حجاج أدّول
هكذا، فما إدريس إلا إبن من أبناء إيزيس. إيزيس الأم المصرية الحاوية التى جمعت الأنحاء فى بوتقة صلبة واحدة اسمها مصر. حين أتكلم عن المواطن المصرى النوبى أحمد إدريس، الذى فكر ونفذ استخدام اللغة النوبية كشفرة عسكرية،فأنا أتكلم عن «مصر تتحدث عن نفسها» فحديثى يتفاعل ويتماهى مع قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم.
فأحمد إدريس ابن النيل، ابن وطن مصرى بزغ قبل تسطير التاريخ. أمنا وقت الطمأنينة، فبها ولها نكون نحن معشر المحبة والسلام. أما وقت الخطر، حين نسمع صيحة إيزيس آمرة «فَأَنجِزوا اليَومَ وَعدى» ،نفعل ليس فقط بما يذهل الباغى، بل بما يذهلنا نحن، فكم نحن أقوياء حين نشد العزم وننشد القمم.كم نحن أقوياء بملايين من إدريس. إدريس المستيقظ بشتى الأسماء فى كل الأنحاء التى جمعتها إيزيس، لتكون مصر الخالدة.
وُلِد أحمد إدريس عام 1935 فى قرية «توماس وعافية» النوبية. وفى أزهر القاهرة تعلم لسنوات، وفى جيشنا تطوع لسنوات طالت فَطاف بكل أنحاء مصر،وشارك فى أكثر من حرب، حروب أعطته الفرصة ليعطى وطنه ما أفرحها وطمأنها، أبناء مصر لم ولن يتخلوا عنها.
فى سلاح الحدود سهر إدريس منتبها،وحين تألمت مصر فى عام 1967، وظن الباغى انه بانتصاره فى معركة، فمصر قد ماتت، دوّت فى أذن الشعب صيحة أطلقها القائد حين الشدة السابقة.. «سنحارب» صح كلنا سنحارب رغم أن الألم لا يطاق والصدمة كانت علينا بشعة، فمصر السباقة فى الوجود لن تموت، لن تُخفض أعلامها ولن تُنكس أعناقها. وتقدم ناصر والسادات وقيادات القوات المسلحة بتنويعاتهم، وخططوا ليوم رد الاعتبار.
تهيئة الجيش ليعود للقتال لم تكن سهلة، بل كانت تحتاج مجهودات عظيمة، كانت مهمة تتطلب العلم والعمل. كانت تتطلب الإبداع الحربى الذى كان فأبهر وأضاف للعلوم العسكرية، وهذا موضوع يحتاج لكتب لا كتاب واحد. تدربنا تدريبا لا يقل أهمية عن القتال نفسه. كنت مجندا وقتها، وفى كد التدريبات والمناورات المنهكة، تشربنا شعار «العرق فى التدريب يوفر الدم فى المعارك» وبالفعل حين دخلنا معارك الاستنزاف والعبور، كان تدريبنا القاسى عونا كبيرا لنا، فكنا وقت الخطر نتصرف ببندين معا، الفطرة وما تدربنا عليه كثيرا، وكان الله معنا بعدما اتخذنا الأسباب سُبلا.
هناك أمر خطير يعرقل معاركنا القادمة، كلما استخدمت قواتنا المسلحة شفرة ما، استطاع العدو فكها، وفك شفرتنا معناه أن العدو يقرأ خططنا فيستعد لها. استحالة أن ننتصر والعدو يعلم بكل ما نفكر فيه. اهتمت قواتنا بهذا الأمر اهتماما عميقا، ووصل الأمر للرئيس السادات، فكان اهتمامه البالغ. اجتمع بالقادة الكبار وحفز الجميع ليفكروا فى تخطى تلك العقبة الكأداء.
فى سيارة جمعت قائد اللواء ورئيس الأركان، كان الرقيب أحمد إدريس معهما! نعم. قيادات كبيرة ترافق وتسمع الجنود البسطاء. أعرف ذلك تمام المعرفة، فقد جربته خلال سنوات الحرب السبعة. فى السيارة أحمد إدريس يستمع للحوار الدائر المحير،فابتسم ثم ضحك، فالتفتا إليه مستطلعين.. ما الأمريا إدريس؟ فقال الرقيب إدريس..
-الأمر سهل فلماذا تعقدونه؟
-سهل!
-نعم سهل. اللغة النوبية هى الحل!
