أول عيادة لعلاج الإدمان في مصر أنشئت عام 1969

الكيف والمزاج تضيع معهما أموال كثيرة قد يستحقها الأبناء أو أم مريضة لعلاجها
الكيف والمزاج تضيع معهما أموال كثيرة قد يستحقها الأبناء أو أم مريضة لعلاجها

كتب: أحمد الجمال

تحفل أعداد أميرة المجلات «آخرساعة» منذ عقود طويلة بموضوعات شائقة، ربما طاولها غبار الزمن، لكنها لا تزال تحمل رائحة العبق، وحين يقع تحت يدك عدد عتيق منها فهو بمثابة كنز يلقى هالة ضوء على مرحلة مهمة من تاريخ الصحافة، بل وتاريخ مصر عموماً فى ذلك الوقت، وفى السطور التالية نستعرض «كنوز الأميرة» وما فيها من صفحات الماضى الجميل منذ أعوام وأعوام قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.

تنتشر في مصر حالياً العديد من المستشفيات والمراكز المتخصصة فى علاج الإدمان، بالتوازى مع حملات يجرى إطلاقها بين الحين والآخر للتنبيه بخطورة الإدمان على الصحة والأسرة والمجتمع، مع تقديم المساعدة للقضاء عليه.

لكن قبل نحو 52 عاماً، وتحديداً فى أكتوبر 1969، ظهرت أول عيادة فى مصر لعلاج ضحايا المخدرات ومدمنى الخمور، وكان يديرها المسئولون عن مكافحة المخدرات،وأجرت «آخرساعة» تحقيقاً حول تلك العيادة تحت عنوان «الكيف له علاج»، نعيد نشر أبرز ما ورد فيه بتصرفٍ محدود فى السطور التالية:

أول عيادة لعلاج مدمنى المخدرات والخمور والأقراص المنومة حققت نتائج طبية.. المسئولون عن مكافحة المخدرات أنفسهم هم الذين يديرون العيادة ويشرفون عليها.. كل بيانات العلاج سرية.. لا عقوبة على أى مدمن مخدرات يتقدم باختياره للعلاج.
ولكن ما هى خطوات علاج المدمن؟ وهل تنتهى صلته بالعيادة بعد العلاج؟ ولماذا لا تقام عيادات أخرى فى المحافظات؟

حطام البشر

بقايا إنسان.. عظام مركبة توحى بأنها كانت لإنسان.. هيكل عظمى إلا أنه يتلوى ويصرخ.. يحمله الأقارب والأهل والأصدقاء وهو يئن من الألم.. وعلى عظام الوجه حفرتان غائرتان مليئتان بالدموع وأنف ترْشَح إفرازاته بغزارة.

ما هو هذا المرض الفظيع الذى ألمّ بهؤلاء الوافدين إلى العيادة؟ إن الإنفلونزا مهما وصلت شدتها لا يمكن أن تترك كل هذه الآثار السيئة وتنهك الشخص حتى يصبح هيكلاً عظمياً ويصرخ من الآلام الشديدة فى رأسه وفى كل جزء من جسده.

ونحن ما زلنا نقف على باب هذه العيادة التى يدخلها حُطام البشر، فإذ بنا نسمع سيدة تُطلق دعواتٍ طيبة للجمعية، لأنها أعادت لها ولأسرتها السعادة، وأعادت لها زوجها بعد أن حطّمّه «الكيف».

ومن الدكتور محمد المرازقي، أخصائى الأمراض العصبية والنفسية، علِمنا أن هذا الكيف هو المخدرات والأفيون بالذات. سألناه: هل يمكن علاج مدمن المخدرات؟ وكم من الوقت يستغرق علاجه؟

قال: إن الحالة تختلف من شخص لآخر، ويرجع ذلك إلى مدة الإدمان ودرجته، فقد يمكن علاج شخص كل شهرين، وقد يستغرق ثلاثة أو أربعة شهور، والأفيون يؤثر فى الجهاز العصبي، ولذلك يشعر المدمن بآلام لا يحتملها.

العقيد دكتور صالح الدسوقي، قال إن العيادة افتتحت فى 5 أكتوبر عام 1969، وبدأت عملها على اثنين فقط من المدمنين، إلى أن وصل عدد المترددين على الجمعية إلى 1212 حالة، نستقبل منهم يومياً 150 إلى 200 شخص، وعالجت الجمعية 75% من الحالات المترددة عليها.

نساء مدمنات

سألنا الدكتور الدسوقي: هل كل المترددين على العيادة من الرجال؟ ألا توجد سيدات مدمنات؟ فقال: لقد حضرت إلينا ثلاث سيدات منذ افتتحت الجمعية حتى الآن، واحدة منهن حضرت وكانت العيادة ما زالت فى طور إنشائها، ولذلك قمت بتحويلها إلى القسم الخاص فى مستشفى الأمراض العقلية، وهو قسم العلاج فيه على حساب المريض، وكانت هذه السيدة وهى موظفة محترمة مدمنة أفيون، وسبب إدمانها للأفيون أنها كانت قد أصيبت بالتهاب فى اللوزتين ونصحها زملاؤها بأن قطعة من الأفيون تخفف لها الألم والنتيجة أنها اعتادته ولم يعد بإمكانها أن تقلع عنه، أما السيدتان الأخريان فقد عالجتهما الجمعية.

العلاج النفسى والاجتماعى للمدمن ضرورى بجانب العلاج الطبى

أردنا أن نعرف ما إذا كانت المخدرات والخمور وحدهما مكمن الخطر، فقال لنا إن هناك نوعاً آخر خطيراً من الإدمان، هو إدمان الحبوب المنوِّمة، وهذا الإدمان منتشرٌ بين السيدات مثل الحبوب المنومة والحبوب المنشطة.

