شهاب طارق
نتيجة لردود الفعل الواسعة على ما تم نشره أصدرت وزارة الآثار بيانا رسميا يؤكد - ضمنيا- تراجعها عن فكرة شطب الحديقة من عداد الآثار، إذ ذكرت أن المجلس الأعلى للآثار «لم ولن» يقوم بشطب أى أثر من عداد الآثار المصرية القديمة أو الإسلامية أو القبطية أو اليهودية، لأن مهمة المجلس وفقًا لقانون حماية الآثار وتعديلاته، هو الحماية و الحفاظ على الآثار المصرية، وقد اعترفت الوزارة فى بيانها بصحة ما تناولته أخبار الأدب، لكنها ذكرت أن الذى عرض هو مناقشة «شطب مساحة صغيرة فقط” من حديقة الأسماك لا يوجد بها أية مبان مسجلة فى عداد الآثار! وبررت الوزارة فى بيانها أن اللجنة الدائمة هى اللجنة المعنية بهذا الشأن وفقًا للقانون، إذ بررت الوزارة فى بيانها أن موضوع دراسة شطب مساحة الحديقة تم عرضه على لجان فنية ولم يتم عرضه بعد على مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار، وهو الجهة المعنية باتخاذ قرارات تسجيل أو شطب الآثار وفقًا لقانون الآثار.
وأكدت الوزارة فى بيانها أن المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية والذى يرأسه رئيس مجلس الوزراء، هو الجهة التى ستعرض عليها كافة مقترحات أعمال تطوير الحدائق على مستوى الجمهورية، وهو الجهة المعنية بأخذ القرارات حتى بعد موافقات كافة الجهات، وذلك نظرًا لأهمية هذه الحدائق ولضمان الحفاظ على هذا الكنز الفريد على مستوى الجمهورية، ولضمان الحفاظ على طبيعتها التراثية والتاريخية أو الأثرية.
ردود الفعل
بيان الآثار لم يحقق الغرض المطلوب بل زاد من حدة الانتقادات، حيث أثار التصريح الذى صدر عن الوزارة ردة فعل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعى مرة أخرى، خاصة أن الوزارة اعترفت بما نشرته أخبار الأدب، وأكدت أن فكرة شطب أجزاء من الحديقة الأثرية لا تزال مطروحة، وأوضحت أن المساحة المطروحة للشطب «صغيرة» وتساءل الجميع عن سبب لجوء الوزارة لاستقطاع جزء من الحديقة الأثرية، إلى أن جاء الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيرى وأوضح فى تصريحات تليفزيونية أن المقترح هو تطوير الحديقة واستقطاع جزء منها لعمل «جراج» لخدمة الزوار على مساحة «ثلاثة أرباع فدان» (٣١٥٠ مترا مربعا)، فى مساحة خالية من أية أشجار، إذ أوضح -على حد وصفه- أن الحديقة لا تحوى على أية أسماك وأن الهدف هو الارتقاء بالخدمة داخل الحديقة الأثرية!
وقد رفض رواد التواصل الاجتماعى والمتخصصون استقطاع أى جزء من الحديقة الأثرية، وطالبوا وزارة الآثار بتقديم حلول أخرى دون المساس بالحديقة الأثرية، وتقدمت النائبة سميرة الجزار باستجواب عاجل لوزير السياحة والآثار بخصوص شطب حديقة الأسماك من عداد الآثار، والاكتفاء بتسجيل الجبلاية والأكشاك الثلاثة، والادعاء بأنها هى التى ترجع إلى عصر الإنشاء فقط.
وأشارت النائبة إلى أن قيام اللجنة نفسها بتسجيل كامل للحديقة ضمن عداد الآثار فى وقت سابق ثم شطبها اليوم، أمر يثير الريبة والشك فى اللجنة وقرارها، ويعد مخالفة تستوجب الاستجواب، وطالبت بإلغاء قرار اللجنة وإعادة جبلاية (حديقة) الأسماك إلى عداد الآثار بأكملها وبحديقتها الأثرية التاريخية كما كانت، وعدم إخراج أى أثر من عداد الآثار.