بعد التعجب والاندهاش، قالا فعلا، ربما اللغة النوبية هى الحل، فهى لغة لا يتقنها إلا أبناء النوبة، ولم تكن قد اكتشفت حروفها بعد. أوصلوا الفكرة للقيادات العليا. فكان التشاور للتأكد. الرقيب إدريس يتم استدعاؤه ليقابل الرتب العليا. وذات يوم وضعوا «الكلبشات» الحديدية فى يديه واقتاضوه مقبوضا عليه! هو فى دهشة وعدم تصديق.. يقول لمن حوله ولنفسه.. ماذا فعلت؟ ماذا جنيت؟ لقد قلت فكرة تفيد جيشى إفادة كبيرة؟ فلماذا يتم القبض على واقتيادى هكذا،وكأننى خنت جيشي وخنت وطني؟! ومن سيارة لسيارة ومن قائد لقائد حتى وجد نفسه أمام القائد الأعلى للقوات المسلحة، أمام الرئيس أنور السادات ذات نفسه! ياللهول. إذن ما جنيته مصيبة وأى مصيبة. لكن ابتسامة رئيسه وقائده بثت فيه الاطمئنان. قال له الرئيس بعد أجلسه أمامه:
-اشرح لى فكرتك.
فشرح له إدريس:
-جنود نوبيون يتسللون عبر القناة ويتمركزون فى سيناء، التمركز بين المواقع الإسرائيلية، وعلى مشارف الطرق الرئيسة. وجنود نوبيون هنا. الذين هناك يراقبون العدو ويرصدون كافة تحركاته، ويرسلون المعلومات باللغة النوبية إلى النوبيين الذين هنا، والذين هنا يترجمون للعربية. ولن يستطع العدو حل شفرتنا النوبية.
ثوان والسادات مبهور بما سمع، ثم أخذ فى الضحك الذى ارتفع لحد القهقهة حتى كاد أن يسقط من مقعده. بعدها أشعل البايب ونظر للرقيب أحمد إدريس وقال.. سننفذ فكرتك. وفكرتك هذه غاية فى السرية، فلا تتكلم عنها لا فى القوات المسلحة ولا فى الحياة المدنية، بل عائلتك لن تسمع منك كلمة. واحرص أن تلمح لزوجتك ولو تلميحا بسيطا. وللعلم.. من يفشى سرا حربيا مآله الإعدام.
عاد أحمد إدريس.وفى وحدته العسكرية سأل إدريس ضابطه الكبير مندهشا.. ولماذا وضعتم فى يدى«الكلبشات» وكأننى مجرم خطير؟! فقال له.. هذا حتى نبعد أى شبهة عن أمرنا السرى. ثم كان الابتسام والتوكل على الله.
بدأ العمل، السر يعرفه فى البدايات خمسة من القيادات فقط. وتم إعداد مائتان وخمسة وأربعين جنديا نوبيا،منهم أحمد إدريس ليقوموا بالتنفيذ. الجنود النوبيون لم يعرفوا لماذا هم يتدربون على جهاز الإشارة، وما هى مهمتهم؟ الذى يعرف واحد فقط اسمه الرقيب احمد إدريس. انضم إليهم جنود من الصعيد الأعلى، أسوان وقنا وسوهاج، ومن قبائل العبابدة والبشارية. لماذا؟ لأنهم الأقدر على تحمل المشاق من قيظ صيف وبرودة الصحراء ليلا، فما هم مقدمون عليهم ثقيل مخيف على الهمم، سيبقون بين قوات العدو وفى أماكن صعبة وتحت أخطار رهيبة. إنهامن التمهيدات الخطيرة الواجبة، قبل بدء معارك الاستنزاف الباسلة، وستكون من أهم بنود نجاحها ونجاح العبور العظيم.
بوتقة إيزيس تتكون من عناصر مدمجة بحنو ومحبة، أدمجت وثبّتت حدوداً منذ بدايات سلم الحضارة الإنسانية. وما النوبة إلى مكون من مكونات تلك البوتقة. يأتى النيل فيمر أول ما يمر على بلاد النوبة، يمر سلساً وافياً هادئا ينشر السلام فتشبع به النوبيون، فأطلق عليهم عبارة أهل السلام والنيل، وقالوا قديماً عن النوبة انها بلاد الذهب، واشتهر ناسهابالبساطة والإخلاص والسلاسة فى المعاملة.
