دينا نبيل
كيف يمكن لشيء لا مرئى أن يقلب العالم رأسًا على عقب؟ كيف بإمكانه التهديد بالإطاحة بحضارة بأكملها بحيث تقف أيدى البشرية بكل ما أوتيت من قوة وعلم وتكنولوجيا مشلولة أمام قوته العاتية التى تودى بالأرواح؟ إنه الوهم إذن، وهم اعتقاد البشر امتلاكهم مفاتيح السيطرة على قوانين الطبيعة؛ فأدرك الإنسان مدى ضعفه أمام أصغر الكائنات. فاستطاع فيروس واحد الكشف عن مدى فقدان البشر لموقع السيطرة، بل حرصًا على حياتهم يحبسون أنفسهم فى البيت أو بالأحرى يعودون إلى الكهف كسيرة الإنسان الأول فى التعامل مع المخلوقات الأقوى والأكثر شراسة منه. ولا شك فإن السعى نحو تجسيد حال (الأبوكاليبس) أو الكشف عن الحقيقة الكبرى وفقًا للفظ الإغريقى أصبح هم كثير من الكتّاب وكأن البشر كانوا فى غيبوبة وكانت الإفاقة الحتمية منها بعد ظهور ذلك الفيروس أمرًا لا مفر منه
. وقد أوضح الدكتور شاكر عبد الحميد فى مقاله “ما بعد الكورونيالية” وفى تقديمه لذلك المصطلح الذى قام بصياغته، أن دراسة زمن ما بعد الكورونيالية يتعلق “بكل ما حدث وسيحدث فى العالم بعد أن ظهر هذا الوباء وبعد أن سمعنا الأخبار الأولى عن وجوده فى مدينة ووهان الصينية ثم انتشاره وتأثيراته على حياة الناس كافة” بما فى ذلك حياتهم الإبداعية. ورواية “أبناء حورة” (٢٠٢١) للكاتب عبد الرحيم كمال تمثل تلك المرحلة إلى حد كبير.
تدور أحداث الرواية حول مرحلة ما بعد الكورونا التى كما يراها الكاتب تبدأ بعد السنة الثلاثين بعد الألفين أو هى الفترة التى “تعافت خلالها البشرية إلى جانب الكائنات الأخرى”، عندما شوهدت أربع بيضات عملاقة فى أربع ميادين مهمة لأربع مدن مختلفة فى شمال أفريقيا، يُذكر منها ميدان التحرير فى القاهرة وساحة الاستقلال فى تونس. تنتمى تلك البيضات الأربع إلى (حورة) – نصف امرأة ونصف طائر فى حجم طائر الرّخ. تنكسر كل من تلك البيضات فى ظروف متباينة ويخرج منها كائنات غريبة معروفة بـــ (أبناء حورة) – لديهم “رأس وذراعان ويدان وقدمان. كان الطفل الواحد يتجاوز طوله المترين ونصف، ويصل وزنه إلى مائة وخمسين كيلو جرامًا.. وهم برأس طائر عادى كبير بمنقار أزرق” لهم عقول تفوق قوة العقل البشرى تتولى زمام الحكم والتحكّم فى أفعال وعقول البشر عبر وسائل غامضة. وتتحول قشرة البيضة المنكسرة التى يُشار إليها لاحقًا باسم (المقر) إلى ساحة محاكمة حيث يتولى أبناء حورة مهمة تطهير البشر من الشرور العالقة بهم أو تطهير العالم منهم بالكامل.
