النيل فيضان الحكايات

فتحى عبد السميع يكتب : قرموط النيل

صورة تعبر عن صيد السمك في عهد الفراعنة
صورة تعبر عن صيد السمك في عهد الفراعنة

فتحى‭ ‬عبد‭ ‬السميع

عظام‭ ‬النيل‭ ‬وعكارته‭ ‬الوسيمة‮ ‬

يوجد‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬كلامى‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الموضوع‭ ‬الذى‭ ‬أتحدث‭ ‬فيه،‭ ‬نسبة‭ ‬الماء‭ ‬فى‭ ‬الجسم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬تسعين‭ ‬فى‭ ‬المائة،‭ ‬يوجد‭ ‬النيل‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬أسناني،‭ ‬لكننى‭ ‬لا‭ ‬أره‭ ‬إلا‭ ‬بين‭ ‬ضفتيه،‭ ‬منظره‭ ‬الرائع‭ ‬يسحرنى‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يعبِّر‭ ‬عنه،‭ ‬هل‭ ‬عظامى‭ ‬وحدها‮ ‬‭ ‬تعبر‭ ‬عني؟‭!‬‮ ‬هل‭ ‬لحمى‭ ‬وحده‭ ‬يعبر‭ ‬عني؟‭!‬‮ ‬

أكثر‭ ‬من‭ ‬تسعين‭ ‬فى‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬كيان‭ ‬النيل‭ ‬يوجد‭ ‬خارج‭ ‬مجراه،‭ ‬يوجد‭ ‬فى‭ ‬أجسادنا‭ ‬وأرواحنا،‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نراه‭.‬‮ ‬

بيوتنا‭ ‬الطينية‭ ‬نيلٌ‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحرفى‭ ‬للكلمة،‭ ‬رأيتُ‭ ‬طمى‭ ‬النيل‭ ‬وهو‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬قوالب،‭ ‬رأيت‭ ‬القوالب‭ ‬وهى‭ ‬تجف‭ ‬و‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬حوائط،‭ ‬عشنا‭ ‬فى‭ ‬الفيضان‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬تحويل‭ ‬شوائبه‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭.‬‮ ‬

سأل‭ ‬الطفل‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭: ‬لماذا‭ ‬يصبح‭ ‬الطوب‭ ‬الطينى‭ ‬أحمر‭ ‬صلبا؟

وأجاب‭ ‬الطفل‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭: ‬لأن‭ ‬النيران‭ ‬تأخذ‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وتذيب‭ ‬عظام‭ ‬النيل‭ ‬الشفافة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يبصرها‭ ‬أحد‭.‬‮  ‬

نسبة‭ ‬الماء‭ ‬فى‭ ‬الأسنان‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬اثنين‭ ‬فى‭ ‬المائة‭ ‬تقريبا،‭ ‬وهذه‭ ‬فى‭ ‬تصورى‭ ‬نسبة‭ ‬وجود‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬أبعد‭ ‬نقطة‭ ‬عن‭ ‬مجراه،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬تأثير‭ ‬النيل‮ ‬‭ ‬قويا‭ ‬فى‭ ‬مسيرة‭ ‬البشرية‭ ‬كلها،‮ ‬‭ ‬فى‭ ‬طميه‭ ‬الأسود‭ ‬نبَتَ‭ ‬‮«‬فجر‭ ‬الضمير‮«‬‭ ‬وترسخ‭ ‬‮«‬أصل‭ ‬الشجرة‮»‬‭ ‬،‭ ‬النيل‭ ‬موجود‭ ‬بنسبة‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها،‭ ‬لكننا‭ ‬نحبسه‭ ‬بين‭ ‬ضفتيه‭ ‬ونقول‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬النيل‭.‬

‮ ‬أترك‭ ‬وجه‭ ‬النيل‭ ‬الوسيم‮ ‬‭ ‬وأبحث‭ ‬عنه‭ ‬فى‭ ‬عكارته‭ ‬الخصبة،‭ ‬فى‭ ‬الزراعات‭ ‬والبيوت‭ ‬والصحراء‭ ‬المتاخمة،‭ ‬أنظر‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬وجوه‭ ‬الناس‭ ‬وكلامهم‭ ‬وأسنانهم،‭ ‬أتحرك‭ ‬بصعوبة‭ ‬شديدة،‭ ‬نظراتي‮ ‬‭ ‬مرتبكة‭ ‬متعثرة،‭ ‬أنا‭ ‬الطفل‭ ‬الذى‭ ‬عاش‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‮ ‬‭ ‬خطوته‭ ‬الأولى‭.‬‮ ‬