جيل والدى أحمد إدريس هاجروا عدة مرات، بداية من بناء خزان أسوان عام 1902، انتشروا فى ضفة نيل أسوان وفى المدن الكبرى خاصة القاهرة والإسكندرية. والد إدريس استقر فى الإسكندرية، فجمع إدريس بين أقصى جنوب مصر مع اقصى شمالها. صار نوبياً/سكندرياً، وتلك ثنائية معطاءة وليست ازدواجية تخفض. قلنا أن قرية إدريس اسمها «توماس وعافية» فى الإسكندرية تمركزوا فى «عزبة توماس» وهو حى فى منتصف الإسكندرية. وهناك ولدت أنا وتعلمت فيها أول دروس أمنا إيزيس. الكل فى واحد. فى العزبة مسلمون ومسيحيون، نوبيون وصعايدة وأبناء الدلتا والبدو. كلناانصهرنا فى البوتقة الإيزيسية. الدرس الثانى تعلمته خلال اشتراكى فى بناء السد العالى. عمل عملاق يجمع بين عظمة البنيان، وبين عظمة تحدى الصلف الخارجى. العمال تجمعوا من كل أنحاء المحروسة، واللافتة التى فوقنا، عالية عريضة تحوى عدادا يقول «باقى من الزمن كذا يوم» ومع انقضاء اليوم يحذف العداد يوما. فالتحدى أن المشروع يجب أن يتم فى يوم محدد لا يتأخر ساعة. وعملنا معا بتنويعات الأماكن وتنويعات الخبرات. فجأة حدث أمر فى العمل أرعبنا، إن لم يتدارك يمكن أن يعطل الجدول المقرر. سهرنا كلنا لمنتصف الليل فى رعب، من يعملون ومن هم فى ساعات راحتهم. لم ينم أحد حتى تم التدارك، فصحنا منتصرين واحتضنا بعضنا بعضا، إنه انتصار لو تعلمون عظيم. كان هذا هو الدرس التالى.
الدرس الثالث تعلمه كل من انضم لجيش البلاد.فالجيش جيش الشعب، يضُم على كل عناصر الشعب، من قائده الكبيرلأصغر جندى فيه. جيش مهمته الذود عن الوطن ضد الغزو الخارجى، وقد حدث هذا كثيرا فى تاريخنا، وأيضا الذود عن الشعب فى الداخل، حين يتهدده خونة لا يعترفون بوحدة الوطن. وهذا ما قامت به القوات المسلحة، فوقفت مع شعبها ضد مؤامرات التطرف الكاره للوطن، وغير المعترف برفرفة علمنا المصرى ولا بنشيدنا الوطنى.
فى خارج الوطن، سواء فى البلاد العربية أو الأجنبية، حين تطلب سفاراتنا وقناصلنا، أبناء مصر المغتربين للتجمع ولاحتفال بأعيادنا الوطنية، يلبى ناس إدريس النداء سريعا، ويكونوا الأكثر عددا داخل مقارنا الدبلوماسية، فالآتون للاحتفال تنويعات من أبناء إيزيس، وإدريس ليس فردا من ألوف النوبيين فقط، بل واحد من مائة مليون مصرى منتشرون فى كل أنحاء الوطن، وفى الخارج.
التنوع فى سبيكة إيزيس تنوع خلاق. نطمئن له طالما السبيكة متماسكة صلبة. ألوان العلم متعددة، وكلها فى ضمة واحدة، راية واحدة. فعلا تنوع خلاق،فمصرى أعطى لغة اتخذت شفرة فى أيام الحرب، ومصرى أعطى مدفع المياه الذى استخدم فى إزالة السد الرملى الخرافى. وناصر من جنوب إيزيس والسادات من شمالها. وفى عزبة توماس والسد العالى والجيش، كنا من الأنحاء المدمجة فى كتيبة قتالية واحدة، تماما مثلما كنا فى كتيبة مدنية واحدة أيضا.
