حوار: ميا فانك - ترجمة: رفيدة جمال ثابت
تعددت إسهامات الكاتب البريطانى نيل جايمان فى شتى الألوان الأدبية؛ ما جعله يحتل مكاناً قائمة أفضل عشرة كُتاّب لأدب ما بعد الحداثة على قيد الحياة (بحسب موسوعة سير الأدباء). وقد نالت أعماله العديد من الجوائز الدولية من بينها: وسام جون نيوبيرى وأندرو كارنيجى، وأربعة جوائز هوجو، وجائزتى نيبيولا، وأربعة جوائز برام ستوكر، وستة جوائز لوكاس، وجائزتى جمعية الخيال العلمى البريطانية.
هنا حوار معه.
>هل يتملكك الخوف من الإفراط فى الكتابة؟ تقول إنك نبذت أشياء كانت غير جوهرية ودخيلة، لكن جمال البداية أحياناً يكمن فى تلقائيتها. فهل راودك يوماً الخوف من أن تفقدك المسودة الثانية مصقولة ما يُطلق عليه البداية العفوية؟
لا، لا يساورنى أدنى قلق حيال ذلك، بل جُل ما أخشاه أن أضل طريقى فى غابة القصة. غير أنى أعلم أن المسودة الثانية لن تقضى على ما جاء بالأولى؛ فالمسافة بين الأولى والثانية 5%. الأولى تبدأ من مكان ما ثم تستمر بالمضى قدماً، أما فى الثانية فتستوثق أنك تقول كل ما تريده، وتلاحظ الأمور التى غفلت عنها بصفتك قارئًا، ومن ثم تقوم بإصلاحها بصفتك كاتبًا. عودة إلى سؤالك، هل أقلق حيال الإفراط فى الكتابة؟ أجل. فى عام 1989، كتبت فقرة، أطلقت عليها عنوان دعاء الكاتب، تقول: «إلهى، لا تجعلنى ممن يفرطون فى الكتابة. يخففون كل شىء يريدون قوله كطبقة زبد خفيفة على الخبز، أو كلبن مخفف بالماء فى فندق معدم. بل دعنى أكتب الأشياء التى أرغب فى قولها، وأصمت إلى أن تجتاحنى الرغبة فى الكلام مجدداً. إلهى، لا تجعلنى ممن يشحون بكتابتهم؛ فيكتبون كل عشرة أعوام قصة أو قصتين، حيث كل كلمة تكتسب أهمية محورية وتحل الرهبة محل البهجة فى الصفحة. إن السعى إلى الكمال يشبه مطاردة الأفق، لقد حزت الكمال، فهبنا بعضه. والأهم من الإمساك والإسراف، امنحنى الشجاعة والحكمة يا إلهى، وأنا أكتب قصصى، لأقول الحقائق وأكتب الأكاذيب بصوت صادق».
>بدأت مع دوجلاس آدم ثم تيرى براتشِت، ما الذى دفعك لكتابة «رجل الرمل» «ساندمان»؟ لا أعرف التسلسل الزمنى الدقيق.
التسلسل الزمنى غريب. كل ما رغبت فعله خلال فترة الثمانينات هو مجال القصص المصورة. كنت شغوفاً بها؛ إذ تبدو لى مكاناً لم يطأه الناس من قبل. أما الروايات فهى كالحقول المحروثة، تنظر إليها كأنك تنظر إلى مزرعة جميلة. استخدمها أناس أذكى منك لقرون، زرعوا هناك محاصيلهم منذ مئات السنين. أما القصص المصورة فتشبه الدغل. يمكننى الذهاب حيث أشاء وفعل ما لم يفعله أحد من قبلى. لذا كنت أدون «لا تفزع»، وهو كتاب سيرة عن دوجلاس آدم، بينما أعمل، فى نفس الوقت، فى بعض القصص المصورة. كما كنت صحافياً وصديقاً لتيرى براتشِت. كنت أكتب «بشائر خير» و«رجل الرمل» و«كتب السحر» فى وقت متزامن، وكان أمراً شاقاً. كنت أنهى تدوين صفحة فى كل كتاب بشكل متسلسل، ثم أخلد للنوم فى الخامسة فجراً، واستيقظ فى الواحدة ظهراً، وأقوم بنفس الأمور مجدداً. كان وقتاً جنونياً عظيماً، أشعر بالسرور حينما أتذكره. كنت فى الثامنة والعشرين وأتمتع بطاقة لا تنضب، لكنى لم أعد كذلك الآن.
>هناك نوع من ذكاء الزخم حينما تكتب عدة أشياء فى آن واحد. تحدثت عن القصص المصورة وقدرتك على التجريب فى شكل أدبى حديث نسبياً. غير أن رواياتك ذات الطابع الفانتازى تبدو منفتحة على المزيد. أعنى أنها تتيح لك حرية أكبر مقارنة بالرواية التقليدية.