خنزير‭ ‬النيل

أحب‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬تفاصيله‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬مجراه،‭ ‬أحبه‭ ‬فى‭ ‬أسماكه،‭ ‬وأصطفى‭ ‬القرموط،‭ ‬خنزير‭ ‬الماء‭ ‬الجليل‭.‬‮ ‬

أحبه‭ ‬بشكله‭ ‬الطولى‭ ‬والثعبانى‭ ‬الذى‭ ‬يشبه‭ ‬النيل،‭ ‬وأحبه‭ ‬فى‭ ‬لونه‭ ‬الأسود‭ ‬الذى‭ ‬يشبه‭ ‬الأرض،‭ ‬أحبه‭ ‬لأنه‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬وطنه،‭ ‬ويعيش‭ ‬طويلا‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬كل‭ ‬القراميط‭ ‬التى‭ ‬رأيتها‭ ‬فى‭ ‬مقاطف‭ ‬الصيادين‭ ‬كانت‭ ‬حية،‭ ‬كانت‭ ‬رمزا‭ ‬جيدا‭ ‬للنيل‭ ‬وهو‭ ‬يعيش‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬ضفتيه‭.‬

أصطفى‭ ‬القرموط‭ ‬لأننى‭ ‬كرهته،‭ ‬ولأنه‭ ‬يفتقد‭ ‬إلى‭ ‬الوسامة،‭ ‬وأنا‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬النيل‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬وسامته‭ ‬الساحرة‭.‬‮ ‬

أحب‭ ‬القرموط‭ ‬لأنه‭ ‬يتمتع‭ ‬بسمعة‭ ‬سيئة،‭ ‬يعتبرونه‭ ‬خنزيرا‭ ‬نجسا‭ ‬لأنه‭ ‬يأكل‭ ‬أى‭ ‬شيء،‭ ‬ويعيش‭ ‬فى‭ ‬المصارف‭ ‬القذرة،‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬شريرا‭ ‬لأنه‭ ‬يُستخدم‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬السحر‭ ‬الأسود،‭ ‬يستغلون‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬حيا‭ ‬خارج‭ ‬الماء،‭ ‬و‭ ‬يربطون‭ ‬العمل‭ ‬السحرى‭ ‬فى‭ ‬رأسه‭ ‬المفلطح،‭ ‬تم‭ ‬يتركونه‮ ‬‭ ‬فى‭ ‬النهر،‭ ‬و‭ ‬هكذا‭ ‬تختفى‭ ‬التعاويذ‭ ‬المؤذية‭ ‬فى‭ ‬الأعماق‭ ‬البعيدة،‭ ‬ويصرخ‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬الخصوبة‭ ‬التى‭ ‬اختفت‭ ‬فى‭ ‬قاع‭ ‬مجهول‭.‬‮ ‬

أنا‭ ‬القرموط‭ ‬النجس‮ ‬

كرهت‭ ‬القراميط‭ ‬تأثرا‮ ‬‭ ‬بأمي،‭ ‬لقد‭ ‬حرَّمتْ‭ ‬دخولها‮ ‬‭ ‬بيتنا،‭ ‬تقول‭: ‬القرموطُ‭ ‬مقرفٌ‭ ‬وتهرب‭ ‬من‭ ‬سيرته،‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬تُقدم‭ ‬سببا‭ ‬لتلك‭ ‬الكراهية‭ ‬غير‭ ‬لونه،‭ ‬وفمه‭ ‬الغريب،‭ ‬وشواربه‭ ‬الغبية،‭ ‬لكنها‭ ‬كلمتنى‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬سفرها‭ ‬مع‭ ‬أبى‭ ‬إلى‭ ‬أسوان‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬فى‭ ‬السد‭ ‬العالي،‭ ‬كانت‭ ‬صبية‭ ‬صغيرة‭ ‬تشعر‭ ‬بمرارة‭ ‬التواجد‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬عم‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬خال،‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬جارة‭ ‬أسوانية‭ ‬تعاملها‭ ‬كابنتها،‭ ‬وكانت‭ ‬الأم‭ ‬الجديدة‭ ‬تصرخ‮ ‬‭ ‬كلما‭ ‬جاءت‭ ‬سيرة‭ ‬القرموط‮ ‬‭ ‬النجس،‭ ‬القرموط‭ ‬الذى‭ ‬أكل‭ ‬جدهم‭ ‬الكبير‭.‬‮ ‬

