فتحى عبد السميع
عظام النيل وعكارته الوسيمة
يوجد النيل فى كلامى مهما كان الموضوع الذى أتحدث فيه، نسبة الماء فى الجسم تصل إلى تسعين فى المائة، يوجد النيل حتى فى أسناني، لكننى لا أره إلا بين ضفتيه، منظره الرائع يسحرنى لكنه لا يعبِّر عنه، هل عظامى وحدها تعبر عني؟! هل لحمى وحده يعبر عني؟!
أكثر من تسعين فى المائة من كيان النيل يوجد خارج مجراه، يوجد فى أجسادنا وأرواحنا، لكننا لا نراه.
بيوتنا الطينية نيلٌ بالمعنى الحرفى للكلمة، رأيتُ طمى النيل وهو يتحول إلى قوالب، رأيت القوالب وهى تجف و تتحول إلى حوائط، عشنا فى الفيضان نفسه بعد تحويل شوائبه إلى بيوت.
سأل الطفل ذات مرة: لماذا يصبح الطوب الطينى أحمر صلبا؟
وأجاب الطفل بعد فترة طويلة: لأن النيران تأخذ الماء إلى السماء وتذيب عظام النيل الشفافة التى لا يبصرها أحد.
نسبة الماء فى الأسنان تصل إلى اثنين فى المائة تقريبا، وهذه فى تصورى نسبة وجود النيل فى أبعد نقطة عن مجراه، لقد كان تأثير النيل قويا فى مسيرة البشرية كلها، فى طميه الأسود نبَتَ «فجر الضمير« وترسخ «أصل الشجرة» ، النيل موجود بنسبة ما فى الدنيا كلها، لكننا نحبسه بين ضفتيه ونقول هذا هو النيل.
أترك وجه النيل الوسيم وأبحث عنه فى عكارته الخصبة، فى الزراعات والبيوت والصحراء المتاخمة، أنظر إليه فى وجوه الناس وكلامهم وأسنانهم، أتحرك بصعوبة شديدة، نظراتي مرتبكة متعثرة، أنا الطفل الذى عاش عدة عقود قبل أن يكمل خطوته الأولى.
خنزير النيل
أحب النيل فى تفاصيله البعيدة عن مجراه، أحبه فى أسماكه، وأصطفى القرموط، خنزير الماء الجليل.
أحبه بشكله الطولى والثعبانى الذى يشبه النيل، وأحبه فى لونه الأسود الذى يشبه الأرض، أحبه لأنه أكبر من وطنه، ويعيش طويلا بعد خروجه من الماء، كل القراميط التى رأيتها فى مقاطف الصيادين كانت حية، كانت رمزا جيدا للنيل وهو يعيش بعيدا عن ضفتيه.
أصطفى القرموط لأننى كرهته، ولأنه يفتقد إلى الوسامة، وأنا أبحث عن النيل بعيدا عن وسامته الساحرة.
أحب القرموط لأنه يتمتع بسمعة سيئة، يعتبرونه خنزيرا نجسا لأنه يأكل أى شيء، ويعيش فى المصارف القذرة، ويعتبرونه شريرا لأنه يُستخدم فى أعمال السحر الأسود، يستغلون قدرته على البقاء حيا خارج الماء، و يربطون العمل السحرى فى رأسه المفلطح، تم يتركونه فى النهر، و هكذا تختفى التعاويذ المؤذية فى الأعماق البعيدة، ويصرخ الرجال والنساء من ألم الخصوبة التى اختفت فى قاع مجهول.
أنا القرموط النجس
كرهت القراميط تأثرا بأمي، لقد حرَّمتْ دخولها بيتنا، تقول: القرموطُ مقرفٌ وتهرب من سيرته، لم تُقدم سببا لتلك الكراهية غير لونه، وفمه الغريب، وشواربه الغبية، لكنها كلمتنى ذات مرة عن سفرها مع أبى إلى أسوان عندما كان يعمل فى السد العالي، كانت صبية صغيرة تشعر بمرارة التواجد فى مكان لا عم فيه ولا خال، وكانت لها جارة أسوانية تعاملها كابنتها، وكانت الأم الجديدة تصرخ كلما جاءت سيرة القرموط النجس، القرموط الذى أكل جدهم الكبير.
كلما جاءت سيرة القراميط فى بيتنا، كان أبى يغنى لها، وهو يحدثنا عن شبابه.