صحيح، ومن المؤسف أن تكون الفانتازيا النوع الأدبى الوحيد تقريباً الذى يتيح أكبر قدر من الحرية للكاتب. لكنى أعتقد أيضاً أنه من السهل أن تكون الفانتازيا النوع الأكثر انتهاجاً فى الأدب. وهكذا تمتلك شيئين مستمرين فى آن واحد، بينهما نوع غريب من الجذب والشد. يمكننى الإشارة إلى رواية «غبار النجوم» التى أحببتها لأنى علمت طبيعتها؛ فلم تكن مجرد توليفة أو مزيج متنوع. هناك فانتازيا ما قبل وما بعد «سيد الخواتم». فانتازيا ما بعد «سيد الخواتم» ضخمة وهائلة وتصدر فى ثلاثيات. من ناحية أخرى، فانتازيا ما قبل «سيد الخواتم» ما زالت تعتبر أدباً. أعتقد أن الكاتب الذكى باستطاعته كتابة رواية بها جنيات أو ساحرات أو أى شىء آخر. لكنك تمتلك صوتاً أدبياً مميزاً، وذلك بالنسبة لى ما كانت تعنيه «غبار النجوم”، التى أحبها بعض القراء، بينما تساءل بعضهم لماذا لم تكن أكبر حجماً أو صدرت فى ثلاثية؟ كما أنك لن تجد الأشياء التى تتوقع وجودها فيها.
>هذا بالضبط ما جعلنى أحبها!
وأنا كذلك. لست مهتماً بأشكال الأدب الروائى، بل كل ما يهمنى هو استخدام الفانتازيا بكل الطرق الممكنة. لقد تحدث ج. ك. تشيسترتن عن الأشياء المنعكسة؛ إذ تصير الفانتازيا مرآة ترى فيها أشياءً موجودة لم ترها من قبل، لكنك تراها من زاوية مختلفة. وتلك هى طبيعة روايات «المحيط فى نهاية الدرب» و«آلهة أمريكية»، وكذلك رواية «لا مكان» «نيفيروير» التى كأنها تقول للقارئ: «انظر، ها هى مدينة تظن أنك خبرتها جيداً، هيا نرى طبيعتها. هيا نتعرف على أناس منسيين لم ترهم من قبل”. ثم تسترسل فى حوار غريب مع القراء.
>كتبت عن العائلات فى روايات مثل «رجل الرمل”، التى تقوم على مفهوم العائلة اللانهائية. لكن «المحيط فى نهاية الدرب» تبدو رواية شخصية. فى كتاب (آلهة أمريكية)، وهى رواية ساحرة ذكية، تأخذ آلهة من فترات متباينة. ورغم أنها مرحة وتدور أحداثها فى الزمن المعاصر، يكمن بين سطورها رؤية فلسفية مفادها أننا نعيش فى الحاضر لكننا فعلياً نكرر حيوات سابقة. دوماً تتردد على مسامعنا أصداء الماضى. كيف تستهل عملية الكتابة؟ هل تبدأ بموضوع تبحث له عن شخصيات؟ أم تبدأ بالشخصيات؟
كلاهما، وأحياناً أكثر. فى «آلهة أمريكية» واتتنى الفكرة عن الشخصيات. مجموعة من الأفراد يلتقون على متن طائرة؛ أحدهم يبدو سائحًا عجوزًا، وآخر خرج لتوه من السجن، وهذا كل ما أعرفه عنهم. كنت أقرأ باستفاضة عن الفولكلور الأمريكى حينذاك، لكنى كنت أجهل كيف أوفق بين ما اقرأه وتلك الفكرة. كنت قد انتقلت إلى أمريكا، وأمر بتجربة المهاجر التى بدت لى بعيدة كل البعد عن كل ما قرأته فى الأدب. تراءى لى أن تلك البلاد الشاسعة الغريبة لا تعبأ أو تحترم ما كنته سابقاً، وأن ما جلبته معك ليس مهماً، كأنك سقطت من ذاكرتها أو لم تعرك انتباهاً.
>ربما كان الأمريكيون مهووسين بالجديد؟
أعتقد أننى شعرت بالانبهار بهوسهم بالجديد وما كانوا عليه سابقاً. وحدث أن سافرت إلى النرويج، ولكن توقفنا أثناء الرحلة، وقضيت يوماً فى ريجافيك. شعرت بالأرق، وتجولت فى أحد المعارض وأبصرت صورة لرحلات ليف إركسون. حينها تساءلت هل كانوا يأخذون آلهتهم معهم؟ وفجأة ومض الأمر فى ذهنى، وقلت لنفسى هؤلاء هم الشخصيات وهذه هى القصة، ويمكننى أن أكتب شيئاً عن العلاقة بين القديم والجديد، عن الذاكرة وطبيعة أمريكا؛ ففى حوزتى الآن الشخصيات، والقصة، والموضوع. من الرائع الشروع فى الرواية وأنا أجهل ماهية أفكارى، وحينما أنغمس فيها اكتشف طبيعتها. أرى أن كتابة الرواية تعتبر رحلة استكشافية بشكل أو بآخر؛ فالكاتب يفترض أن جزء الكتابة فى ذاته أكبر وأذكى من الجزء الإنسانى، وأن جزء الكتابة يمتلك من القدرة البارعة ما يمكنه من تناول الأمور واستجلاء ماهيتها، وهذا هو الفارق بين المسودة الأولى والثانية.