أبناء حورة .. وعالم ما بعد الكورونا

أبناء حورة
أبناء حورة

دينا‭ ‬نبيل

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لشيء‭ ‬لا‭ ‬مرئى‭ ‬أن‭ ‬يقلب‭ ‬العالم‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب؟‭ ‬كيف‭ ‬بإمكانه‭ ‬التهديد‭ ‬بالإطاحة‭ ‬بحضارة‭ ‬بأكملها‭ ‬بحيث‭ ‬تقف‭ ‬أيدى‭ ‬البشرية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬أوتيت‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬وعلم‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬مشلولة‭ ‬أمام‭ ‬قوته‭ ‬العاتية‭ ‬التى‭ ‬تودى‭ ‬بالأرواح؟‭ ‬إنه‭ ‬الوهم‭ ‬إذن،‭ ‬وهم‭ ‬اعتقاد‭ ‬البشر‭ ‬امتلاكهم‭ ‬مفاتيح‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬قوانين‭ ‬الطبيعة؛‭ ‬فأدرك‭ ‬الإنسان‭ ‬مدى‭ ‬ضعفه‭ ‬أمام‭ ‬أصغر‭ ‬الكائنات‭. ‬فاستطاع‭ ‬فيروس‭ ‬واحد‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬فقدان‭ ‬البشر‭ ‬لموقع‭ ‬السيطرة،‭ ‬بل‭ ‬حرصًا‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭ ‬يحبسون‭ ‬أنفسهم‭ ‬فى‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬يعودون‭ ‬إلى‭ ‬الكهف‭ ‬كسيرة‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول‭ ‬فى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المخلوقات‭ ‬الأقوى‭ ‬والأكثر‭ ‬شراسة‭ ‬منه‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬فإن‭ ‬السعى‭ ‬نحو‭ ‬تجسيد‭ ‬حال‭ (‬الأبوكاليبس‭) ‬أو‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى‭ ‬وفقًا‭ ‬للفظ‭ ‬الإغريقى‭ ‬أصبح‭ ‬هم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬وكأن‭ ‬البشر‭ ‬كانوا‭ ‬فى‭ ‬غيبوبة‭ ‬وكانت‭ ‬الإفاقة‭ ‬الحتمية‭ ‬منها‭ ‬بعد‭ ‬ظهور‭ ‬ذلك‭ ‬الفيروس‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭

. ‬وقد‭ ‬أوضح‭ ‬الدكتور‭ ‬شاكر‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬فى‭ ‬مقاله‭ ‬“ما‭ ‬بعد‭ ‬الكورونيالية”‭ ‬وفى‭ ‬تقديمه‭ ‬لذلك‭ ‬المصطلح‭ ‬الذى‭ ‬قام‭ ‬بصياغته،‭ ‬أن‭ ‬دراسة‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكورونيالية‭ ‬يتعلق‭ ‬“بكل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وسيحدث‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظهر‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬سمعنا‭ ‬الأخبار‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬وجوده‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬ووهان‭ ‬الصينية‭ ‬ثم‭ ‬انتشاره‭ ‬وتأثيراته‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬كافة”‭ ‬بما‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬حياتهم‭ ‬الإبداعية‭. ‬ورواية‭ ‬“أبناء‭ ‬حورة”‭ (‬‮٢٠٢١‬‭) ‬للكاتب‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬كمال‭ ‬تمثل‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭.‬