تصريح مغلوط
من جانبه انتقد محمد عبدالحميد، مدير عام حديقة الأسماك، ما صرح به الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار حول الحديقة فى البرامج التلفيزيونية إذ ذكر، أنه لم يحدث أى تعاقد رسمى «ولم يطرح الأمر علينا، لتنفيذ جراج أو ساحة انتظار للحديقة، فنحن فوجئنا بالتصريح الذى أدلى به الدكتور مصطفى وزيرى مثلنا مثل المشاهدين، فجميع المقترحات التى قدمت إلينا كانت لتطوير المكان مقابل وجود بعض الكافيتريات والمطاعم لخدمة الزوار، لكن لم يطرح علينا فكرة الجراج».
وبسؤالنا عن وجود أماكن فارغة أو مهملة داخل الحديقة يمكن تنفيذ مشروع جراج عليها أجاب مدير الحديقة: لا يوجد بالحديقة أى مناطق مهملة فهى عبارة عن الجبلاية، وباقى الحديقة هى مسطحات خضراء، ولا يوجد بداخلها أماكن فارغة أو مهملة أو أماكن خالية من الأشجار مثلما ذكر الدكتور مصطفى وزيري، وبالطبع لو أن هناك حلا لإقامة جراج فالحل هنا هو اقتلاع أشجار من الحديقة لتنفيذ المشروع -وهو حل لم يطرح- لذلك أنا اندهشت من تصريح الأمين العام للآثار، لأن هذه الفكرة طرحت عام ٢٠٠٩ لكن لم يكن جراجا لخدمة الحديقة، بل أراد أحد المستثمرين تأجير جزء من الحديقة كجراج لفندق يقع بجوار الحديقة، وقد رفض وقتها هذا المقترح تمامًا، لأنه سيؤثر على الطبيعة الأثرية للمكان.
وردًا على ما ذكره الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار حول أن الحديقة لا تحوى على اية أسماك «هذا التصريح مغلوط وغير صحيح بالمرة، فهى تضم أكثر من ٢٠ نوعا من الأسماك، ونحن عندنا البحيرة الرئيسية بها أسماك مثل الكوى والفانتيل بأحجام كبيرة، وعندنا معمل لتفريخ الأسماك الزينة.
وعن وجود نقص فى الأسماك داخل الحديقة أجاب: بالطبع هناك نقص لكن هذا النقص سببه هو أن الجبلاية كانت هى مكان العرض الأساسى للأسماك إذ تحوى حوالى ٢٩ حوضا من الأسماك، لكن هذه الأحواض خرجت من الخدمة بسبب تخوف وزارة الآثار من أن هذه الأحواض قد تؤثر على الأثر، لذلك طلب منا تفريغها وخرجت من الخدمة حماية للطابع الأثرى وبناء على طلب الآثار، وقمنا بعمل أحواض أخرى داخل معمل التفريخ وعرضنا السمك من خلالها.
من جانبه قام الدكتور السيد القصير وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، بزيارة للحديقة الإثنين الماضي، وأوضح فى تصريحات له أنه لا مساس بالحديقة، وأنه لن يتم استقطاع أى أجزاء منها لإنشاء جراج بها.
حلول عمرانية
الدكتورة سهير حواس أستاذة العمارة بجامعة القاهرة وعضو مجلس إدارة الجهاز القومى للتنسيق الحضاري، تطرقت فى حديثها لأخبار الأدب، إلى مفهوم الحدائق التراثية، إذ قالت إن الحدائق التراثية والأثرية فى مصر تتمثل أهميتها أنها قد تم استدعاء مصممين لها من الخارج، فهى ترتبط بحقبة زمنية، وبحاكم مصرى سواء كان محمد على أو أبناءه مثل إسماعيل والذى انشأ حديقة الأزبكية والأسماك، والأورمان، فهذه الحدائق نشأت فى إطار إقامة مدن جديدة، وقد كانت بمثابة قرار سياسى خلال تلك الفترة، وكان التركيز على أنها ستنافس حدائق باريس وغيرها الموجودة فى المدن الأوروبية، فالحديقة ليست مجرد شجرة بل أرض خصبة فيها نباتات نادرة، وفيها تصميم ومنشأت خاصة بها، وقد تم استحضار، نباتات من الخارج ومن بلاد مختلفة، وبذل مجهود كبير لاستجلاب هذا النوع من الأشجار، وتم اختيارها بعناية، وهو الأمر الذى يؤكد على أن الحدائق كانت لها دور مهم فى المدن المصرية، باعتبارها الرئة والمتنفس للمدينة، لذلك لا يمكن أن نضحى بأى جزء من هذه الحدائق التراثية والأثرية التى هى جزء من تاريخ مصر، فنحن حاليا لا نصنع بديلا بل بالعكس نضحى بالقيمة، ولا نسمح بوجود مساحات خضراء، وهذه القيم التراثية لا يمكن أن تعوض أبدا، ولا يمكن أبدا أن نستحل مساحات الحديقة وأن نقلصها، وقد رفضنا من قبل إقامة عجلة ملاه فى منطقة الزمالك داخل حديقة الزهرية، فلا يجوز أن يتحول اللون الأخضر إلى اللون الرمادي؛ لون الأسفلت، وعلينا أن ننظر للدول المتقدمة، فباريس وضعت خطة لسنة ٢٠٣٠ تهدف إلى تقليص حارات السيارات هناك إلى حارتين فقط فى المحاور الرئيسية، مقابل زراعة المساحة تلك بالأشجار، لذلك علينا تقديم حلول عمرانية جيدة، كى لا يتم تقليص الحدائق التراثية، لذلك يجب الحفاظ على المساحات الخضراء الموجودة.