تبدو الرواية غرائبية بالدرجة الأولى، والقارئ للصفحات الأولى منها يلحظ أنّ تلك الغرابة تستمد قوتها من رافدين رئيسين: أجواء ألف ليلة وليلة والخيال العلمى. تظهر أجواء ألف ليلة وليلة بقوة فى قصة (حورة) وزواجها من (جمال) وتأثير دموعها السحرى فى الشفاء من الأسقام كما هو حال طائر العنقاء الذى تتسع مدلولاته الأسطورية والرمزية لتشمل التراث الإنسانى بشكل كبير. ويظهر الخيال العلمى فى صورة فيروس كورونا الذى يتخذ تحوّرًا جديدًا وخطيرًا عندما صار ينتقل عبر الصور المرئية. تتسع الهوة “ظاهريًّا” بين هذين الرافدين إذ إن الأول يضرب بجذوره فى عمق التراث الإنسانى بينما يرصد الثانى إطار زمنى مستقبلى مبنى على التأملات الفانتازية العلمية التى تعقب ظهور فيروس كورونا وما ستؤول إليه الحياة فيما بعد، ولكن يلتقى هذان الرافدان فى التطرّق لموضوعات فلسفية حول فكرة السلطة وفقدان الهيمنة البشرية وزيف الحقائق وإعادة تخليقها من جديد بشكل أكثر مصداقية. وإن كانت تلك الغرائبية ممهّدة للقادم من الأحداث، فلو أن الكاتب لم يحدد سنة بعينها لكانت الغرائبية أكثر صدقًا وتصديقًا؛ فالسنوات التى يحددها الكاتب على بعد بضعة أعوام قليلة من وقتنا الحالي، وهو ما يجعل بعض الفنتازيا فى الرواية بحاجة إلى مزيد من الإقناع. ولعل القارئ يسأل عن سبب جمع الكاتب لهذين الرافدين – التراث والخيال العلمى - معًا على الرغم من التباين الشديد بينهما، ولعل هناك بعض فرضيّات تطرح نفسها بقوة عند قراءة هذا العمل وأولها هى الرغبة فى البحث عن الحقيقة والعودة إلى البدايات من أجل استنطاق الماضى ليجيب عن تساؤلات الحاضر ومخاوف المستقبل وهو ما أعتقد من أهم القضايا التى تشغل بال الكاتب عبد الرحيم كمال، فلم يلبث أن يعالجها فى كثير من كتاباته للأعمال السينمائية أيضًا.
يوغل الكاتب فى استحضار صور البداءة الأسطورية ويضعها جنبًا إلى جنب فرضيات المستقبل، فتظهر الحيوانات العملاقة وتوضع فى إطار زمنى مستقبلى لتطرح قضايا فلسفية متعلقة بالهيمنة البشرية وتساؤلات حول من الذى يمتلك السلطة. ليس الإنسان هو الكائن الوحيد على ظهر هذا الكوكب، حتى وإن كان هو المسيطر عليه، فإنها سيطرة زائفة وهشّة، يقول الراوي: “فظهر الصرصار الذى يمتد طوله لمترين، والنملة الضخمة وصارت السحالى تستريح فى الميادين الكبرى الواحدة منها فى حجم النافورة... وكانت معارك شرسة فى السنة الحادية والثلاثين بعد الألفين بين البشر وما تضخم من تلك الحيوانات”. إن ظهور تلك الكائنات الممهّد لظهور أبناء حورة وتحكمهم فى البشر على ما يحمله من غرائبية، فإنها غرائبية حقيقية لا تختلف كثيرًا عن غرابة مرحلة ما بعد الكورونا، التى تنفلت فيها حبال السلطة والقوة من يد البشر.
تتمظهر الغرابة اللامرئية - وإن كانت فى شكل طيور مرئية غريبة – فى حالة التحكم اللاإرادى كما هو الحال فى تحكّم أبناء حورة فى عقول البشر واطلاعهم على نواياهم وقلوبهم بشكل غير مرئى بل ومحاسبتهم على أفكارهم بصورة مخيفة. يقول الراوى عن (حليم الخردواتي) بعد سبّه لـــ(نبيل السمّاك): “خرج ليتفقّد ذلك الصوت لكنه لم ير أحدًا خارج الدكّان ورأى نفسه يتحرّك قسرًا إلى جهة المقر، من دون أن يملك حق التردد أو الرفض”. ومن ثمّ، تسيطر حالة من الخوف من ارتكاب أصغر الأخطاء؛ فإن مجرّد تخيل المحاسبة على النوايا ثم التحرك قسرًا بعد سلب الإرادة نحو بيضة عملاقة (المقر) من أجل الحساب لهو أدعى إلى الرعب والقلق وترّقب الموت مع كل كلمة أو فعل أو فكرة يتم مراقبتها. يقول الراوي: “التزم الناس بيوتهم... وكان التواصل الإعلامى فى ذلك الوقت يأتى عبر رسائل مكتوبة تظهر على الحائط الموجود فى غرفة المعيشة. حائط زجاجى تسلّمه الدولة إجباريًا لكل عروسين فى بيتهما الجديد”. تستدعى تلك الصورة نظام “الأخ الأكبر” فى رواية (١٩٨٤) للكاتب جورج أورويل ومدلولاتها عن الهيمنة، فتمتلك هذه الكائنات طريقة ما للاتصال بالأفكار بشكل مباشر. إنها تلك الغرابة التى تخلق غربة لدى البشر بعد أن تسلبهم السلطة والحرية، ثم تسلبهم الإنسانية عندما يتحركون كمن تم تنويمهم مغناطيسيًا من أجل المحاسبة والمحاكمة. ويتحوّل كل ما يمتلكه أبناء حورة إلى وسائل للمحاسبة؛ البيضة هى (مقر) المحاكمة، (الريشة) تصبح مثل السكين الذى يقطع الألسنة، (المنقار) يصير مقصًا يقطع الأعناق. وبالنتيجة، تطرح الرواية تساؤلًا واضحًا حول ماهية السلطة، فقبل حكم (أبناء حورة) هل كان البشر فى حال أفضل عندما كانوا يمتلكون مفاتيح السلطة؟ وإن كانت الرواية لا تجيب عن هذا التساؤل ولاسيما وأن حق السلطة لم يكن يومًا فى يد الجميع؛ وإنما تمارسه فئة سلطوية محدودة على جموع البشر المهمشين، فإن الرواية تقوم بخلق عالم موازٍ تتسلم فيه بعض الكائنات مفاتيح السلطة ثم تمارسها على البشرية قاطبة وتضع البشر فى حكم المهمشين. ومن ثم تحقق الرواية رؤية السلطة لدى ميشيل فوكو؛ من يمتلك المعرفة يمتلك السلطة، لأن كل منهما تخوّل الأخرى، فعندما امتلك أبناء حورة المعرفة امتلكوا السلطة.
وعليه، يتحوّل المقر إلى (مَطْهَرٍ) بالمعنى الكاثوليكى للكلمة، ويصير هو المركز والمكان المهيمن بغرابته وما دونه يصير محض هامشٍ، و(المقر) وإن كانت صورته المرئية غائبة عن أعين أهل البلد يظل فى حالة حضور دائم. ولا تلبث أن تطاله حالة من اللايقين حول ماهية المحاسبة داخله. والمفارقة الأولى حول هذا (المقرّ) هو دلالته اللفظية، تلك الكلمة الجوفاء التى لا تعنى شيئًا، فهذا المقر مقرٌ لأى شيء؟ ليس ذلك فحسب، ولكن تكمن المفارقة أيضًا فى المكان الذى تستقر فيه بيضات المقر – ميدان التحرير وساحة الاستقلال – وهى أماكن ترتبط دلاليًا ووجدانيًا بالحرية والثورة من أجل إعلاء كرامة الإنسان؛ إلا أنّ وجود تلك البيضات داخل تلك الميادين يصيب المتلقّى بكثير من القلق والتوتر عندما يرى القمع والرعب يستقران وينبضان فى حضن ميادين الحرية والاستقلال. لربما أراد الكاتب توجه تحذير ما أن الحرية يمكن أن تنقلب إلى شيء مرعب إن فقدت من يرعاها، فمن الممكن أن تنبت بداخلها بذور مسمومة تعصف باليقين بها؛ فيفضّل الإنسان الرعب والقمع على الحفاظ على كرامته.
وللمفارقة يسعى أبناء حورة نحو خلق يقين جديد عبر (الكلمة) بعد أن اختفت الصور، فلقد «أشاع بعض الناس أن الفيروس القاتل ينتقل إليهم عبر الصور بكل أشكالها، الصور المتحركة والثابتة والمرسومة وهاج الناس وكسروا كل ما يمتّ للصورة بصلة»، وهو ما استغلّه بعض الساسة لطمس بعض الحقائق. يطلب أبناء حورة من (حليم الخردواتى) الذى كان على وشك الحكم عليه أن يكتب التاريخ، ولكن أى تاريخ؟ «إننا ينقصنا الماضى... أن تكتب لنا ما حدث قبل أن تكسر بيضتنا على أرضكم، كيف كنتم؟ وما عاداتكم؟... ونوصيك أن تتحرى الصدق، لأنك حين تكتب الكذب سنعرف». يوضع (حليم) تحت وطأة التهديد لاجترار المعرفة منه، والمعرفة مطلوبة حتى تخوّل السلطة لأبناء حورة. ربما يبدو حكم أبناء حورة فى ظاهره العدل، ولكن فى باطنه العذاب حتى وإن ادعوا العدل والرحمة، فما هم كما قالوا فى خطبتهم الأولى «إلا انعكاس لأفكاركم وسلوككم، فارجعوا إلى بيوتكم حذرين!»، فهل حالة الخوف واللايقين مكمنها فى أبناء حورة أنفسهم أم فى عقول البشر التى تنعكس على أبناء حورة؟ من الأشد خطورة، البشر بعد أن سُلبت منهم السلطة أم أبناء حورة بعد أن انتقلت إليهم سلطة ومعرفة البشر؟ يبدو أن الاثنين وجهان لعملة واحدة وكل منهما يمثّل انعكاسًا للآخر؛ إنه من السذاجة نعت أبناء حورة بأرباب العدل والرحمة وأن حكمهم الذى امتد لمدة سبع سنوات لهو من أفضل العصور التى مرّت على البشر حتى وإن ذُكر هذا على لسان الراوى، كيف يتأتى هذا العدل فى ظل ممارسة القمع حتى على النوايا والأفكار ناهيك عن الأفعال؟ إن كل تلك التساؤلات التى تطرحها الرواية لهى أدعى إلى التأمل للوقوف على مبدأ ألا تصدّق كل ما تقرأ أو ترى أو تسمع.