كلما‭ ‬جاءت‭ ‬سيرة‭ ‬القراميط‭ ‬فى‭ ‬بيتنا،‮ ‬‭ ‬كان‭ ‬أبى‭ ‬يغنى‭ ‬لها،‭ ‬وهو‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬شبابه‭.‬‮ ‬

فى‭ ‬موسم‭ ‬الدميرة‭ ‬كانت‭ ‬المياه‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬البيوت،‭ ‬تغطى‭ ‬الأرض‭ ‬لمدة‭ ‬شهرين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬ثم‭ ‬تنحسر‮ ‬‭ ‬تاركة‭ ‬وراءها‭ ‬أطنانا‭ ‬من‭ ‬الأسماك،‭ ‬كانوا‭ ‬يجمعون‭ ‬القراميط‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬الضحلة‭ ‬كما‭ ‬يجمعون‭ ‬حبات‭ ‬الطماطم‮ ‬‭ ‬من‭ ‬عروشها‭. ‬يمتلئ‭ ‬أبى‭ ‬بنشوة‭ ‬غريبة،‭ ‬وهو‭ ‬يتذكر‭ ‬“الدميرة”‭ ‬وطواجن‭ ‬القراميط‭ ‬المعمولة‭ ‬فى‭ ‬الفرن‭ ‬البلدي‭.‬‮ ‬

بعد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬ضحكتُ‭ ‬من‭ ‬سذاجتى‭ ‬عندما‭ ‬صدَّقتُ‭ ‬أبى‭ ‬وهو‭ ‬يحكى‭ ‬عن‭ ‬التقاط‮ ‬‭ ‬القراميط‭ ‬كما‭ ‬يلتقط‭ ‬الثمار‭ ‬من‭ ‬شجرة،‭ ‬الشجرة‭ ‬راسخة‭ ‬فى‭ ‬الأرض،‭ ‬أما‭ ‬الطين‭ ‬فى‭ ‬الماء‭ ‬الضحل‭ ‬فيجذب‭ ‬القدمين،‭ ‬الثمار‭ ‬تجلس‭ ‬مستكينة‭ ‬ضعيفة،‭ ‬والقراميط‭ ‬قوية‭ ‬وملساء‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬بتلك‭ ‬السهولة‭.‬‮ ‬

سألت‭ ‬أبى‭ ‬فجأة،‭ ‬كيف‭ ‬كنت‭ ‬تمسك‭ ‬القرموط‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتزحلق‭ ‬ويفلت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديك؟‮ ‬

ـ‭ ‬من‭ ‬رأسه،‭ ‬لاحد‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬القرموط‮ ‬‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬قَبَضَ‭ ‬على‭ ‬رأسه‭.‬‮ ‬

هل‭ ‬صُنِعَ‮ ‬‭ ‬رأسه‭ ‬المفلطح‭ ‬خصيصا‭ ‬كى‭ ‬يسهل‭ ‬استقراره‭ ‬فى‭ ‬الأيدي؟‮ ‬

صورة‭ ‬القرموط‭ ‬تتداخل‮ ‬‭ ‬مع‭ ‬صورتي،‭ ‬أنا‭ ‬أيضا‭ ‬يا‭ ‬أبي،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمسكنى‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬رأسي،‮ ‬‭ ‬لكنني‮ ‬‭ ‬لا‭ ‬أنام‭ ‬فى‭ ‬طاجن،‭ ‬ولا‭ ‬يلعب‭ ‬بى‭ ‬صياد،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمسكنى‭ ‬من‭ ‬خارجي،‭ ‬أتركُ‭ ‬فتحة‭ ‬فى‭ ‬رأسي،‭ ‬ليدخل‮ ‬‭ ‬أصحاب‭ ‬السلوك‭ ‬الإنسانى‭ ‬الجميل،‭ ‬ثم‭ ‬أغلقها‭ ‬وأفلت‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬كما‭ ‬يفلت‭ ‬قرموط‭ ‬قبضوا‭ ‬على‭ ‬ذيله‭.‬

القرموط‭ ‬الغضبان،‭ ‬والربة‭ ‬الضائعة‮ ‬

تظهر‭ ‬سمكة‭ ‬القرموط‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الدولة‭ ‬المصرية،‭ ‬نجدها‭ ‬فى‭ ‬لوحة‭ ‬نعرمر‭ ‬الشهيرة،‭ ‬فى‭ ‬اسم‭ ‬موحد‭ ‬القطرين‭ ‬نفسه‭ ‬والذى‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬القرموط‭ ‬وصورة‭ ‬الإزميل‭ ‬أو‭ ‬المطرقة‭.‬‮ ‬