محاولات مستمرة
تضيف حواس: مشكلتنا الرئيسية بالنسبة للحدائق التراثية والأثرية هى أننا منذ سنوات نسعى لتطوير هذه الحدائق، وكان الرد أنه لا يوجد ميزانية كافية، لكن عندما نسمع بكلمة «تطوير»، فهنا يمكن أن نفهم أن هناك مصدرا للتمويل يحتاج لتنفيذ مشاريع تدر عليه ربحا، وبالتالى فهذا المطور سيعتمد على استجلاب أنشطة تعود عليه بالربح، كالمطاعم والكافيتريات والملاهي، لذلك فكلمة «تطوير» هى كلمة أرفضها بشدة، ويجب أن تستبدل بكلمة «إعادة تأهيل أو صيانة أو إعادة تشغيل» لا أن نلجأ لمطور فهو فى النهاية شخص غير متبرع بل هو يهدف للربح فى المقام الأول، لذلك فالأمين العام للمجلس الأعلى للآثار صرح بأنه سيستقطع حوالى نصف فدان من الحديقة لإقامة جراج، وأنا اسأله: «هل هناك أحد فى العالم يستقطع مساحة من حديقة لإقامة جراج للسيارات؟»، وعليهم أن يبحثوا عن حلول إذا ما أرادوا إقامة جراج، وبالمناسبة ففكرة إقامة جراج أسفل الحديقة ليست فكرة جديدة فهناك الكثير من المحاولات التى تصدى لها الكثيرون لمنع إقامة جراج أسفلها، وبعدها أراد البعض إقامة جراج أسفل نادى الجزيرة ورفض المشروع أيضًا، وهناك بعدها محاولات كثيرة كانت تهدف للسماح لإقامة جراج بالمنطقة كى تستوعب العدد الضخم من السيارات لتشغيل برج «فوده» والذى لم يستغل منذ فترة الثمانينيات، بسبب عدم احتوائه على جراج، ولم يحصل الرجل على رخصة التشغيل، وقد حاول هو أيضًا عمل جراج أسفل الحديقة إلا أن فكرته رفضت.
حلول بديلة
ترى حواس أن هناك الكثير من الحلول التى يجب أن تقدم لحل مشكلة منطقة الزمالك إذ تعدها منطقة مكتظة «لذلك يجب تفريغ المبانى الحكومية الموجودة بداخلها مثل المجلس الأعلى للآثار نفسه، وكذلك تفريغ الكليات الموجودة بالمنطقة ونقلها لمكان آخر لتقليل الأحمال المرورية على المنطقة”.
المهندس المعمارى طارق المرى قدم اقتراحًا لمشكلة التكدس المرورى داخل حى الزمالك، إذ يقترح بعمل جراج متعدد الطوابق، داخل أرض الجراج الخاص بدار الأوبرا والمجلس الأعلى للثقافة، والتى تسع لألف سيارة بمسطح أرض ستة فدادين ونصف الفدان تقريبًا «يمكن إقامة جراج ضخم عليها تحت الأرض أو فوقها، ويكون له مدخل خاص من خارج أرض الأوبرا، وذلك لخدمة العامة.