علاج اجتماعى

وذهبنا إلى اللواء نيازى حتاتة، رئيس الجمعية، وقلنا له إن هذه أول مرة نرى أن الشرطة لا تكافح المخدرات داخل أسوار السجن بل تكافحها عن طريق العلاج الاجتماعى والطبي، فقال: إن القانون يعفى من يتقدم للعلاج من العقوبة والجمعية يأتى إليها المدمنون من أنحاء الجمهورية ومن المحافظات البعيدة مثل سوهاج وغيرها، ولذلك أفكر فى إنشاء فروع للجمعية فى المحافظات، إلا إننى أنتظر حتى تزيد القدرة الحالية للجمعية.. وقد وجدنا أن العلاج يأتى بنتائج عظيمة، فالواقع أن التقليل من عدد المدمنين هو فى الوقت نفسه مكافحة للاتجار فى المخدرات.

وعلمنا أن الجمعية فى بداية عملها كانت تعالج المدمنين بالمجان، قبل أن تقدم خدماتها مقابل أجر رمزى لكن ذلك لم يؤثر فى عدد المترددين على الجمعية، حيث قال رئيسها: إن الأجر الرمزى لا يزيد على خمسة قروش، وإذا قارنا هذا الأجر بما ينفقه المدمن يومياً على المخدرات لوجدناه يمثل نسبة ضئيلة جداً، فالشخص يصرف يوميا ما لا يقل عن 50 قرشاً على المخدِّر، وإذا اشترى المدمن الأفيون بمبلغ خمسة عشر قرشاً يومياً ـ وهذا أقل مبلغ يشترى به ـ فإنه يحتاج بجانب المخدِّر إلى تناول كثير من الشاى والقهوة والسجائر.

رعاية طبية

وفي حجرة الأخصائى الاجتماعى وجدنا مجموعة من المدمنين يجلسون في مناقشة مشكلاتهم الاجتماعية.. وسألنا رئيس الجمعية عن الأسباب التى تؤدى إلى الإدمان فقال: إن المدمن يجهل فى البداية مضار المخدرات، فلأسباب عديدة يوهمه أصدقاء السوء بأن هذا المخدر سيزيل كل ما يعانيه ويفاجأ فى النهاية بأنه لم يحل له المشكلة بل أضاف إلى نفسه مشكلة أخرى حطمته صحياً ومادياً وجعلت منه بقايا إنسان..

وقد ترجع الأسباب الرئيسية إلى الناحية الجنسية أو أن صديق السوء يوهمه بأن هذا المخدر يعطى نشاطاً وقدرة أزيد على العمل، فيتناوله، والمشكلة تأتى من أن الشخص فى أول جرعة يشعر بهذا النشاط، ثم يؤثر المخدر فى جهازه العصبى فيجعله يشعر بالألم إذا لم يتناوله وتضعف صحته ولا يستطيع القيام بالعمل الذى من أجله تناول المخدر..

ومثال على ذلك السائقون الذين يعملون بالليل والنهار.. حيث تلعب البيئة دوراً كبيراً فى نشر هذه المخدرات، فجليس السوء قد يؤثر فى صديق من دون أن يشعر ويدعوه إلى تناول المخدِّر ويبهره بمزاياه، وقد تكون أسباب الإدمان اضطرابا فى السلوك.

لعنة الأفيون

ومع المدمنين الجالسين حول الأخصائى الاجتماعى سمعنا قصصاً دامية.. عبدالهادى إبراهيم منصور، نحّات، يتناول الأفيون منذ 25 سنة، حتى حضر إلى الجمعية حطام إنسان، كان يتراوح مكسبه بين جنيه وثلاثة جنيهات يومياً، إلا أن هذا المكسب يضيع معظمه على شراء الأفيون، ويترك أسرته المكوَّنة من خمسة أولاد وبنت من دون أى رعاية أو إنفاق عليهم، لدرجة أن زوجته كانت تتشاجر معه دائماً.. سألناه: هل أولادك فى مدارس؟ فهز رأسه بأسى، وقال: أولادى مشردون.

ومن الحكايات التى سمعناها فى حجرة الأخصائى الاجتماعي، قصة إنسان بدأ طالباً فى مدرسة السعيدية عام 1921 ثم صادق أهل السوء فبدأ فى شرب الخمور فجرى فصله من المدرسة، وعمل بشركة «ماتوسيان» وبعدها التحق بالجيش، وفى خلال خمس سنوات الخدمة فى الجيش حوكم فى 14 مجلساً عسكرياً

 

 

وفي عام 1937 توفى والده وورث منه 17 ألف جنيه أضاعها جميعاً على الخمور، وفتح محلاً للموبيليا ضاع منه فى سنة، وتدهور حاله حتى اشتغل قهوجياً فى أحد المحلات، وجاء إلى الجمعية فى حالة يائسة وعولج تماماً، واستطاع فى أقل من عام أن يشترى مقهى ويديره بنفسه، والآن يتمنى أن يترك لابنته المشلولة ما يعوضها عن السنوات التى تركها فيها من دون علاج.

انتهت زيارتنا للعيادة التى أحسسنا بداخلها فعلاً بمعنى كلمة «الشرطة فى خدمة الشعب».. إن هذه العيادة وحدها لا تكفي، لأن محاولة علاج المدمن نفسياً وطبياً إنما هو جزء لا يتجزأ من محاولتنا لحل مشكلة المخدرات من جذورها.. وما زلنا نتمنى أن يتحقق حلم اللواء نيازى حتاتة فى أن نرى الكثير من العيادات فى القاهرة وسائر المحافظات.