لقد‭ ‬احتار‭ ‬العلماء‭ ‬فى‭ ‬تفسير‭ ‬معنى‭ ‬العلامتين،‭ ‬قالوا‭ ‬تعنى‭ ‬‮«‬القرموط‭ ‬الغاضب‮»‬‭ ‬وقالو‭ ‬‮«‬محبوب‮»‬‭ ‬‮«‬نعرت‮»‬‭ ‬ربة‭ ‬النيل‭ ‬قبل‭ ‬حابي،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬قال‮ ‬‭ ‬‮«‬هو‭ ‬قاتل‭ ‬سمكة‭ ‬القرموط‮»‬‭ ‬النجسة‭ ‬التى‭ ‬أكلت‭ ‬عضو‭ ‬أوزير،‮ ‬‭ ‬رغم‭ ‬أن‮ ‬‭ ‬سمكة‭ ‬‮«‬القنوم‮»‬‭ ‬هى‭ ‬المتهمة‭ ‬المشهورة‭ ‬بالتهام‭ ‬عضو‭ ‬أوزير‭.‬‮ ‬

فى‭ ‬الأمر‭ ‬سرٌّ،‭ ‬عضو‭ ‬أوزير‭ ‬رمز‭ ‬لخصوبة‭ ‬المزارعين،‮ ‬‭ ‬والقرموط‭ ‬ـ‭ ‬أو‭ ‬أية‭ ‬سمكة‭ ‬أخرى‭ ‬ـ‭ ‬رمزٌ‭ ‬لخصوبة‭ ‬الصيادين،‭ ‬الأسطورة‭ ‬تحمل‭ ‬ذكرى‭ ‬صراع‭ ‬عنيف‭ ‬بين‭ ‬جماعات‭ ‬قديمة‭.‬‮ ‬

لا‭ ‬أعرف‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نعرت‮»‬‭ ‬ربة‭ ‬النيل‭ ‬القديمة،‭ ‬ولعلها‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬فى‭ ‬أساطير‭ ‬القدماء،‭ ‬لكننى‭ ‬مطمئن‭ ‬إلى‭ ‬وجودها،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬لأوجدتها،‭ ‬من‭ ‬حقى‭ ‬صنع‭ ‬أسطورة‭ ‬منزوعة‭ ‬القداسة‭ ‬كى‭ ‬أعبَّر‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬لا‭ ‬شواهد‭ ‬له‭.‬

ربة‭ ‬النيل‭ ‬‮«‬نعرت‮»‬‭ ‬رمز‭ ‬لزمن‭ ‬أمومى‭ ‬تواجد‭ ‬قبل‭ ‬الزمن‭ ‬الأبوى‭ ‬الذى‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬منذ‭ ‬اكتشاف‭ ‬الزراعة،‭ ‬ذلك‭ ‬الاكتشاف‭ ‬الذى‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تحرير‭ ‬عضلات‭ ‬الرجال،‭ ‬كى‭ ‬تسوى‭ ‬الأرض‭ ‬الوعرة،‭ ‬وتبنى‭ ‬الجسور،‭ ‬وتحفر‭ ‬القنوات،‭ ‬وتقاتل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‮ ‬‭ ‬أرض‭ ‬القبيلة‭ ‬وتوسيع‭ ‬نطاقها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تكوين‭ ‬الممالك،‭ ‬وتوحيدها‭ ‬بالقوة‭ ‬فى‭ ‬دولة‭ ‬واحدة‭.‬‮ ‬

فى‭ ‬ظل‭ ‬سلطة‭ ‬الرجال‭ ‬تغيرت‭ ‬صورة‭ ‬العالم،‭ ‬وكان‭ ‬على‮ ‬‭ ‬ربة‭ ‬النيل‭ ‬أن‭ ‬تختفي،‭ ‬ليحل‭ ‬محلها‭ ‬رجل‭ ‬هو‭ ‬حابي،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬كانت‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬طيبة،‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬من‭ ‬الشر،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬قوية‭ ‬فى‭ ‬عرفانها،‭ ‬لم‭ ‬تجعل‭ ‬حابى‭ ‬ذكرا‭ ‬خالصا،‭ ‬بل‭ ‬خَلطتْ‭ ‬ملامحه‭ ‬بملامح‭ ‬أنثوية‭ ‬واضحة،‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬استطاعة‭ ‬المصريين‭ ‬القدماء‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬بلاد‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا،‭ ‬لكنهم‭ ‬روضوا‭ ‬عنفهم‭ ‬ووقفوا‭ ‬كثيرا‭ ‬عند‭ ‬حدودهم‭ ‬،‭ ‬لأن‭ ‬ترويض‭ ‬العنف‭ ‬أهم‭ ‬طبع‭ ‬فيهم،‭ ‬لقد‭ ‬عاشوا‭ ‬فى‭ ‬حلم‭ ‬لم‭ ‬ينقطع‭ ‬طوال‭ ‬آلاف‭ ‬السنوات،‭ ‬حلم‭ ‬ترويض‭ ‬الفيضان‭.‬‮ ‬

