الهادى على راضى
النيل ماء وأسماك وذكريات ووجوه وحياة، النيل صديق الجميع، يطل عليك إن تذكرته، أو طلبت رؤيته، يمنحك نفسه بالكامل من أول لحظة، فلا أبواب لديه لتطرقها، ولا حراس لتعبرهم أو تستأذنهم. يجرى كما هو فى نفس الاتجاه، بنفس مبادئه وإشراقته وعطائه، وترحيبه بالجميع، يفيض بالحكايات ويمنح كلاً منهم ومنا قصته الخاصة.
عبر محطات وذكريات على ضفاف النيل، أحاول أن أربط بين الماضى البعيد المتمثل فى الحضارة السودانية، التى ارتبطت بشكل وثيق بالنيل، وبالممارسات الطقسية المرتبطة به حتى الآن؛ منطلقًا من تجارب ومواقف شخصية.
لكن، قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أننا نسمى النيل بــ (البحر). لا أدرى على وجه الدقة لماذا سمى كذلك؟ وما جذر تلك التسمية؟ لكنها ظلت شائعة حتى اللحظة لدى معظم سكان الشريط النيلي، ويؤازرهم سكان غرب السودان، الذين يطلقون على قاطنى ضفاف النيل (أولاد البحر)، أو(البحّارة).
قُدِّر لى أن تكون نشأتى فى غرب السودان، ثم أنتقل لاحقًا للعيش فى مدينة تقع عند الضفة الشرقية للنيل الأبيض.
هنالك -غرب السودان- كنت (بحّارِيًا)، يستقل القطار متجهًا إلى الشرق، كل عام أثناء العطلات المدرسية، لزيارة أقاربه الذين يقطنون على ضفاف النيل (البحر)؛ وما بين تلك الزيارات المبكرة والسكن على ضفة النيل الأبيض الشرقية، ثمة محطات وذكريات ظلت محفورة فى الذاكرة والوجدان حتى اللحظة.. وربما إلى الأبد.
محطة أولى
لأول مرة فى حياتى أرى النيل. حينها، كنت على أعتاب العقد الثانى من عمري. كانت زيارة برفقة جدتي، إلى قرية (طيبة) على ضفاف النيل الأبيض، بالقرب من مدينة كوستي.. وللمفارقة، أتينا إلى تلك القرية لتقديم واجب العزاء فى وفاة بن عمى الذى (خطفه) التمساح، ذلك العام. ذاك الحدث كان مبررًا كافيًا لجدتى كى تُشيِّد لى سجنًا جدُرُه العاطفة والهواجس، وأن تمنعنى من الذهاب إلى الشاطئ، وتحرمنى من رفقة أترابى الذين كانوا يذهبون للاستحمام فى النيل أو من أجل جلب المياه لأسرهم. لم تسمح لى جدتى بالذهاب إلى الشاطئ كى أرى (البحر) واستمتع بتجربة رؤية الأشياء لأول مرة. فالنيل لم أره إلا أثناء عبور المعدية على سطحه، ونحن على متنها من مدينة كوستى إلى قرية طيبة، أثناء رحلتَى القدوم والعودة.
لكن.. فى هاتين الرحلتين، ثمة متعة وانبهار عظيمين وأنا أرى ذلك المجرى العريض المملوء بالمياه لأول مرة. وثمة تساؤلات بريئة طرأت حينها: من أين أتت تلك المياه؟ وإلى أين تتجه؟ وثمة رعب خفى من أن يبتلع المجرى العريض تلك الآلة الضخمة التى تسير على سطحه ونحن على متنها. كنت أتمعن فى النيل حينا، وأعود بنظرى إلى سطح المعدية أحايين أخرى؛ فأرى شياهاً، أغناماً وأبقاراً. كلاباً ومتاعاً. رجالاً ونساء. صبايا وصبياناً فى مثل عمري. صوت المحرك ينبهنى إلى من يقود تلك الآلة، فينتقل بصرى إلى رجل فى مكانٍ عالٍ بمقدمة المعدية يولينى ظهره. يداه مثبتتان على مقود دائرى يحركه برتابة.. يمنة ويسرة.