تدور‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬حول‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكورونا‭ ‬التى‭ ‬كما‭ ‬يراها‭ ‬الكاتب‭ ‬تبدأ‭ ‬بعد‭ ‬السنة‭ ‬الثلاثين‭ ‬بعد‭ ‬الألفين‭ ‬أو‭ ‬هى‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬“تعافت‭ ‬خلالها‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى”،‭ ‬عندما‭ ‬شوهدت‭ ‬أربع‭ ‬بيضات‭ ‬عملاقة‭ ‬فى‭ ‬أربع‭ ‬ميادين‭ ‬مهمة‭ ‬لأربع‭ ‬مدن‭ ‬مختلفة‭ ‬فى‭ ‬شمال‭ ‬أفريقيا،‭ ‬يُذكر‭ ‬منها‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬وساحة‭ ‬الاستقلال‭ ‬فى‭ ‬تونس‭. ‬تنتمى‭ ‬تلك‭ ‬البيضات‭ ‬الأربع‭ ‬إلى‭ (‬حورة‭) ‬–‭ ‬نصف‭ ‬امرأة‭ ‬ونصف‭ ‬طائر‭ ‬فى‭ ‬حجم‭ ‬طائر‭ ‬الرّخ‭. ‬تنكسر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البيضات‭ ‬فى‭ ‬ظروف‭ ‬متباينة‭ ‬ويخرج‭ ‬منها‭ ‬كائنات‭ ‬غريبة‭ ‬معروفة‭ ‬بـــ‭ (‬أبناء‭ ‬حورة‭) ‬–‭ ‬لديهم‭ ‬“رأس‭ ‬وذراعان‭ ‬ويدان‭ ‬وقدمان‭. ‬كان‭ ‬الطفل‭ ‬الواحد‭ ‬يتجاوز‭ ‬طوله‭ ‬المترين‭ ‬ونصف،‭ ‬ويصل‭ ‬وزنه‭ ‬إلى‭ ‬مائة‭ ‬وخمسين‭ ‬كيلو‭ ‬جرامًا‭.. ‬وهم‭ ‬برأس‭ ‬طائر‭ ‬عادى‭ ‬كبير‭ ‬بمنقار‭ ‬أزرق”‭ ‬لهم‭ ‬عقول‭ ‬تفوق‭ ‬قوة‭ ‬العقل‭ ‬البشرى‭ ‬تتولى‭ ‬زمام‭ ‬الحكم‭ ‬والتحكّم‭ ‬فى‭ ‬أفعال‭ ‬وعقول‭ ‬البشر‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬غامضة‭. ‬وتتحول‭ ‬قشرة‭ ‬البيضة‭ ‬المنكسرة‭ ‬التى‭ ‬يُشار‭ ‬إليها‭ ‬لاحقًا‭ ‬باسم‭ (‬المقر‭) ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬محاكمة‭ ‬حيث‭ ‬يتولى‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬مهمة‭ ‬تطهير‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬الشرور‭ ‬العالقة‭ ‬بهم‭ ‬أو‭ ‬تطهير‭ ‬العالم‭ ‬منهم‭ ‬بالكامل‭. ‬

تبدو‭ ‬الرواية‭ ‬غرائبية‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬والقارئ‭ ‬للصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬منها‭ ‬يلحظ‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الغرابة‭ ‬تستمد‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬رافدين‭ ‬رئيسين‭: ‬أجواء‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬والخيال‭ ‬العلمى‭. ‬تظهر‭ ‬أجواء‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬بقوة‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ (‬حورة‭) ‬وزواجها‭ ‬من‭ (‬جمال‭) ‬وتأثير‭ ‬دموعها‭ ‬السحرى‭ ‬فى‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬الأسقام‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬طائر‭ ‬العنقاء‭ ‬الذى‭ ‬تتسع‭ ‬مدلولاته‭ ‬الأسطورية‭ ‬والرمزية‭ ‬لتشمل‭ ‬التراث‭ ‬الإنسانى‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭. ‬ويظهر‭ ‬الخيال‭ ‬العلمى‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬الذى‭ ‬يتخذ‭ ‬تحوّرًا‭ ‬جديدًا‭ ‬وخطيرًا‭ ‬عندما‭ ‬صار‭ ‬ينتقل‭ ‬عبر‭ ‬الصور‭ ‬المرئية‭. ‬تتسع‭ ‬الهوة‭ ‬“ظاهريًّا”‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الرافدين‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الأول‭ ‬يضرب‭ ‬بجذوره‭ ‬فى‭ ‬عمق‭ ‬التراث‭ ‬الإنسانى‭ ‬بينما‭ ‬يرصد‭ ‬الثانى‭ ‬إطار‭ ‬زمنى‭ ‬مستقبلى‭ ‬مبنى‭ ‬على‭ ‬التأملات‭ ‬الفانتازية‭ ‬العلمية‭ ‬التى‭ ‬تعقب‭ ‬ظهور‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬وما‭ ‬ستؤول‭ ‬إليه‭ ‬الحياة‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬ولكن‭ ‬يلتقى‭ ‬هذان‭ ‬الرافدان‭ ‬فى‭ ‬التطرّق‭ ‬لموضوعات‭ ‬فلسفية‭ ‬حول‭ ‬فكرة‭ ‬السلطة‭ ‬وفقدان‭ ‬الهيمنة‭ ‬البشرية‭ ‬وزيف‭ ‬الحقائق‭ ‬وإعادة‭ ‬تخليقها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬مصداقية‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الغرائبية‭ ‬ممهّدة‭ ‬للقادم‭ ‬من‭ ‬الأحداث،‭ ‬فلو‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬لم‭ ‬يحدد‭ ‬سنة‭ ‬بعينها‭ ‬لكانت‭ ‬الغرائبية‭ ‬أكثر‭ ‬صدقًا‭ ‬وتصديقًا؛‭ ‬فالسنوات‭ ‬التى‭ ‬يحددها‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬أعوام‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬وقتنا‭ ‬الحالي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬بعض‭ ‬الفنتازيا‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الإقناع‭. ‬ولعل‭ ‬القارئ‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬جمع‭ ‬الكاتب‭ ‬لهذين‭ ‬الرافدين‭ ‬–‭ ‬التراث‭ ‬والخيال‭ ‬العلمى‭ - ‬معًا‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التباين‭ ‬الشديد‭ ‬بينهما،‭ ‬ولعل‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬فرضيّات‭ ‬تطرح‭ ‬نفسها‭ ‬بقوة‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬وأولها‭ ‬هى‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬البدايات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استنطاق‭ ‬الماضى‭ ‬ليجيب‭ ‬عن‭ ‬تساؤلات‭ ‬الحاضر‭ ‬ومخاوف‭ ‬المستقبل‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أعتقد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬تشغل‭ ‬بال‭ ‬الكاتب‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬كمال،‭ ‬فلم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يعالجها‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬كتاباته‭ ‬للأعمال‭ ‬السينمائية‭ ‬أيضًا‭. ‬