تبدو الرواية بقصصها المتشظيّة ذات الأماكن والشخوص المتعددة التى يتعجب الراوى نفسه من شدّة تباينها رواية ملحمة بشرية من نوع خاص، إنها ملحمة من النوع الذى يسعى فيه الإنسان للبحث عن ذاته وموقعه فى هذا العالم الديستوبى الذى تداعى فوق رأسه بعد تفكك سلطته وافتضاح هشاشة حضارته، فلم يكن غريبًا أن تُستدعى الأسطورة والموروث القديم ويعاد إحيائهما على لسان الرواى الحكّاء الذى ينقل الحكايات نقلًا شفهيًا، بل إنّه يشير إلى البلدان فى الوقت الحاضر بأوصافها وأسمائها القديمة، يقول «أصاب سهم الوباء بلاد الرومان وحول مدنها إلى مدن رعب... ودخل الوباء بلاد الأندلس وهاجم أيضًا مملكة اليهود والمحتلين فيها من عرب وجبابرة ودخل بلاد فارس وهاجمها بضراوة جعلت كسراها المعمم يصرخ بأن الفيروس صناعة بشرية فى بلاد الخمسين نجمة»، ففى هذا الاقتباس إشارات إلى إيطاليا وأسبانيا، إيران والولايات المتحدة. تستحضر اللغة السردية الأجواء القديمة التى تصنع معبرًا بين الماضى والحاضر، بحيث تجعل استحضار الموروث والأسطورة مقبولًا فى سياق الخيال العلمى.
تتداخل القصص وتأخذ نهج ألف ليلة وليلة عبر وجود القصة الإطار المركزية التى تؤطر القصص الأخرى على اختلاف أماكنها وشخوصها، بل إن كلًا منها تشرع فى تفسير الأخرى، وتنطلق من زمن لآخر وتنتقل من جيل لآخر بعيدًا عن قمع أبناء حورة أو التقوقع داخل البيوت خوفًا من الفيروسات. وتستلهم الرواية أيضًا الموروث الصوفى فى استخلاص الحكمة من أفواه الدراويش – أولئك الذين لم تمسّهم الحضارة الإنسانية بسوء – يقول أبو شوال الدرويش: «لم يخلق الإنسان ليعيش فى سجن، لن يظل حياته يهرب من الوحش إلى الكهف ويهرب من الناس إلى أربعة حيطان. الإنسان كائن حر». إن البحث عن الأفكار البِكر التى لم تلوثها دنايا البشر التى هى أعتى من أقوى الفيروسات أو الكائنات الفتّاكة هو المغزى من تلك الملحمة، وكأن لسان حال الراوى يقول بالعودة إلى زمن البداءة والأفكار الأصيلة.
وأخيرًا، إن رواية “أبناء حورة” تعتمد سياسات تفكيكية واضحة لكل سلطة أيًا كان نوعها، سواء سلطة البشر أو أبناء حورة أو سلطة الراوى الأوحد. فالرواية تطرح تساؤلات تدفع القارئ إلى التشكك فى كل ما يقرأ ويسمع حتى وإن تغنى به البشر ومجدّوه صباح مساء، فيبقى العقل البشرى هو المقوّض لكل سلطة تهدف إلى السيطرة أو القمع.