تلك المشاهد كانت سببا كى أحظى بتشجيع وتحفيز معلم اللغة العربية حين طلب منا كتابة موضوع إنشائى عن (رحلة). كما كانت مادة مبهرة ومدهشة، فى ليالى الأنس مع الأتراب الذين لم يسلموا من خيالى حين ذكرت لهم أن الأسماك كانت تقفز من النيل إلى سطح المعدية لتكون وجبة شهية للكلاب.
لكن.. بالرغم من ذلك لم أكن سعيدًا، فسجن جدتى أفسد بقية المتعة، لذلك قررتُ أن آتى مرة أخرى برفقة أمي، فهى أقل صرامة ويمكن التحايل عليها.
محطة ثانية
«ممارسة التدخين بالقرب من شط النيل، تساعد على حل المسائل الرياضية الصعبة». هكذا نصحنى صديقى عندما شكوتُ له من عدم مقدرتى على حل بعض المسائل الرياضية. عملتُ بنصيحته، ولكن ما حدث أننى صرت مدخنا شرها وظلت المسائل كما هي، بل يصدف ألا أفتح مقرر الرياضيات لطلاب الشهادة السودانية، طيلة أيام، بل كنت أتابع سحب دخان سجائري، وأتفرج على صانعى المراكب الذين يستفيدون من أشجار الغابة الكثيفة بالقرب من الشاطئ؛ أو أدخل الغابة لأتفرج على بيت (عنتر) المخبول، ذاك الشخص الذى اختار مساحة من الغابة واتخذها سكنا له، سريره أرجوحة ربط طرفيها على أغصان شجرتين متباعدتين قليلا عن بعضهما، يقطع الأخشاب لصانعى المراكب.
محطة ثالثة
منذ الحضارة الكوشية، ثمة اعتقاد حول فيضان النيل أو انحساره، وذلك تأكيدًا على «أن الأصل النيلى يربطنا بحضارات النيل القديمة التى نشاهدها حتى اليوم، ففى الثقافات الشعبية التى ارتبطت بالبحر والتضحية للبحر فما زلنا نقول إن النيل لا يفيض إلا إذا غرق أحدهم، ولا يرجع إلى حفرته إلا فى حالة غرق أحدهم (يشيل معاه زول). وفى عام أغبر، تسعينيات القرن الماضي، (شال) النيل أخى الأكبر وخلّف حزنًا عميقًا لدى الأسرة، لكن بالرغم من مأساوية الحدث، إلا أن بعضهم كان يقول (هو خير وليس شراً)، مما يدلل على ما سبق ذكره من اعتقادات وممارسات طقسية ضاربة فى القِدم، ولا أذكر هل فاض النيل عامئذٍ أم انحسر.
محطة رابعة
أذكر جيدًا تلك اللحظة التى ذهبت فيها مع زوجتى -بعد انقضاء شهر العسل- إلى شاطئ النيل، بمعية أفراد الأسرتين، خاصة من النساء كبيرات السن، اللائى اقترحن هذا الأمر وأصررن على تنفيذه.
عند الشط.. تسلق أحد الصبية شجرة نخيل، وقطع فرعًا من جريدها. طلبتْ منى إحدى النساء كبيرات السن أن آخذ الجريد وأغمسه فى الماء ثم أرش العروس بماء النيل، ومن ثم بقية الحضور. فعلت ذلك سبع مرات متتالية حسب التوجيهات، ثم عدنا إلى المنزل.
يقول بروفسير عبد الله الطيب تأكيدًا على الأصل الكوشى للسودانيين «إن الأصل النيلى يربطنا بحضارات النيل القديمة التى نشاهدها حتى اليوم». ويبرهن على ذلك بقوله: «جريد النخل الذى يظهر فى النقوش والجداريات وارتباطه بالزواج، زيارة العروسين إلى النيل فى اليوم السابع والرابع عشر».
محطة أخيرة
سيظل النيل (البحر) خالدًا إلى الأبد، واهبًا الحياة، ومانحًا للحظات حميمة للأفراد والمجموعات الذين يقطنون على شاطئيه؛ والبعيدين عنها.
كاتب قصصى وروائى