يضيف: لو شيدنا ثلاثة أدوار سيتمكن الجراج من استيعاب حوالى ٣ آلاف سيارة، لخدمة منطقة الزمالك، بجانب ألف سيارة أخرى تخدم الأوبرا وهى أرض أسفلت سهل تنفيذ المشروع عليها على مراحل ويكون بنظام BOT وبمشاركة القطاع الخاص وسهل وبالتالى سنتمكن من إنقاذ أثر، مع مراعاة الشكل العام وعدم تأثيره السلبى على مبنى الأوبرا”.
الدكتورة مونيكا حنا، عالمة الآثار، والعميدة المؤسسة لكلية الآثار والتراث الحضارى بالأكاديمية البحرية، اتفقت مع رأى طارق المري، إذ قالت إن هناك الكثير من الحلول منها إقامة جراج فى الأوبرا متعدد الطوابق، وتحت الأرض فهناك مساحة فضاء يمكن استغلالها بشكل جيد، وبالتالى يحل مشكلة الزمالك والتكدس الموجود بداخلها.
وحول فكرة استقطاع جزء من الحديقة لإقامة جراج، أوضحت مونيكا أنها ترفض إقامة جراج أو استقطاع جزء من الحديقة، لأنه يجب تركها كاملة مثلما سجلت، فلا يصح ونحن فى القرن الـ٢١ أن يصرح أحد بأن الحل هو استقطاع جزء من حديقة أثرية لعمل جراج فهذا أمر غير مقبول بالنسبة لإدارة التراث، بل بالعكس فنحن من المفترض أن نعمل على تقليل حركة السيارات الموجودة حول الموقع التراثى وليس العكس، لأن قيمة هذا الموقع فى الشجر وفى المباني، ولا يصح أن نقول أن هذا الجزء لا يوجد به مبان وهذا الجزء لا يوجد به شجر، فهذه ليست طريقة جيدة لإدارة التراث فى القرن الـ٢١ كما ذكرت، لكن بالطبع عند تنفيذ جراج سيضطر لقطع شجر لأنه لا يوجد مساحة خالية داخل الحديقة، فهى كلها تحوى على أشجار.
وعن إعادة تأهيل الموقع الأثري، أوضحت أنه يجب تفعيل الموثوقية بحيث لا نحوّل الأثر لديزنى لاند، ولا نغير من معالمه أو نشوهه، وأن نستعمل أفكارا صديقة للبيئة عند التعامل مع الأثر، فهذه الأمور سترفع من قيمة المكان.
ضوابط تطوير الحدائق التراثية
من جانبه قال المهندس محمد أبو سعده رئيس جهاز التنسيق الحضارى أن الجهاز انتهى بالفعل من وضع أسس ومعايير التعامل مع الحدائق التراثية، وأن هذه الضوابط تم عرضها بالاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية الذى يرأسه د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، وأنه تم بالفعل إقرار هذه الضوابط.
وقال أبو سعده إن رئيس الوزراء أضاف على هذه الأسس والمعايير شرطا بضرورة عرض ما سوف يتم فى أية حديقة تراثية على المجلس الأعلى حرصا من الدولة والحكومة على الحفاظ على حدائقها التراثية.
وأضاف أبو سعده أن هذه الأسس والمعايير لم توضع من فراغ، بل وضعتها لجنة تضم خبراء فى شتى الفروع التى تخص الحدائق من تخطيط وآثار وتراث و«لاندسكيب» وزراعة ويرأسها د. ماهر ستيتو أحد كبار المعماريين المصريين وهو الذى صمم حديقة الأزهر.
وأكد أن هذه الأسس تحدد كل شىء بدقة وتوضح طريقة التعامل مع الأجزاء التراثية داخل الحديقة.
الجدير بالذكر أن هذه ليست المحاولة الأولى من جانب وزارة الآثار لشطب مبان أثرية مسجلة فى عداد الآثار إذ سبق لنا أن نشرنا عدة تحقيقات تخص إقدام الوزارة على شطب مبان فريدة، منها منزل عبد الواحد الفاسى، بحارة السبع قاعات بالموسكى، وكذلك الحمام العثمانى الأثرى بمحافظة قنا، وقصر ميخائيل لوقا الزق بأسيوط، ومحطة القطار الملكية التى تخص الملك فؤاد بكفر الشيخ، وكذلك محلج محمد عليّ بفوه !