يوغل‭ ‬الكاتب‭ ‬فى‭ ‬استحضار‭ ‬صور‭ ‬البداءة‭ ‬الأسطورية‭ ‬ويضعها‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬فرضيات‭ ‬المستقبل،‭ ‬فتظهر‭ ‬الحيوانات‭ ‬العملاقة‭ ‬وتوضع‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬زمنى‭ ‬مستقبلى‭ ‬لتطرح‭ ‬قضايا‭ ‬فلسفية‭ ‬متعلقة‭ ‬بالهيمنة‭ ‬البشرية‭ ‬وتساؤلات‭ ‬حول‭ ‬من‭ ‬الذى‭ ‬يمتلك‭ ‬السلطة‭. ‬ليس‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬الكائن‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬المسيطر‭ ‬عليه،‭ ‬فإنها‭ ‬سيطرة‭ ‬زائفة‭ ‬وهشّة،‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬“فظهر‭ ‬الصرصار‭ ‬الذى‭ ‬يمتد‭ ‬طوله‭ ‬لمترين،‭ ‬والنملة‭ ‬الضخمة‭ ‬وصارت‭ ‬السحالى‭ ‬تستريح‭ ‬فى‭ ‬الميادين‭ ‬الكبرى‭ ‬الواحدة‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬حجم‭ ‬النافورة‭... ‬وكانت‭ ‬معارك‭ ‬شرسة‭ ‬فى‭ ‬السنة‭ ‬الحادية‭ ‬والثلاثين‭ ‬بعد‭ ‬الألفين‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬وما‭ ‬تضخم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات”‭. ‬إن‭ ‬ظهور‭ ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬الممهّد‭ ‬لظهور‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬وتحكمهم‭ ‬فى‭ ‬البشر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬غرائبية،‭ ‬فإنها‭ ‬غرائبية‭ ‬حقيقية‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬غرابة‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكورونا،‭ ‬التى‭ ‬تنفلت‭ ‬فيها‭ ‬حبال‭ ‬السلطة‭ ‬والقوة‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬البشر‭. ‬

تتمظهر‭ ‬الغرابة‭ ‬اللامرئية‭ - ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬طيور‭ ‬مرئية‭ ‬غريبة‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬التحكم‭ ‬اللاإرادى‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬فى‭ ‬تحكّم‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬فى‭ ‬عقول‭ ‬البشر‭ ‬واطلاعهم‭ ‬على‭ ‬نواياهم‭ ‬وقلوبهم‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مرئى‭ ‬بل‭ ‬ومحاسبتهم‭ ‬على‭ ‬أفكارهم‭ ‬بصورة‭ ‬مخيفة‭. ‬يقول‭ ‬الراوى‭ ‬عن‭ (‬حليم‭ ‬الخردواتي‭) ‬بعد‭ ‬سبّه‭ ‬لـــ‭(‬نبيل‭ ‬السمّاك‭): ‬“خرج‭ ‬ليتفقّد‭ ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬أحدًا‭ ‬خارج‭ ‬الدكّان‭ ‬ورأى‭ ‬نفسه‭ ‬يتحرّك‭ ‬قسرًا‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬المقر،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يملك‭ ‬حق‭ ‬التردد‭ ‬أو‭ ‬الرفض”‭. ‬ومن‭ ‬ثمّ،‭ ‬تسيطر‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬ارتكاب‭ ‬أصغر‭ ‬الأخطاء؛‭ ‬فإن‭ ‬مجرّد‭ ‬تخيل‭ ‬المحاسبة‭ ‬على‭ ‬النوايا‭ ‬ثم‭ ‬التحرك‭ ‬قسرًا‭ ‬بعد‭ ‬سلب‭ ‬الإرادة‭ ‬نحو‭ ‬بيضة‭ ‬عملاقة‭ (‬المقر‭) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحساب‭ ‬لهو‭ ‬أدعى‭ ‬إلى‭ ‬الرعب‭ ‬والقلق‭ ‬وترّقب‭ ‬الموت‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬فعل‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬يتم‭ ‬مراقبتها‭. ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬“التزم‭ ‬الناس‭ ‬بيوتهم‭... ‬وكان‭ ‬التواصل‭ ‬الإعلامى‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يأتى‭ ‬عبر‭ ‬رسائل‭ ‬مكتوبة‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬الموجود‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬المعيشة‭. ‬حائط‭ ‬زجاجى‭ ‬تسلّمه‭ ‬الدولة‭ ‬إجباريًا‭ ‬لكل‭ ‬عروسين‭ ‬فى‭ ‬بيتهما‭ ‬الجديد”‭. ‬تستدعى‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬نظام‭ ‬“الأخ‭ ‬الأكبر”‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ (‬‮١٩٨٤‬‭) ‬للكاتب‭ ‬جورج‭ ‬أورويل‭ ‬ومدلولاتها‭ ‬عن‭ ‬الهيمنة،‭ ‬فتمتلك‭ ‬هذه‭ ‬الكائنات‭ ‬طريقة‭ ‬ما‭ ‬للاتصال‭ ‬بالأفكار‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭. ‬إنها‭ ‬تلك‭ ‬الغرابة‭ ‬التى‭ ‬تخلق‭ ‬غربة‭ ‬لدى‭ ‬البشر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تسلبهم‭ ‬السلطة‭ ‬والحرية،‭ ‬ثم‭ ‬تسلبهم‭ ‬الإنسانية‭ ‬عندما‭ ‬يتحركون‭ ‬كمن‭ ‬تم‭ ‬تنويمهم‭ ‬مغناطيسيًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المحاسبة‭ ‬والمحاكمة‭. ‬ويتحوّل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمتلكه‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬للمحاسبة؛‭ ‬البيضة‭ ‬هى‭ (‬مقر‭) ‬المحاكمة،‭ (‬الريشة‭) ‬تصبح‭ ‬مثل‭ ‬السكين‭ ‬الذى‭ ‬يقطع‭ ‬الألسنة،‭ (‬المنقار‭) ‬يصير‭ ‬مقصًا‭ ‬يقطع‭ ‬الأعناق‭. ‬وبالنتيجة،‭ ‬تطرح‭ ‬الرواية‭ ‬تساؤلًا‭ ‬واضحًا‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬السلطة،‭ ‬فقبل‭ ‬حكم‭ (‬أبناء‭ ‬حورة‭) ‬هل‭ ‬كان‭ ‬البشر‭ ‬فى‭ ‬حال‭ ‬أفضل‭ ‬عندما‭ ‬كانوا‭ ‬يمتلكون‭ ‬مفاتيح‭ ‬السلطة؟‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬ولاسيما‭ ‬وأن‭ ‬حق‭ ‬السلطة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يومًا‭ ‬فى‭ ‬يد‭ ‬الجميع؛‭ ‬وإنما‭ ‬تمارسه‭ ‬فئة‭ ‬سلطوية‭ ‬محدودة‭ ‬على‭ ‬جموع‭ ‬البشر‭ ‬المهمشين،‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬تقوم‭ ‬بخلق‭ ‬عالم‭ ‬موازٍ‭ ‬تتسلم‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الكائنات‭ ‬مفاتيح‭ ‬السلطة‭ ‬ثم‭ ‬تمارسها‭ ‬على‭ ‬البشرية‭ ‬قاطبة‭ ‬وتضع‭ ‬البشر‭ ‬فى‭ ‬حكم‭ ‬المهمشين‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تحقق‭ ‬الرواية‭ ‬رؤية‭ ‬السلطة‭ ‬لدى‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو؛‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬المعرفة‭ ‬يمتلك‭ ‬السلطة،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬تخوّل‭ ‬الأخرى،‭ ‬فعندما‭ ‬امتلك‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬المعرفة‭ ‬امتلكوا‭ ‬السلطة‭. ‬