لماذا‭ ‬ارتبطت‭ ‬ربة‭ ‬النيل‭ ‬‮«‬نعرت‮»‬‭ ‬بصورة‭ ‬القرموط؟‭ ‬ولماذا‭ ‬كانت‭ ‬الأسماك‭ ‬عموما‭ ‬موضع‭ ‬تحريم‭ ‬محرمة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للكهنة،‭ ‬بخلاف‭ ‬بقية‭ ‬الشعب‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬السمك‭ ‬طعامهم‭ ‬الأساسى‭ ‬بعد‭ ‬الرغيف‭.‬‮ ‬

الكهنة‭ ‬صناع‭ ‬السلطة،‭ ‬وفى‭ ‬السمك‭ ‬شيء‭ ‬ضد‭ ‬السلطة،‭ ‬إنه‭ ‬رمز‭ ‬المصريين‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬على‭ ‬الصيد‭ ‬النهرى‭ ‬وجمع‭ ‬الغذاء،‭ ‬المصريين‭ ‬الذين‭ ‬هُزموا‭ ‬وعليهم‭ ‬البقاء‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬المزارعين‭ ‬متجردين‭ ‬من‭ ‬رموزهم‭ ‬التى‭ ‬تخيف‭ ‬الكهنة‭.‬

القرموط‭ ‬رغيف‭ ‬المصريين‭ ‬الأوائل

مصر‭ ‬التى‭ ‬نعرفها‭ ‬ظهرت‭ ‬مع‭ ‬اكتشاف‭ ‬الزراعة،‭ ‬وقبلها‭ ‬كانت‭ ‬توجد‭ ‬مصر‭ ‬أخرى‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬الغذاء‭ ‬والصيد،‭ ‬مصر‭ ‬الكتوم‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬عنها‭ ‬شيئا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬نعرف‭ ‬عن‭ ‬الماء‭ ‬فى‭ ‬الأسنان‭.‬‮ ‬

لم‭ ‬تترك‭ ‬لنا‭ ‬كتابا،‭ ‬أو‭ ‬بردية،‭ ‬أو‭ ‬نقشا،‭ ‬أو‭ ‬خربشة‭ ‬فى‭ ‬صخرة،‭ ‬تركت‭ ‬عظاما‭ ‬وأدوات‭ ‬بدائية‭ ‬من‭ ‬الحجر،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬العظام،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬فى‭ ‬صمتها‭ ‬ملاحمَ‭ ‬وتواريخ‭ ‬وأحداثا‭ ‬دارت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬لكنها‭ ‬فشلت‭ ‬فى‭ ‬ترْك‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭.‬

عاش‭ ‬أسلافنا‭ ‬الأوائل‮ ‬‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬النيل،‭ ‬كانوا‭ ‬جماعات‭ ‬متفرقة‭ ‬فى‭ ‬مناطق‭ ‬عشبية،‭ ‬تنتشر‭ ‬فى‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق،‭ ‬ثم‭ ‬ظهر‭ ‬الجفاف،‭ ‬واختفت‭ ‬الغابات،‭ ‬وتحول‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬إلى‭ ‬صحراء‭.‬