فى موسم الدميرة كانت المياه تصل إلى حافة البيوت، تغطى الأرض لمدة شهرين أو ثلاثة ثم تنحسر تاركة وراءها أطنانا من الأسماك، كانوا يجمعون القراميط من المياه الضحلة كما يجمعون حبات الطماطم من عروشها. يمتلئ أبى بنشوة غريبة، وهو يتذكر “الدميرة” وطواجن القراميط المعمولة فى الفرن البلدي.
بعد سنوات طويلة، ضحكتُ من سذاجتى عندما صدَّقتُ أبى وهو يحكى عن التقاط القراميط كما يلتقط الثمار من شجرة، الشجرة راسخة فى الأرض، أما الطين فى الماء الضحل فيجذب القدمين، الثمار تجلس مستكينة ضعيفة، والقراميط قوية وملساء ولا يمكن السيطرة عليها بتلك السهولة.
سألت أبى فجأة، كيف كنت تمسك القرموط دون أن يتزحلق ويفلت من بين يديك؟
ـ من رأسه، لاحد يسيطر على القرموط إلا إذا قَبَضَ على رأسه.
هل صُنِعَ رأسه المفلطح خصيصا كى يسهل استقراره فى الأيدي؟
صورة القرموط تتداخل مع صورتي، أنا أيضا يا أبي، لا أحد يمسكنى إلا إذا تمكن من رأسي، لكنني لا أنام فى طاجن، ولا يلعب بى صياد، لا أحد يمسكنى من خارجي، أتركُ فتحة فى رأسي، ليدخل أصحاب السلوك الإنسانى الجميل، ثم أغلقها وأفلت من الآخرين، كما يفلت قرموط قبضوا على ذيله.
القرموط الغضبان، والربة الضائعة
تظهر سمكة القرموط مع ظهور الدولة المصرية، نجدها فى لوحة نعرمر الشهيرة، فى اسم موحد القطرين نفسه والذى يتكون من صورة القرموط وصورة الإزميل أو المطرقة.
لقد احتار العلماء فى تفسير معنى العلامتين، قالوا تعنى «القرموط الغاضب» وقالو «محبوب» «نعرت» ربة النيل قبل حابي، ومنهم من قال «هو قاتل سمكة القرموط» النجسة التى أكلت عضو أوزير، رغم أن سمكة «القنوم» هى المتهمة المشهورة بالتهام عضو أوزير.
فى الأمر سرٌّ، عضو أوزير رمز لخصوبة المزارعين، والقرموط ـ أو أية سمكة أخرى ـ رمزٌ لخصوبة الصيادين، الأسطورة تحمل ذكرى صراع عنيف بين جماعات قديمة.
لا أعرف شيئا عن «نعرت» ربة النيل القديمة، ولعلها لا توجد فى أساطير القدماء، لكننى مطمئن إلى وجودها، ولو لم تكن موجودة لأوجدتها، من حقى صنع أسطورة منزوعة القداسة كى أعبَّر عن شعور لا شواهد له.
ربة النيل «نعرت» رمز لزمن أمومى تواجد قبل الزمن الأبوى الذى نعيش فيه منذ اكتشاف الزراعة، ذلك الاكتشاف الذى أدى إلى تحرير عضلات الرجال، كى تسوى الأرض الوعرة، وتبنى الجسور، وتحفر القنوات، وتقاتل من أجل الحفاظ على أرض القبيلة وتوسيع نطاقها، ومن ثم تكوين الممالك، وتوحيدها بالقوة فى دولة واحدة.
فى ظل سلطة الرجال تغيرت صورة العالم، وكان على ربة النيل أن تختفي، ليحل محلها رجل هو حابي، لكن من حسن الحظ كانت الحضارة المصرية القديمة طيبة، لم تخل من الشر، لكنها كانت قوية فى عرفانها، لم تجعل حابى ذكرا خالصا، بل خَلطتْ ملامحه بملامح أنثوية واضحة، كان فى استطاعة المصريين القدماء السيطرة على بلاد كثيرة جدا، لكنهم روضوا عنفهم ووقفوا كثيرا عند حدودهم ، لأن ترويض العنف أهم طبع فيهم، لقد عاشوا فى حلم لم ينقطع طوال آلاف السنوات، حلم ترويض الفيضان.
لماذا ارتبطت ربة النيل «نعرت» بصورة القرموط؟ ولماذا كانت الأسماك عموما موضع تحريم محرمة بالنسبة للكهنة، بخلاف بقية الشعب الذين كان السمك طعامهم الأساسى بعد الرغيف.