وعليه،‭ ‬يتحوّل‭ ‬المقر‭ ‬إلى‭ (‬مَطْهَرٍ‭) ‬بالمعنى‭ ‬الكاثوليكى‭ ‬للكلمة،‭ ‬ويصير‭ ‬هو‭ ‬المركز‭ ‬والمكان‭ ‬المهيمن‭ ‬بغرابته‭ ‬وما‭ ‬دونه‭ ‬يصير‭ ‬محض‭ ‬هامشٍ،‭ ‬و‭(‬المقر‭) ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬صورته‭ ‬المرئية‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬أعين‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭ ‬يظل‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬حضور‭ ‬دائم‭. ‬ولا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تطاله‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬اللايقين‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬المحاسبة‭ ‬داخله‭. ‬والمفارقة‭ ‬الأولى‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ (‬المقرّ‭) ‬هو‭ ‬دلالته‭ ‬اللفظية،‭ ‬تلك‭ ‬الكلمة‭ ‬الجوفاء‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تعنى‭ ‬شيئًا،‭ ‬فهذا‭ ‬المقر‭ ‬مقرٌ‭ ‬لأى‭ ‬شيء؟‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬تكمن‭ ‬المفارقة‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬المكان‭ ‬الذى‭ ‬تستقر‭ ‬فيه‭ ‬بيضات‭ ‬المقر‭ ‬–‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬وساحة‭ ‬الاستقلال‭ ‬–‭ ‬وهى‭ ‬أماكن‭ ‬ترتبط‭ ‬دلاليًا‭ ‬ووجدانيًا‭ ‬بالحرية‭ ‬والثورة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعلاء‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان؛‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬وجود‭ ‬تلك‭ ‬البيضات‭ ‬داخل‭ ‬تلك‭ ‬الميادين‭ ‬يصيب‭ ‬المتلقّى‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والتوتر‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬القمع‭ ‬والرعب‭ ‬يستقران‭ ‬وينبضان‭ ‬فى‭ ‬حضن‭ ‬ميادين‭ ‬الحرية‭ ‬والاستقلال‭. ‬لربما‭ ‬أراد‭ ‬الكاتب‭ ‬توجه‭ ‬تحذير‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنقلب‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬مرعب‭ ‬إن‭ ‬فقدت‭ ‬من‭ ‬يرعاها،‭ ‬فمن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تنبت‭ ‬بداخلها‭ ‬بذور‭ ‬مسمومة‭ ‬تعصف‭ ‬باليقين‭ ‬بها؛‭ ‬فيفضّل‭ ‬الإنسان‭ ‬الرعب‭ ‬والقمع‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬كرامته‭.‬

‭ ‬وللمفارقة‭ ‬يسعى‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬نحو‭ ‬خلق‭ ‬يقين‭ ‬جديد‭ ‬عبر‭ (‬الكلمة‭) ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اختفت‭ ‬الصور،‭ ‬فلقد‭ ‬‮«‬أشاع‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬القاتل‭ ‬ينتقل‭ ‬إليهم‭ ‬عبر‭ ‬الصور‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها،‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة‭ ‬والثابتة‭ ‬والمرسومة‭ ‬وهاج‭ ‬الناس‭ ‬وكسروا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمتّ‭ ‬للصورة‭ ‬بصلة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استغلّه‭ ‬بعض‭ ‬الساسة‭ ‬لطمس‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭. ‬يطلب‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬من‭ (‬حليم‭ ‬الخردواتى‭) ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الحكم‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولكن‭ ‬أى‭ ‬تاريخ؟‭ ‬‮«‬إننا‭ ‬ينقصنا‭ ‬الماضى‭... ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكسر‭ ‬بيضتنا‭ ‬على‭ ‬أرضكم،‭ ‬كيف‭ ‬كنتم؟‭ ‬وما‭ ‬عاداتكم؟‭... ‬ونوصيك‭ ‬أن‭ ‬تتحرى‭ ‬الصدق،‭ ‬لأنك‭ ‬حين‭ ‬تكتب‭ ‬الكذب‭ ‬سنعرف‮»‬‭. ‬يوضع‭ (‬حليم‭) ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬التهديد‭ ‬لاجترار‭ ‬المعرفة‭ ‬منه،‭ ‬والمعرفة‭ ‬مطلوبة‭ ‬حتى‭ ‬تخوّل‭ ‬السلطة‭ ‬لأبناء‭ ‬حورة‭. ‬ربما‭ ‬يبدو‭ ‬حكم‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬فى‭ ‬ظاهره‭ ‬العدل،‭ ‬ولكن‭ ‬فى‭ ‬باطنه‭ ‬العذاب‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬ادعوا‭ ‬العدل‭ ‬والرحمة،‭ ‬فما‭ ‬هم‭ ‬كما‭ ‬قالوا‭ ‬فى‭ ‬خطبتهم‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬إلا‭ ‬انعكاس‭ ‬لأفكاركم‭ ‬وسلوككم،‭ ‬فارجعوا‭ ‬إلى‭ ‬بيوتكم‭ ‬حذرين‭!‬‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬حالة‭ ‬الخوف‭ ‬واللايقين‭ ‬مكمنها‭ ‬فى‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬أنفسهم‭ ‬أم‭ ‬فى‭ ‬عقول‭ ‬البشر‭ ‬التى‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬حورة؟‭ ‬من‭ ‬الأشد‭ ‬خطورة،‭ ‬البشر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سُلبت‭ ‬منهم‭ ‬السلطة‭ ‬أم‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقلت‭ ‬إليهم‭ ‬سلطة‭ ‬ومعرفة‭ ‬البشر؟‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الاثنين‭ ‬وجهان‭ ‬لعملة‭ ‬واحدة‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬يمثّل‭ ‬انعكاسًا‭ ‬للآخر؛‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬السذاجة‭ ‬نعت‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬بأرباب‭ ‬العدل‭ ‬والرحمة‭ ‬وأن‭ ‬حكمهم‭ ‬الذى‭ ‬امتد‭ ‬لمدة‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬لهو‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬العصور‭ ‬التى‭ ‬مرّت‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬ذُكر‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الراوى،‭ ‬كيف‭ ‬يتأتى‭ ‬هذا‭ ‬العدل‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬ممارسة‭ ‬القمع‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬النوايا‭ ‬والأفكار‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬الأفعال؟‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬التساؤلات‭ ‬التى‭ ‬تطرحها‭ ‬الرواية‭ ‬لهى‭ ‬أدعى‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬ألا‭ ‬تصدّق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تقرأ‭ ‬أو‭ ‬ترى‭ ‬أو‭ ‬تسمع‭. ‬