رحل‭ ‬الأوائل‭ ‬إلى‭ ‬وادى‭ ‬النيل‭ ‬ودلتاه،‭ ‬لكنهم‭ ‬تجنبوا‭ ‬الفيضان‭ ‬واختاروا‭ ‬البقاء‭ ‬فى‭ ‬الأماكن‭ ‬والكهوف‭ ‬المرتفعة‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬متناوله،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬بقى‭ ‬أثر‭ ‬بَلَغْته‭ ‬المياه،‭ ‬إنه‭ ‬“كهف‭ ‬القراميط”‭ ‬فى‭ ‬جبال‭ ‬النوبة،‭ ‬الكهف‭ ‬المرتفع‭ ‬الذى‭ ‬عثروا‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬رواسب‭ ‬نيلية،‭ ‬و‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬ذلك‭ ‬الاسم‭ ‬لكثرة‭ ‬بقايا‭ ‬الأسماك‭ ‬فيه‭ ‬خاصة‭ ‬القرموط‭. ‬وقد‭ ‬تبين‭ ‬من‭ ‬دراسته‮ ‬‭ ‬وجود‭ ‬ارتفاع‭ ‬كبير‭ ‬للفيضان‭ ‬سنة‭ ‬5200‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وصل‭ ‬فيه‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬منسوب‭ ‬يعلو‭ ‬منسوبه‭ ‬الحالى‭ ‬بستة‭ ‬عشر‭ ‬مترا‭.‬‮ ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬كهف‭ ‬القراميط‭ ‬هو‭ ‬الأثر‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬الكبرى،‭ ‬ففى‭ ‬سنة‭ ‬1985‭ ‬قام‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬بالتنقيب‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬‮«‬الشويخات‮»‬‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬قنا،‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬تماس‭ ‬بين‭ ‬الطمى‭ ‬الخشن‭ ‬الغامق‭ ‬و‭ ‬أهم‭ ‬وديان‭ ‬الصحراء‭ ‬الشرقية،‭ ‬وقد‭ ‬أسفر‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العظام،‭ ‬وفى‭ ‬وسط‭ ‬العظام‭ ‬أمكن‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأبقار‭ ‬المندثرة،‭ ‬والغزلان،‭ ‬وسمك‭ ‬القرموط،‭ ‬وأمكن‭ ‬تحديد‭ ‬الموقع‭ ‬بتاريخ‭ ‬24700‭ ‬قبل‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر‭.‬

قرية‭ ‬‮«‬المخادمة‮»‬‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬قنا،‮ ‬‭ ‬كانت‭ ‬محل‭ ‬بحث‭ ‬واسع،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬مواقع‭ ‬تحتوى‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬الحجرية‭ ‬والعظام،‭ ‬وتم‭ ‬تقدير‭ ‬زمن‭ ‬شغل‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬بواسطة‭ ‬الإنسان‭ ‬بفترة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬12450‭ ‬و‭ ‬12050‭ ‬سنة‭ ‬قبل‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر،‭ ‬وتتكون‭ ‬الطبقات‭ ‬الأركيولوجية‭ ‬للمنطقة‮ ‬‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬ناعمة‭ ‬مترسبة‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭ ‬الأسمر‭ ‬الناتج‮ ‬‭ ‬عن‭ ‬الرماد‭ ‬والفحم‭ ‬وإرسابات‭ ‬الطمى‭ ‬الأسود،‭ ‬وقد‭ ‬توصل‭ ‬البحث‭ ‬إلى‭ ‬تفوق‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬يلعبه‭ ‬الصيد‭ ‬النهرى‭ ‬على‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأنشطة،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الأسماك‭ ‬التى‭ ‬أمكن‭ ‬التعرف‭ ‬عليها،‭ ‬يحتل‭ ‬القرموط‭ ‬نصيب‭ ‬الأسد،‭ ‬والثدييات‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭: ‬الأرانب‭ ‬البرية‭ ‬وأفراس‭ ‬النهر،‭ ‬وأنواع‭ ‬من‭ ‬الأبقار‭ ‬الضخمة‭ ‬المندثرة،‭ ‬والظباء،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬صدفة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬علاقات‭ ‬مجهولة‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭.‬‮ ‬

بفحص‭ ‬عظام‭ ‬الأسماك‮ ‬‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬القرموط‮ ‬‭ ‬كانت‭ ‬99‭% ‬،‭ ‬و‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬المواقع‭ ‬تقدم‭ ‬البلطى‭ ‬ووصلت‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬68‭%‬،‭ ‬لكنهم‭ ‬فسروا‭ ‬هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬بالفارق‭ ‬بين‭ ‬الصيد‭ ‬فى‭ ‬الأيام‭ ‬العادية‭ ‬حيث‭ ‬ترتفع‭ ‬نسبة‭ ‬القرموط،‭ ‬والصيد‭ ‬فى‭ ‬موسم‭ ‬الفيضان،‭ ‬لأن‭ ‬البلطى‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬التى‭ ‬تفضل‭ ‬المياه‭ ‬العميقة‭ ‬التى‭ ‬يتوفر‭ ‬فيها‭ ‬الأكسجين،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬يعيش‭ ‬القرموط‭ ‬فى‭ ‬الترع‭ ‬والقنوات‭ ‬الضحلة‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬صيد‭ ‬القرموط‭ ‬هو‭ ‬الأسهل‭ ‬قياسا‭ ‬بالكائنات‭ ‬الأخرى،‭ ‬كانوا‭ ‬الأوائل‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الفيضان،‭ ‬وكانت‭ ‬أسماك‭ ‬القرموط‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬النيل،‭ ‬وكانت‭ ‬متوفرة‭ ‬طوال‭ ‬العام‭ ‬ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬أساسية‭ ‬فى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬بقائهم،‭ ‬لقد‭ ‬لعبت‭ ‬سمكة‭ ‬القرموط‮ ‬‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬مصر‭ ‬الصيادين‭ ‬نفس‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬لعبه‭ ‬الرغيف‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬مصر‭ ‬المزارعين‭.‬‮ ‬

