عثمان الشيخ
صَوتك وكتْ قطع البَحَر
قُبّال مَراكبْ العُمدة
ضَهرْ النّيل عِرقْ..
"عاطف خيرى - شاعر سوداني-
مثل كل يوم، ايقظنى جدّى بطريقته المميزة، بعد أن سكب ابريقا كاملا من الماء على أذنى اليسرى ورأسى الاصلع، وهو ينتهرنى بعنف "قوم على حيلك، الشّمس بقت فى نص السماء". تحركت بتثاقل نحو الحمام. ومن ثقل مثانتى واستعجال جدّى لم انتظر أن أجلس وتبولت واقفاً -وهو من متع الحياة التى لا يدركها الكثيرون-. قفزت إلى عربة الكارو المتهالكة والتى يجرّها حمار كسول؛ متوجّهين نحو "البَحَر" هكذا ينقطها جدّي. يُلخص فى هذه الكلمة كل أشواق الشعراء والكتاب عن "النيل" وكل نظريات الاكاديميين عن "النهر العظيم" وكل محبة المزارعين "للخروف".
وأنا ارتج فوق العربة، أراقب الشارع والناس حولي، فذاتها الأجسادُ النحيلةُ، الرشيقةُ التى اشاهدها كل يوم وقد صقلتها أشعةُ الشمسِ فصار لونُ الجلدِ أسمر متوهجاً، يلتمع مع سقوطِ الضوء عليه. يلبسونَ عراريقهم الممزقة وسراويلهم التى تشربتْ بطين الأرض، معتمرين فى رؤوسهم طواقى مزركشة. يرتدونَ كلَّ ما يُخرجهم من دائرةِ العُراة، وعلى أرجلهم ما يصدُّ عنهم الأحجارَ والأشواك وسخونة الأرض. يضربون على عُلب التمباك خاصتهم بطرب وهم يضعون ما مقداره قبضة اصبعين من التمباك بعد تكويره جيّداً على شِفاههم؛ فيتّقد ذهنهم وتَعلو حناجرهم بالغناء، بأصوات مشروخة وحادة.
يضحكونَ على بعضهم البعض، يطلقونَ النكاتَ البذيئةَ والقفشاتِ السريعة وهم يخرجون للعملِ، ميممين شطر النيل العظيم. فى طريقهم يلقون التحايا على المزارعِ والتى يعتبرونها بيتهم الثاني. وكمائنِ الطوب التى تتحرّق شوقاً لهم، فيحيلون الشارعَ إلى مسرحٍ يضجُّ بالحديثِ والهتافِ والمناداة؛ وكأنَّ الحياة كلها اختُزلتْ فى هذه المحادثاتِ الصباحية يمتطون حميرهم ويُطلقون نداءات صوتيةً غير مفهومةٍ بالنسبةِ لي، ولكن ألْحظُ أثرها فى تحرُّكِ الأغنامِ واستجابتها، ثَمَّة لغةٌ خفيةٌ يتعاملون بها بينهم، لغةٌ لا تعترفُ بالقواميسِ وقواعدِ النحو. ولكنها بدت لى أكثرَ دقة ووضوحا.
فى الحقل وعلى مقربة من البَحَر انزلق خفيفاً إلى الداخل، ريثما يكمل جدى التفاوض مع صاحب المزرعة على شراء أحواض البرسيم. اتعلّق بنخلة نظيفة الساق وأشدّ بصرى نحو النيل؛ مترقباً ظهور بابور الخواجة وهو يحمل الناس من غرب مدينة شندى إلى شرق المدينة حيث اسكن، وأقف الآن على هذه النخلة، والتى يمكن أن أسقط منها فور مناداة جدى لي، قبل أن أجد إجابة على تساؤلاتى عن القوة التى يصمد بها بابور الخواجة على سطح الماء. هل هى عظمة البَحَر الذى يرفع الحديد ويَغرق البشر فيه؟ أم أن الخواجة شيطان كما يقول جدّي؛ فهو الذى صنع الطائرة لتطير فى الهواء، والبابور يمشى فى الماء والراديو ليذيع الأخبار. اسم بابور الخواجة لم يتغيّر حتى بعد ذهاب الاستعمار البريطاني.