الكهنة صناع السلطة، وفى السمك شيء ضد السلطة، إنه رمز المصريين الأوائل الذين عاشوا على الصيد النهرى وجمع الغذاء، المصريين الذين هُزموا وعليهم البقاء فى ظل المزارعين متجردين من رموزهم التى تخيف الكهنة.
القرموط رغيف المصريين الأوائل
مصر التى نعرفها ظهرت مع اكتشاف الزراعة، وقبلها كانت توجد مصر أخرى تعيش على جمع الغذاء والصيد، مصر الكتوم التى لا نعرف عنها شيئا أكثر مما نعرف عن الماء فى الأسنان.
لم تترك لنا كتابا، أو بردية، أو نقشا، أو خربشة فى صخرة، تركت عظاما وأدوات بدائية من الحجر، وعلينا أن نبحث عنها فى تلك العظام، علينا أن نقرأ فى صمتها ملاحمَ وتواريخ وأحداثا دارت على مدار قرون طويلة لكنها فشلت فى ترْك كلمة واحدة.
عاش أسلافنا الأوائل بعيدا عن النيل، كانوا جماعات متفرقة فى مناطق عشبية، تنتشر فى الغرب والشرق، ثم ظهر الجفاف، واختفت الغابات، وتحول الغرب والشرق إلى صحراء.
رحل الأوائل إلى وادى النيل ودلتاه، لكنهم تجنبوا الفيضان واختاروا البقاء فى الأماكن والكهوف المرتفعة البعيدة عن متناوله، ومع ذلك بقى أثر بَلَغْته المياه، إنه “كهف القراميط” فى جبال النوبة، الكهف المرتفع الذى عثروا فيه على رواسب نيلية، و أطلقوا عليه ذلك الاسم لكثرة بقايا الأسماك فيه خاصة القرموط. وقد تبين من دراسته وجود ارتفاع كبير للفيضان سنة 5200 قبل الميلاد، وصل فيه النيل إلى منسوب يعلو منسوبه الحالى بستة عشر مترا.
لم يكن كهف القراميط هو الأثر الوحيد الذى تبقى من مصر الكبرى، ففى سنة 1985 قام فريق عمل بالتنقيب فى قرية «الشويخات» شمال شرق قنا، فى منطقة تماس بين الطمى الخشن الغامق و أهم وديان الصحراء الشرقية، وقد أسفر التنقيب عن العثور على مجموعة من العظام، وفى وسط العظام أمكن التعرف على بقايا نوع من الأبقار المندثرة، والغزلان، وسمك القرموط، وأمكن تحديد الموقع بتاريخ 24700 قبل الزمن الحاضر.
قرية «المخادمة» شمال شرق قنا، كانت محل بحث واسع، حيث تم العثور على عدة مواقع تحتوى على عدد كبير من الأدوات الحجرية والعظام، وتم تقدير زمن شغل هذه الأماكن بواسطة الإنسان بفترة تتراوح بين 12450 و 12050 سنة قبل الزمن الحاضر، وتتكون الطبقات الأركيولوجية للمنطقة من مواد ناعمة مترسبة تميل إلى اللون الأسمر الناتج عن الرماد والفحم وإرسابات الطمى الأسود، وقد توصل البحث إلى تفوق الدور الذى يلعبه الصيد النهرى على غيره من الأنشطة، ومن بين الأسماك التى أمكن التعرف عليها، يحتل القرموط نصيب الأسد، والثدييات أقل بكثير: الأرانب البرية وأفراس النهر، وأنواع من الأبقار الضخمة المندثرة، والظباء، كما تم العثور على صدفة تكشف عن وجود علاقات مجهولة تماما مع البحر الأحمر.
بفحص عظام الأسماك تبين أن نسبة القرموط كانت 99% ، و فى أحد المواقع تقدم البلطى ووصلت نسبته إلى 68%، لكنهم فسروا هذا التفاوت بالفارق بين الصيد فى الأيام العادية حيث ترتفع نسبة القرموط، والصيد فى موسم الفيضان، لأن البلطى من الأسماك التى تفضل المياه العميقة التى يتوفر فيها الأكسجين، فى حين يعيش القرموط فى الترع والقنوات الضحلة.
لقد كان صيد القرموط هو الأسهل قياسا بالكائنات الأخرى، كانوا الأوائل يعيشون على هامش الفيضان، وكانت أسماك القرموط تعيش على هامش النيل، وكانت متوفرة طوال العام ولهذا كانت أساسية فى الحفاظ على بقائهم، لقد لعبت سمكة القرموط فى حياة مصر الصيادين نفس الدور الذى لعبه الرغيف فى حياة مصر المزارعين.
أساطير النيل الخرساء
لو قمنا بتلخيص مصر القديمة فى كلمة واحدة لكانت حبة القمح، رمز الثورة الزراعية، ولو قمنا بتلخيص مصر الأولى فى كلمة واحدة لكانت سمكة القرموط.
على مدار آلاف السنين كان المصريون الأوائل ينظرون بامتنان إلى هذا الكائن النيلى الذى يترك المياه العميقة، ويذهب إلى أراضى طرح النهر و البرك والمستنقعات الضحلة، كى يكون فى متناول أيديهم التى لم تعرف وقتها شيئا عن الشباك والصنانير.
لا شك أنهم تكلموا عنه كثيرا، أقسموا بحياته كما نقسم نحن بالرغفان، ونسجوا حوله قصصا وقصائد وأساطير، لكنهم لم يتركوا حرفا يدل عليهم، لم يتركوا شيئا غير عظامهم وعظام قراميطهم.
أحلم بجيل من الروائيين والشعراء يمتلك الجسارة ويسافر إلى مصر الأولى والكتابة عن مغامرات المصريين الأوائل وهم يواجهون الحياة فى ظل ظروف قاسية، يتوجب عليهم فيها النضال اليومى بحثا عن الطعام، أحلم بمخيلة جبارة تسرى فى تلك العظام وتعيدها إلى سيرتها الأولى.
أحلم بتدوين الأساطير التى أبدعها هؤلاء الأسلاف، لا شك أنها كثيرة جدا، لأن الجماعات كانت كثيرة جدا، ولم تكن هناك دولة أو مملكة يتحكم فيها كاهن يوجه الأساطير ويسحبها إلى حظائره، أشعر أن كل واحد منهم كان كاهنا لفرط ما فى حياته البدائية من صمت وطفولة، أشعر أن كلل واحد منهم كان مبدعا لأسطورة، وأن غالبية أساطيرهم دارت حول القرموط، تماما كما دارات الأساطير الأوزيرية حول حبة القمح.
طقس القرموط
فكرت كثيرا فى إبداع طقوس محورها القرموط، تذكرت التمساح القديم عندما كانوا يخصصون له حظيرة، ويطعمونه باللحم، ويقومون بتزيين أذنيه بأقراط من الزجاج أو الذهب، وتزيين قائمتيه الأماميتين بالخلاخيل، ويدفنونه بعد موته فى مدافن خاصة بعد تحنيطه.
التمساح أيضا، كان مقدسا محبوبا وصار فى زمن الاحتلال اليونانى نجسا مكروها.
من حق القرموط علينا تخليده فى طقس يعبر عن العرفان، فكرتُ فى قرموط بخلاخيل وأقراط من زجاج وجنازة عند موته، ليذكرنى بأسلاف لم يتركوا كنوزا تجعلنا نمجدهم.
فكرة إبداع طقوس من أجل القرموط بدت لى سخيفة وتجاهلتها، لكن الطقوس تنبت من تلقاء نفسها أحيانا.
كلما رأيت قرموطا فى قفة صياد يدور بين بيوتنا مناديا على أسماكه، أقف صامتا وأنظر إليه نظرة عميقة وحنونة.
أشعر بحرارة تسرى فى القرموط، وتحرِّك شواربه، أنتظره كى يقفز مثل قطة ويستقر فى حضني.
الصمت أسطورة كبرى، قرأتُ أساطير مصر القديمة وكانت مشاعرى عادية تجاه أربابهم، لم أشعر بجلاله وهيبته أوزير إلا وأنا أقرأ هيرودوت، لأنه كان يصمت كلما جاءت سيرته خوفا وإجلالا.
فقدنا بصمْتِ هيرودت معلومات ثمينة لكننا ربحنا شعورا عظيما وساحرا، ينتقل إلينا بالعدوى لا بالتلقين.
النظرة الودودة الصامتة، هذا هو طقسي.
يتفقد الصياد أسماكه بحثا عن شيئ يستفزنى ولا يعرفه، والممسكون بقُفته يقطعون عملية البيع والشراء وينظرون إلىَّ باستغراب شديد.
_____________________________________
تلك الشهادة تدين بالفضل فى معلوماتها عن حفريات الشويخات والمخادمة لـ «بياتريكس ميدان رينيس» فى كتابها «عصور ما قبل التاريخ فى مصر» ترجمة ماهر جويجانى.