِثْلِ هَذَا الضجيج . بَعْدَهَا يَنْصَرِف الْجَمِيع . . 
فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ الْقَرْيَةِ . . كان حفل  العَرُوس . وَعَلَى غَيْرِ مَا جَرَى كَان أَكْثَر صَخبا . . وَأَطْوَل مُدَّة . . لَا مَكَان فِيهِ لطبق الْحِنَّاء الأَسْوَانِيّ وَلَا وُجُودَ للأغاني الْقَدِيمَةِ وَلَا صَوْت يَعْلُو فِيهِ فَوْقَ صَوْتِ آل دِي جِيه . . غَابَت أُغْنِيَّة فَاطِمَة عِيد ( أَنَا بِنْتُ عَمِّك . . يَا سَلَام عَلِيًّا . . لالبسلك الطَّرْحَة ايوة . . وَعَيْنِيٌّ فِيهَا الْفَرْحَة . . جنَيْنَة الْحَبّ طارحة . . حَلَاوَة رَبَّانِيَّةٌ ) وَحَلَّت مَكَانَهَا ايقاعات غريبة جدا . . 
وَبَيْن الْمَشْهَدَيْن . نوستالجيا جَمِيلَة وَوَاقِعٌ مُخْتَلَفٌ . مَاض يَحْيَا فِينَا ببساطته . وَوَاقِعٌ نحاول أن نفهم مفرداته . تَخَيَّلْت فوارق عِدَّة . وَتَذَكَّرَت أَشْيَاءَ كُثر . لَكِنَّنِي لَم أَنْسَى يَوْمًا دُرُوس لَيْلَة الْحِنَّاء وَوَصَايَا الْأُمَّهَاتِ لبناتها فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ . . غَدًا تكونين فِي بَيْتِك ملكة يَا سِتّ الْحَسَن . . كَوْنِي لَهُ خَدِيجَةُ . . يَكُن لِكَ مُحَمَّدًا . . بَيْنَمَا يختلي الْأَب مُعَلِّمًا ابْنِه بِكَلِمَات قَلِيلِة . . كُنّ لَهَا عَلِيًّا . . تَكُنْ لَك فَاطِمَة . .