يقطع جدّى هذه اللحظة العظيمة بمناداتي. يرمى لى بالمنجل، افحصه جيداً وامرر إصبعى على أسنانه التى تشبه كثيراً أسنان المنشار ولكن المنجل مُنحن فى شكل نصف دائرة، تتذيّله قطعه خشبية؛ للتخفيف من سخونة الامساك به. التقطه واحنى ركبتى اليمنى إلى الأمام واليسرى إلى الخلف. أقبض حزمة برسيم بيسارى وامرر المنجل الحاد على ساقها، أكرر هذه العملية عشرات المرات بلا كلل، أخترق حوض البرسيم الكبير غازياً، من اليمين تارة ومن اليسار تارة أخرى ومن العمق فى احايين كثيرة. تصلنى أصوات عمال الكمائن البعيدة، وصوت بابور الخواجة الذى قفل راجعاً، وأيضاً شتائم جدى مع جاره فى الحقل بعد أن تجادلا على سعر غنماية عجوز. أحزم البرسيم وارفعه على الكارو، وانزلق مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى الضفة وأول ما أفعله هو أن أعبئ بطنى بالماء والذى امتصه بلذة وأنا مستلق على بطنى بحذر حتى لا تتسخ ملابسي؛ فأثير غضب جدى وأمي. ثم اغسل وجهى ورأسي. وألوح بيدى لبابور الخواجة الذى اطلق صفارة اقترابه من الضفة.
المحزن فى الأمر أنى اليوم لم استطع حساب عدد مشاويره بدقة، وهو أمر اعتدت عليه كلما اتيت هنا.
بعد أن نطوف على عدد من الأماكن، نقوم فيها بتوزيع البرسيم وبيعه؛ نُعرّج على السوق والذى لم يكن بعيداً من المزارع والبَحَر. وكثيراً ما تخدمنى الصدفة فى أخذ نظرة أكثر قرباً لبابور الخواجة وهو يفرغ احشاءه على الضفة (أطفال صغار بعيون ذاهلة... وحمير يشق نعيقها كل حوائط الصمت... ونساء بدينات ونحيلات فى ثياب مزركشة... ورجال فى جلاليب ناصعة، يمسّدون شواربهم بلذة ... ديكة بتيجان حمراء تلتصق بدجاجات بيضاء بذيول ذات الوان غريبة..وغيرها)
نعود عصراً إلى القرية، نمر بذات الشارع الذى اجتمعنا فيه صباحاً.
يُغنّى العائدون إلى البيوت فى زهوٍ وفرحٍ، واجسادهم ترْتجُّ من فوق ظهورِ حميرهم التينآت جنباتها بحملِ الأعشابِ والأشجارِ اليابسة.
الحميرُ التى خبرتْ الدروبَ جيداً ولا تحتاجُ إلى توجيهٍ أو ضرب. تحمِلهم عبر ذات الطُرق التى أتوا منها. وربّما اخذوا غفوات سريعة وصغيرة فوق ظهورها. لا تكادُ تُميّزهم جيداً وهم فى وسط أغنامهم، فحركةُ أقدامها تُثيرُ الارضَ، فتُحيلهم الى أشباحٍ مع الغبارِ المُتصاعد. لكنها أشباحٌ ضاحكة وساخرة من الحياة. يتحركون فى مسارٍ واحدٍ كالنملِ يقتفى أثر شيءٍ ما. لا يغيّرون طريقَ ذهابهم أو عودتهم. وكأنهم صاغوا حياتهم على هذا المنوال. وأنا أشاهدهم بعينين متعبتين وعقل ما زال يغالط نفسه فى عدد أحواض البرسيم التى قام بجزّها ومشاوير بابور الخواجة التى لم يستطع عدّها جيداً.
السودان -مدينة شندى
يوليو