‏الذاكرة الوطنية للشعوب

نسرين موافي
نسرين موافي

و لأنه يوم يختلف عن بقية الأيام ، نحتفل به مرتين ، ميلادياً و هجرياً.. تصحو فيه لتشعر لا إراديا أن صدرك يتنفس عزة و كرامة ، أن أرض مصر و ما تحمل من شجر و بشر و حتي حجر يرقص فرحاً و احتفاءً بالتضحية التي جاءت بالنصر ، أن الجباه تواجه السماء ، و كأننا تحولنا جميعا لهيئة تماثيل أجدادنا الملوك ، الهامة مرفوعة و البسمة محفورة على الشفاة و القلب بوقار و ثقة ، هذا القلب الذي لا يمل من شكر الله و حمده علي سلامة كنانته و نصر جيشه و تأييده لهم .


احتفال متكرر لا تمله أذنك و لا تتبلد معه مشاعرك فتستمع بلا كلل لأناشيد الحشد و رفع الهمم فيه ، أغانيه بعد مرور ٤٨ عاما مازال لها نفس الوقع في القلوب و النفوس ، مازال كل بيت في مصر يتذكر أحبابه ممن ذادوا عنه و عن الوطن في معركة الحق و الكرامة
لن تجد بيتا في المحروسة لم يعرف الحنين و الخوف و القلق ليس فقط على من ذهبوا لخط النار بل القلق من أن لا يعودوا بالنصر ، فالنصر وقتها كان أهم من كل روح حتى و ان كانت فلذة الكبد .


في هذا اليوم لا تنقطع الأحاديث و الحكايا عن بطولات يرونها عادية و تراها الدنيا استثنائية ، فهذا العم (أحمد ادريس) … أحد أخلص افراد الجيش أتى بفكرة عبقرية أربكت العدو ، فقط تحدثوا اللهجة النوبية..لتصبح لغة أهل النوبة الطيبين هي شفرة النصر. و هذا (الفريق أول محمد عبد المنعم محمد رياض) رئيس الأركان في أصعب الأوقات يستشهد بين جنوده فيلهب قلوبهم بالثأر له و كيف لا و هو قائدهم . و هذا (العميد ابراهيم الرفاعي) أسد الصاعقة و قائد المجموعة ٣٩ قتال ، كانت صرخات العدو تعلو مع كل عملية ينفذها مع مجموعته ، كلهم و غيرهم لا يتسع العمر حتى لذكرهم و سرد بطولاتهم . 


مصريون حتى النخاع كباقي المصريين. يتحملون ضيق المعيشة و مصاعب الحياة..يصبرون على  فقدان الأحباب، لكنهم لا يتحملون فقدان الأرض أو طمس الهوية المصرية . 


عانت مصر كثيراً على مر تاريخها من الأطماع ، و كيف لا و ملكها يساوي مُلك الدنيا . إلا أن مجرد الفكرة أن يقتطع جزء منها و يفصل عنها و يهجر خط القناة و العدو هو العدو الذي لا يطمع في ثرواتها فقط، بل يطمع في الأرض و التاريخ ، يطمع في طمسه و كتابة تاريخ مزيف، تلك كانت فكرة مدمرة لم يستطع المصريون التعايش معها لحظة طوال سنوات حرب الاستنزاف ، ضجوا بالانتظار و ثاروا كثيرا و قابلت القيادة هذه المشاعر بالصبر و التأني فلا معنى للتحرك إن لم يأتي بالنصر .


و انتصرنا مرتين ، مرة على الأرض بتأييد إلهي للحق ،  و ببطولات عظيمة تعجز عنها الكلمات و لا يكفيها المداد و لو كان بحرا ، و أخرى بعد فرض قوتنا على الأرض و إحكام سيطرة الديبلوماسية على المشهد. لترجع الأرض و تظل العقيدة و إن حل السلام ، عقيدة أن هناك على الحدود الشرقية غاصب محتل لا يرى الا مطمعه ، و لا نراه الا عدوًا . هكذا نربي أولادنا. و هكذا عقيدة جيشنا هي حماية الأرض بالغالي و النفيس.


و لأن العدو لا يمل فقد غير أسلوبه و أصبح يشكك بلا كلل في انتصار جنودنا و يؤكد زيف المعارك. يقابل كل هذا بالتجاهل والسخرية على المستوى الشعبي، لأن جيلنا -بكل بساطة- عايش أصحاب المعركة الأصليين ، سمعنا منهم و عنهم و رأينا بطولاتهم و ندبات معاركهم و فخرهم حتى بملابسهم التي خضبتها دمائهم في عزة و شرف. لكن ماذا عن أبنائنا و أبنائهم ؟؟ من لهم ليذكرهم ليردوا زيف الادعاء ؟! 


لن يردوا إلا إذا حفر في وجدانهم مشاهد لهذه المعارك بنظرة عصرهم. أعمال فنية تجسد البطولات  و تحيي ذكرى أصحابها ، هم النبتة الصالحة التي تظلم دائما بقلة الانتماء مع أن المتهم الحقيقي هو نحن. هم تابعوا أعمالًا كالاختيار و الممر بكل الروح المصرية التي ظن الجميع أنهم لا يمتلكونها.مع أن الحقيقة أننا فقط لم نعطهم أدواتها، فكيف نحاسبهم و لم نعطهم ما يبعث فيهم العزة و الكرامة و يعرفهم بقيمتهم و قيمة أرضهم.


نحن المقصرون، نعيش مع حكايات الأبطال و لم نحاول يوما أن نجعلهم يسمعونها مثلنا . لم ننتج أعمالًا ترقى لمستوى تفكيرهم و عصرهم ، تلهب حماسهم و تحفر في ذاكرتهم لتصبح حائط الصد في معركة الزيف التي يقودها العدو بتأن و صبر و دهاء.


المادة الوثائقية لحرب اكتوبر يمكننا أن نصنع منها مكتبة فيلمية متكاملة ، فهي شديدة الثراء و التنوع ، لكل فرقه حكايات و لكل يوم آلاف الحكايا و كلها حق و فداء. فكيف لم نعرفهم بها ؟! كيف نحاسبهم و نحن المقصرون في حق انتمائهم؟! لا يعرفون عن السادس من اكتوبر الا أنه يوم عطلة رسمية!؟


فلنتق الله جميعا أباء و حكومة في مستقبل مصر و نعطِ لهم حقهم وحق هذه الأرض علينا، حقها في ان تظل حاضرة في قلوب شبابها بتاريخها و بعزة أبنائها بتضحياتهم المبذولة من أجلها، فهذا حقهم و حقها علينا .
فلنسجل لهم ذاكرة مصرية خالصة يشعروا معها بقيمة هذه الارض و تكن لهم ذاكرة وطنية فمثل هذه الاعمال هي ذاكرة وطنية للشعوب .