أساطير‭ ‬النيل‭ ‬الخرساء‮ ‬

لو‭ ‬قمنا‭ ‬بتلخيص‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬لكانت‭ ‬حبة‭ ‬القمح،‭ ‬رمز‭ ‬الثورة‭ ‬الزراعية،‭ ‬ولو‭ ‬قمنا‭ ‬بتلخيص‭ ‬مصر‭ ‬الأولى‮ ‬‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬لكانت‭ ‬سمكة‭ ‬القرموط‭.‬‮ ‬

على‭ ‬مدار‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬كان‭ ‬المصريون‭ ‬الأوائل‭ ‬ينظرون‭ ‬بامتنان‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬النيلى‭ ‬الذى‭ ‬يترك‭ ‬المياه‭ ‬العميقة،‭ ‬ويذهب‭ ‬إلى‭ ‬أراضى‭ ‬طرح‭ ‬النهر‭ ‬و‭ ‬البرك‭ ‬والمستنقعات‭ ‬الضحلة،‭ ‬كى‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬متناول‭ ‬أيديهم‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬وقتها‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬الشباك‭ ‬والصنانير‭.‬‮ ‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أنهم‭ ‬تكلموا‭ ‬عنه‭ ‬كثيرا،‭ ‬أقسموا‭ ‬بحياته‭ ‬كما‭ ‬نقسم‭ ‬نحن‭ ‬بالرغفان،‮ ‬‭ ‬ونسجوا‭ ‬حوله‭ ‬قصصا‭ ‬وقصائد‭ ‬وأساطير،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬حرفا‭ ‬يدل‭ ‬عليهم،‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬شيئا‭ ‬غير‭ ‬عظامهم‭ ‬وعظام‭ ‬قراميطهم‭.‬

أحلم‭ ‬بجيل‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬والشعراء‭ ‬يمتلك‭ ‬الجسارة‭ ‬ويسافر‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬الأولى‭ ‬والكتابة‭ ‬عن‭ ‬مغامرات‭ ‬المصريين‭ ‬الأوائل‭ ‬وهم‭ ‬يواجهون‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬قاسية،‭ ‬يتوجب‭ ‬عليهم‭ ‬فيها‭ ‬النضال‭ ‬اليومى‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬الطعام،‭ ‬أحلم‭ ‬بمخيلة‭ ‬جبارة‭ ‬تسرى‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬العظام‭ ‬وتعيدها‭ ‬إلى‭ ‬سيرتها‭ ‬الأولى‭.‬‮  ‬

أحلم‭ ‬بتدوين‭ ‬الأساطير‭ ‬التى‭ ‬أبدعها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأسلاف،‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنها‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا،‭ ‬لأن‭ ‬الجماعات‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬دولة‭ ‬أو‭ ‬مملكة‭ ‬يتحكم‭ ‬فيها‭ ‬كاهن‭ ‬يوجه‭ ‬الأساطير‭ ‬ويسحبها‭ ‬إلى‭ ‬حظائره،‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬كاهنا‭ ‬لفرط‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬البدائية‭ ‬من‭ ‬صمت‭ ‬وطفولة،‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬كلل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬كان‮ ‬‭ ‬مبدعا‭ ‬لأسطورة،‭ ‬وأن‭ ‬غالبية‭ ‬أساطيرهم‮ ‬‭ ‬دارت‭ ‬حول‭ ‬القرموط،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬دارات‭ ‬الأساطير‭ ‬الأوزيرية‭ ‬حول‭ ‬حبة‭ ‬القمح‭.‬‮ ‬