قيادات جيشنا كانوا نوابغ فى التخطيط لحربى الاستنزاف والعبور. وكانوا مع الجنود أفذاذا وهم يقاتلون. أقول لكم أمرا أدهشنى والأمور المدهشة فى قتالنا لا تعد ولا تحصى، أمور تستحق ملاحم سردية وشعرية وسينمائية. لا يمكن أن يتخيل أحد روعة مشهد العبور. فى الظهيرة طائرات تضرب مواقع العدو، ومدفعية مرعبة تمطرها بقذائف كالجبال، ثم آلاف من المشاة يقفزون على القوارب المطاطية السوداء. يصعدون الساتر الرملى ويهجمون على قلاع حصن بارليف، مشهد مبهر وموسيقاه الدانات وأزيز الطلقات ويغلفها كلها صيحات الله أكبر. يا للروعة والجمال.العبور مثالى سلس، لن يصدقه الذى لم يشارك فى تلك الحرب، نحن جنود أكتوبر ذهلنا من إتقان العبور وروعته. أخيرا وثبنا على هذا الخط «البارليفى» الذى قالوا عنه،ان قنبلة ذرية لن تنال منه! ونلنا منه بالعزيمة المصرية وحطمناه، ولم تنفجر فينا مواسير النابالم الحارقة، فرجال الصاعقة قد قاموا بسد فوهاتها. وتمر دباباتنا وعرباتنا على الكبارى السريعة، ووجد قد جنود سبقوهم وبمدافع المياه شقوا الممرات ومهدوها لمجنزراتنا المتنوعة. وفى الجو صواريخنا تصطاد طائرات العدو ببساطة.ألم نقل على لسان شاعرنا «ما رَمانى رامٍ وَراحَ سَليماً / مِن قَديمٍ عِنايَةُ اللَهُ جُندى»؟وتمر أيامنا وليالينا ونحن فى نشوة، وعدونا الذى توقع منا الاستسلام، فكر هو فى الاستسلام.
العبور بألوف من «الأدارسة» المقاتلين. بألوف من زميلى دانيال واللواء باقى ذكى، والرقيب عبدالله الذى أرعب دبابات العدو وحطمها. عبدالله أصلا خفير فى معابد الأقصر، ولهذا أطلقت عليه «عبدالله تحتمس» ورصدته فى قصة من قصصى. أبطال سمر تجمعوا من الأنحاء ليزودوا عنها. ألوف الجنود ومن ضمنهم رقيب بسيط اسمه أحمد إدريس. فالكل واحد مصرى، الكل فى بوتقة إيزيس سلماً وحرباً.
لأحمد إدريس كان مع الذين تسللوا للضفة الشرقية، تفرقوا فى سيناء ليرصدوا تحركات العدو ويبلغون عنها، وشفرتهم لغتهم النوبية. سؤال.. كيف كانت سبل إعاشتهم وقد بقوا شهوراً طالت فى الصحراء الجرداء؟ الحل سهل. بدو سيناء هم من تولوا إرواء وإطعام أحمد إدريس وصحبه الفرسان. وبدو سيناء كانوا من أهم عيون استخباراتنا العسكرية، خلال سنوات احتلال سيناء. بدو سيناء الذين ارتاب فيهم بعض ضعاف العقول،فقليل من يفهمون،ان التنوع فى البوتقة قوة؟
بعد أيام من الحرب. ليلا فى هدوء سريع، انصت بوجدانى حيث لا صوت حقيقى.أم كلثوم تنشدبكلمات حافظ إبراهيم وتلحين رياض السنباطي.
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً / كَيفَ أَبنى قَواعِدَ المَجدِ وَحدى
كان أحمد إدريس فردا وسط ما يقرب من مليون ضابط وجندى، كلهم شوامخ. كلهم عملوا فأسبغ الله عليهم بركته. ياالله، حين يقول المصريون سنفعل، ففعلهم مُعجز. أى نعم، فعلهم مُعجز. شاهدت هذا فى بناء السد العالى، وشاهدت هذا فى حربى الاستنزاف والعبور.
ثم فى أعياد أكتوبر 2020، قام رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى بتكريم الصول أحمد إدريس بوسام النجمة الذهبية. صافحة مبتسما فقال له إدريس:
-بعد الحرب. كتمت سر الشفرة النوبية مدة أربعين سنة، نفذت أمر الرئيس السادات.
رحل أحمد إدريس الرجل الطيب المتواضع، إدريس حين كنت التقيه فى المناسبات الخاصة بقريتنا، أجده بسيطا فى ملبسه النوبى البسيط، لا يتحدث عن بطولته وكأنه لم يفعل شيئا إطلاقا، وكأنه لم يجازف بحياته فى سبيل وطنه. نترحم على أحمد إدريس وعلى جميع الأبطال الذين دافعوا عن الوطن فى أشد الأوقات صعوبة وقسوة. رحمهم الله.