تبدو‭ ‬الرواية‭ ‬بقصصها‭ ‬المتشظيّة‭ ‬ذات‭ ‬الأماكن‭ ‬والشخوص‭ ‬المتعددة‭ ‬التى‭ ‬يتعجب‭ ‬الراوى‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬شدّة‭ ‬تباينها‭ ‬رواية‭ ‬ملحمة‭ ‬بشرية‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص،‭ ‬إنها‭ ‬ملحمة‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذى‭ ‬يسعى‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬وموقعه‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الديستوبى‭ ‬الذى‭ ‬تداعى‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬بعد‭ ‬تفكك‭ ‬سلطته‭ ‬وافتضاح‭ ‬هشاشة‭ ‬حضارته،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬تُستدعى‭ ‬الأسطورة‭ ‬والموروث‭ ‬القديم‭ ‬ويعاد‭ ‬إحيائهما‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الرواى‭ ‬الحكّاء‭ ‬الذى‭ ‬ينقل‭ ‬الحكايات‭ ‬نقلًا‭ ‬شفهيًا،‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬البلدان‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬بأوصافها‭ ‬وأسمائها‭ ‬القديمة،‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أصاب‭ ‬سهم‭ ‬الوباء‭ ‬بلاد‭ ‬الرومان‭ ‬وحول‭ ‬مدنها‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬رعب‭... ‬ودخل‭ ‬الوباء‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬وهاجم‭ ‬أيضًا‭ ‬مملكة‭ ‬اليهود‭ ‬والمحتلين‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬وجبابرة‭ ‬ودخل‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬وهاجمها‭ ‬بضراوة‭ ‬جعلت‭ ‬كسراها‭ ‬المعمم‭ ‬يصرخ‭ ‬بأن‭ ‬الفيروس‭ ‬صناعة‭ ‬بشرية‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬الخمسين‭ ‬نجمة‮»‬،‭ ‬ففى‭ ‬هذا‭ ‬الاقتباس‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬وأسبانيا،‭ ‬إيران‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬تستحضر‭ ‬اللغة‭ ‬السردية‭ ‬الأجواء‭ ‬القديمة‭ ‬التى‭ ‬تصنع‭ ‬معبرًا‭ ‬بين‭ ‬الماضى‭ ‬والحاضر،‭ ‬بحيث‭ ‬تجعل‭ ‬استحضار‭ ‬الموروث‭ ‬والأسطورة‭ ‬مقبولًا‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬الخيال‭ ‬العلمى‭.‬

تتداخل‭ ‬القصص‭ ‬وتأخذ‭ ‬نهج‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬عبر‭ ‬وجود‭ ‬القصة‭ ‬الإطار‭ ‬المركزية‭ ‬التى‭ ‬تؤطر‭ ‬القصص‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أماكنها‭ ‬وشخوصها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كلًا‭ ‬منها‭ ‬تشرع‭ ‬فى‭ ‬تفسير‭ ‬الأخرى،‭ ‬وتنطلق‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬لآخر‭ ‬وتنتقل‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬لآخر‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬قمع‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬أو‭ ‬التقوقع‭ ‬داخل‭ ‬البيوت‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬الفيروسات‭. ‬وتستلهم‭ ‬الرواية‭ ‬أيضًا‭ ‬الموروث‭ ‬الصوفى‭ ‬فى‭ ‬استخلاص‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬الدراويش‭ ‬–‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تمسّهم‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بسوء‭ ‬–‭ ‬يقول‭ ‬أبو‭ ‬شوال‭ ‬الدرويش‭: ‬‮«‬لم‭ ‬يخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬ليعيش‭ ‬فى‭ ‬سجن،‭ ‬لن‭ ‬يظل‭ ‬حياته‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الوحش‭ ‬إلى‭ ‬الكهف‭ ‬ويهرب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬حيطان‭. ‬الإنسان‭ ‬كائن‭ ‬حر‮»‬‭. ‬إن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬البِكر‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تلوثها‭ ‬دنايا‭ ‬البشر‭ ‬التى‭ ‬هى‭ ‬أعتى‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬الفيروسات‭ ‬أو‭ ‬الكائنات‭ ‬الفتّاكة‭ ‬هو‭ ‬المغزى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الملحمة،‭ ‬وكأن‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬الراوى‭ ‬يقول‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬البداءة‭ ‬والأفكار‭ ‬الأصيلة‭. ‬

وأخيرًا،‭ ‬إن‭ ‬رواية‭ ‬“أبناء‭ ‬حورة”‭ ‬تعتمد‭ ‬سياسات‭ ‬تفكيكية‭ ‬واضحة‭ ‬لكل‭ ‬سلطة‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬نوعها،‭ ‬سواء‭ ‬سلطة‭ ‬البشر‭ ‬أو‭ ‬أبناء‭ ‬حورة‭ ‬أو‭ ‬سلطة‭ ‬الراوى‭ ‬الأوحد‭. ‬فالرواية‭ ‬تطرح‭ ‬تساؤلات‭ ‬تدفع‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬التشكك‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقرأ‭ ‬ويسمع‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬تغنى‭ ‬به‭ ‬البشر‭ ‬ومجدّوه‭ ‬صباح‭ ‬مساء،‭ ‬فيبقى‭ ‬العقل‭ ‬البشرى‭ ‬هو‭ ‬المقوّض‭ ‬لكل‭ ‬سلطة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬أو‭ ‬القمع‭.‬