طقس‭ ‬القرموط‮ ‬

فكرت‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬إبداع‭ ‬طقوس‭ ‬محورها‭ ‬القرموط،‭ ‬تذكرت‭ ‬التمساح‭ ‬القديم‭ ‬عندما‭ ‬كانوا‭ ‬يخصصون‭ ‬له‭ ‬حظيرة،‭ ‬ويطعمونه‭ ‬باللحم،‭ ‬ويقومون‭ ‬بتزيين‭ ‬أذنيه‭ ‬بأقراط‭ ‬من‭ ‬الزجاج‭ ‬أو‭ ‬الذهب،‭ ‬وتزيين‭ ‬قائمتيه‭ ‬الأماميتين‭ ‬بالخلاخيل،‭ ‬ويدفنونه‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬فى‭ ‬مدافن‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬تحنيطه‭.‬

التمساح‭ ‬أيضا،‭ ‬كان‭ ‬مقدسا‭ ‬محبوبا‭ ‬وصار‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬الاحتلال‭ ‬اليونانى‭ ‬نجسا‭ ‬مكروها‭.‬‮ ‬

‮ ‬من‭ ‬حق‭ ‬القرموط‭ ‬علينا‭ ‬تخليده‭ ‬فى‭ ‬طقس‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬العرفان،‭ ‬فكرتُ‭ ‬فى‭ ‬قرموط‭ ‬بخلاخيل‭ ‬وأقراط‭ ‬من‭ ‬زجاج‮ ‬‭ ‬وجنازة‭ ‬عند‭ ‬موته،‭ ‬ليذكرنى‭ ‬بأسلاف‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬كنوزا‭ ‬تجعلنا‭ ‬نمجدهم‭.‬

‮ ‬فكرة‭ ‬إبداع‭ ‬طقوس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬القرموط‭ ‬بدت‭ ‬لى‭ ‬سخيفة‭ ‬وتجاهلتها،‭ ‬لكن‭ ‬الطقوس‭ ‬تنبت‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسها‭ ‬أحيانا‭.‬

كلما‭ ‬رأيت‭ ‬قرموطا‭ ‬فى‭ ‬قفة‭ ‬صياد‭ ‬يدور‭ ‬بين‭ ‬بيوتنا‭ ‬مناديا‭ ‬على‭ ‬أسماكه،‭ ‬أقف‭ ‬صامتا‭ ‬وأنظر‭ ‬إليه‭ ‬نظرة‭ ‬عميقة‭ ‬وحنونة‭.‬‮ ‬

أشعر‭ ‬بحرارة‭ ‬تسرى‭ ‬فى‭ ‬القرموط،‭ ‬وتحرِّك‭ ‬شواربه،‭ ‬أنتظره‭ ‬كى‭ ‬يقفز‭ ‬مثل‭ ‬قطة‭ ‬ويستقر‭ ‬فى‭ ‬حضني‭.‬‮ ‬

الصمت‭ ‬أسطورة‭ ‬كبرى،‭ ‬قرأتُ‭ ‬أساطير‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬وكانت‭ ‬مشاعرى‭ ‬عادية‭ ‬تجاه‭ ‬أربابهم،‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬بجلاله‭ ‬وهيبته‮ ‬‭ ‬أوزير‭ ‬إلا‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬هيرودوت،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يصمت‭ ‬كلما‭ ‬جاءت‭ ‬سيرته‭ ‬خوفا‭ ‬وإجلالا‭.‬

فقدنا‭ ‬بصمْتِ‭ ‬هيرودت‭ ‬معلومات‭ ‬ثمينة‭ ‬لكننا‭ ‬ربحنا‭ ‬شعورا‭ ‬عظيما‭ ‬وساحرا،‭ ‬ينتقل‭ ‬إلينا‭ ‬بالعدوى‭ ‬لا‭ ‬بالتلقين‭.‬‮ ‬

النظرة‭ ‬الودودة‭ ‬الصامتة،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬طقسي‭.‬

‮ ‬يتفقد‭ ‬الصياد‮ ‬‭ ‬أسماكه‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬شيئ‭ ‬يستفزنى‭ ‬ولا‭ ‬يعرفه،‭ ‬والممسكون‭ ‬بقُفته‭ ‬يقطعون‭ ‬عملية‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬وينظرون‭ ‬إلىَّ‭ ‬باستغراب‭ ‬شديد‭.‬

‭_____________________________________‬

‮ ‬تلك‭ ‬الشهادة‭ ‬تدين‭ ‬بالفضل‭ ‬فى‭ ‬معلوماتها‭ ‬عن‭ ‬حفريات‭ ‬الشويخات‭ ‬والمخادمة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬بياتريكس‭ ‬ميدان‭ ‬رينيس‮»‬‭ ‬فى‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬عصور‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭ ‬فى‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬ترجمة‭ ‬ماهر‭ ‬جويجانى‭.‬

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا