ورحل الحارس الأمين...

محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود

بقلم: محمد صلاح عبد المقصود

يحتفي الناس كثيراً بمن ينقذ أسرة صغيرة من خطر محدق كاد يطيح بها إلى المجهول، فيما لو أنقذ أحدهم قرية أو مدينة، يضعه الناس في مصاف الأولياء و العارفين، و لو أنقذ ألف أو اثنين أو مائة ألف اعتبره الناس خارقاً للعادة أو مؤيداً من السماء، فما بالكم برجل أنقذ وطناً بأكمله، و جنب ملايين الأسر و الأفراد مصائر مظلمة و كارثية، كان أقلها ضرراً المبيت في الخيام بالعراء على حدود دول حولنا كانت قد انهارت بالفعل!
 
رغم كل ما مر به المشير طنطاوي من مراحل خطيرة  و مواجهات حاسمة، بدأها بالمشاركة في رد العدوان الثلاثي على مصر بعد أيام قليلة من تخرجه من الكلية الحربية، مروراً بدوره المؤثر في المعركة الصينية، و التي يؤرخ لها على أنها واحدة من أهم معارك حرب أكتوبر المجيدة، و عدد لا نهائي من المواجهات أثناء قيادته للقوات المسلحة المصرية منذ عام 1991 و حتى أغسطس 2012، إلا أن ما قام به أثناء ثورة يناير يظل هو العمل العسكري و الاستراتيجي الأبرز في حياته، والتي كان الانتقال من تحدٍ إلى آخر هو أبرز معالمها.
 
لكي تفهم عظمة ما قام به هذا الرجل في هذه المرحلة، عليك أن تتفهم أولاً طبيعة الحراك المصطنع، و الذي دفعت اليه الدولة المصرية -و معها الاقليم بالكامل- لأسباب لسنا في مجال ذكرها أو عرضها، عليك أيضاً أن تتفهم تكلفة المواجهات التي دارت في الدول المحيطة بمصر، ثم عليك أن تسأل نفسك سؤالاً واحداً و محدداً، الذين لم يفعلوا كما فعل المشير طنطاوي، ماذا كانت نهايتهم؟، و ما هي المكاسب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي حققوها لشعوبهم؟!
 
كانت مصر مع بداية 2011 على موعد مع ثورة ايديولوجيات تخطت جميعها حدود أمن و سلامة و استقرار الوطن، و لم تتورع أي فئة منهم وقتها في فعل أي شئ من أجل الانتصار لنظرياتها التي كانت أغلبها ضجيج فارغ بلا طحن، ثورة صاخبة تلتهم الرجال و النساء و الاطفال دون مشروع تنفيذي واضح أو توجه يخدم مصالح هذا الشعب الطيب، و تحت ستار الثورة تم الهجوم على كل ثوابت الدولة المصرية بلا شفقة و لا رحمة!
 
في تلك اللحظات الكئيبة كان الرجل منحازاً للاستقرار و أمن المواطن، و الذي لم يكن ليحدث دون وجود جيش وطني يقوده رجل يعرف ماذا يريد جيداً، مارس المشير طنطاوي دوراً غير تقليدي في الحياد الايجابي بين الفرقاء، كان أمامه حلاً من اثنين، أولهما كان الأسهل على كل قائد عسكري نتيجة النشأة و التجربة و التدريب، و هو اطلاق الرصاص و تسوية الأوضاع الأمنية المتردية بالقوة، و الآخر و هو الخيار الأصعب، أن يستوعب الرجل مائة مليون مصري في هدوء و ثبات و قوة، حتى يعبر بمصر مرحلة الخطر، و هو ما حدث بالفعل!
 
استطاع المشير طنطاوي أن يتجاهل ببراعة فائقة معارك الايديولوجيات المختلفة، و أن ينشغل بالوطن و أمنه و استقراره فقط، و هو أمر لم يكن سهلاً أو بسيطاً في ظل مجتمع ثائر كان يعاني وقتها من استقطاب حاد بين أفراده و مؤسساته، و لم يكن هناك ما يبعث الطمأنينة في نفوس المصريين في ظل الحريق الثوري و الانفلات الأمني و انهيار الشرطة، إلا جولات متقطعة للمشير طنطاوي في ميدان التحرير، و حديثه الهادئ الذي كان ينزل برداً و سلاماً على بسطاء المصريين.
 
و ما يغفل عنه كثيرين في حديثهم عن المشير طنطاوي هو انه دافع عن الوطن عندما هاجموه، و أعلى شأن المصلحة الوطنية في الوقت الذي انحازوا فيه لمصالحهم الشخصية، و قدس الوطن و مكتسباته و مصالحه في الوقت الذي باعوها بثمن بخس في مختلف العواصم الاقليمية و الدولية.
 
كل ما يذكره الذباب الثوري على اختلاف توجهاتهم للراحل أنه لم ينتصر لايديولوجيتهم الخاصة فقط، كل الحوادث التي يتهمونه بها كانت عبوات ناسفة كادت تحول مصر الى نسخ أكثر دموية و خراباً مما حولها، و لولا تدخل الرجل و المؤسسة العسكرية من خلفه، لحدث في كل حادثة منهم ما لا يحمد عقباه.
 
اليوم يكرم الشعب المصري رسمياً و شعبياً هذا البطل في يوم رحيله، يكرم البطل الذي عرقل خصخصة عدد كبير من المؤسسات الوطنية، و تصدى وحده لرجال البيزنس في القاعات المغلقة، و حافظ على مقدرات الوطن حرباً و سلاماً، يكرم المصريين الرجل الذي انحاز لهم و لأمنهم وقت ما باعتهم الدنيا بأكملها!
 
البعض يقول أن المشير طنطاوي لم يقدم مالاً أو مكاسباً مادية بالفعل، لكنه قدم للمصريين حياة، كانت في ذلك التوقيت أهم من كل كنوز الدنيا!
 
عزائنا لمصر قيادة و شعباً في رحيل حارسها الأمين، عظم الله أجرك يا وطن في هذا المصاب الأليم، و رحم الله المشير طنطاوي، و جازاه عنا و عن كل مصري خير الجزاء.