حوار: أحمد وائل
كان صدور كتاب تامر فتحى (٠٨٩١) الأول «بالأمس فقدت زرًا.. قصة الملابس» (شرقيات، ٥٠٠٢) مفاجأة بالنسبة لى، بدا إعادة توظيف للشِعر فى شكل مختلف وجديد، الأمر ليس مجرد صوت جديد يُعلن عن نفسه، بل مزجًا وتوليفاً للشعر فى إهاب جديد، شكل يقبَل الحكاية، ويقدمها بحيوية، و يتفاعل مع الخيال ويصنع لعبة يمكن أن يلعب معها القارئ.
عمل فتحى، وقتها، فى محل ملابس فى الإسكندرية، ومن هناك بدأت لعبته الشعرية، ديوان عن الملابس، لا يخلو من ألعاب وبناء، كأننا نقرأ نصًا تفاعليًا، وهذا النص جاء شعرًا جميلًا، دون إغفال الدراما وصناعة عالم خيالى عبر التماهى مع الملابس التى كان يعمل فى بيعها. سرد فتحى المراحل التى تمرّ بها تلك الملابس، بل صارت أجسادًا لها مشاعر، تحزن وتفرح.
حين قابلت الشاعر وقتها لنتحدث عن الديوان، عرفت منه أن فيلمًا أُعد من وحى الديوان، اعتذرت عن جهلى بذلك، فرد أنه فيلم لصديقه محمود فرج، وهو فيلم مستقل أخرجه فرج على نفقته، ويضم فريقه أصدقاءه، ويستوحى أجواء الديوان، ويقرأ فتحى فى بعض مشاهده شعرًا من الديوان. وقتها كان فتحى يبحث عن مشروع شعرى جديد، والذى بدا أنه فتح مساره بقصيدة «حياة جندى فى لعبة فيديو جيم»، لكن ذلك المشروع لم يصدر بعد.
فيما بعد سيكتب فتحى أفلامًا وثائقية وأغانى ومقالات، ويترجم أعمالًا منها «شفرة الموهبة» الذى شُغل مؤلفه دانيال كويل بالبحث عن مصدر الموهبة، هل هى مُعطاة، موجودة فى الموهوب منذ ميلاده، أم مكتسبة.
ووسط الترجمات، نشر فى «أخبار الأدب» نصًا شعريًا طويلًا عن القاهرة، عالم آخر صاغه شعريًا، ما بدا وكأننا أمام ديوان جديد، لكنه لم يفعل.. هكذا تستمر ألعاب تامر فتحى، يجرب ثيمة ما، حين ينشرها فى قصيدة، ثم يتركها، كأنها لا تصلح لصناعة ديوان. يبدو الشِعر عنده، تجربة أو لعبة، بل يقول موضحًا أن الديوان لا بُد أن يكون عالمًا يبتلع مَن يقرأه.
لكن ذلك التردد ما بين ثيمة وأخرى، حُسم على ما يبدو خلال عزلة الكورونا، مع صدور ديوانه «سقوط: سيرة رائحة» (المرايا) والذى يأتى كديوان ثيمة، وعماده الخيال مثل أوله، والتجارب التى نُشر بعضها، لكن الثيمة فى الديوان الأحدث ليست عن الموت الروتينى فى ألعاب الفيديو، ولا هى عن المدينة، بل عن الرائحة كما يكشف العنوان.. هكذا يتماهى فتحى ويلعب هذه المرة مع ثيمة تمثل تحديًا، فنحن نتخيّل لعب الشاعر بما لا يُلمس، بل ما يُشم.
وبمناسبة الديوان الجديد، وعن الشعر وألعابه مع الثيمات، كان الحوار مع فتحى.
فى ديوانك الأول كنا مع الملابس والآن نحن مع الرائحة .. هل ترى أن الديوان ليس مجرد وحدة تضم قصائد، بل ثيمة أو موضوع واحد؟
الديوان بالنسبة لى هو عالم، مثله مثل عالم السير والملاحم والروايات التى ما إن نبدأ فيها حتى تبتلعنا. هذا العالم البالع لقرائه هو ما أطمح فى خلقه داخل الديوان. وحتى يتسنى لى ذلك يجب أن أُبلع أنا أولًا، أن أستغرق فيه حتى شفير المتاهة التى لا يمكن للواحد فيها أن يميز بين عالمه الفعلى وعالم الديوان.
عند بداية اكتشافى للشعر، كنت أحزن عندما تنتهى قصيدة جميلة، كنت أود لو أن هذا السحر لا يتوقف، لذا كانت قصائدى الأولى طويلة نسبيًا. أذكر أنى كتبت فى الخامسة عشر من عمرى قصيدة فى ثلاثين صفحة. مع الوقت بدأت أعى الحس المشترك الجامع بين قصائد الديوان الذى أقرؤه. مع أمل دنقل بدأت أفهم كيف يمكن هندسة عالم الديوان. ثم بعد ندوة لإبراهيم عبد المجيد حضرتها فى الجزويت فى الإسكندرية وسمعته وهو يحكى كيف كتب روايته «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، وكيف أنه فى أثناء كتابتها كان يسافر إلى الإسكندرية فى الصباح الباكر ليمشى فى الشوارع ويدخل مداخل العمارات ليشم رائحتها وكيف مشى فى صحراء العلمين نفس المسافة التى مشاها الجنود فى الحرب العالمية الثانية، وقال إنه لم يكن يعرف ساعتها كيف سيخرج هذا فى الكتابة، لكنه خرج فى النهاية. عندها رغبت أن أفعل مثله وأكتب ديوانًا عالمًا يُقرأ من الجلدة للجلدة. وبالمناسبة هذا ليس شيئًا مبتدعًا. فهميروس فى الإلياذة والأوديسة صنع عالمًا، والسير الشعرية: الهلالية، وليلى والمجنون، والشاهنامة كلها عوالم، وكذلك إليوت فى الأرض الخراب، وبودلير فى سأم باريس. كنت وقتها قد انتهيت بالفعل من كتابة ديوان تجمع قصائده فكرة الجرى والفرار، غير أنى عدلت عن فكرة نشره. كان ذلك فى أثناء عملى فى محل الملابس، حينها جاءتنى فكرة كتابة ديوان «بالأمس فقدت زرًا»، وصنع عالم عن الملابس. كنت أكتب وأنا فى المحل وأقرأ على الباعة المحيطين بى فى المحال الأخرى. ثم بدأت أفعل مثل إبراهيم عبد المجيد، ذهبتُ لمصانع الملابس التى نشترى منها البضاعة، شاهدت «المقصدار» وهو يقص أتواب القماش بحسب الباترون المحدد، وماكينات الخياطة، بل كنت أشم رائحة الملابس الجديدة، وأتأمل الملابس عندما يرتديها الزبائن. فى هذا العالم الملىء بالملابس تحقق ما كنت أطمح إليه وتشكّل عالم الديوان.
وكذلك كان الأمر فى «سقوط…سيرة رائحة»، لم أذهب إلى أماكن بعينها للكتابة، ولكن العالم تشكّل من خلال العلاقات الناشئة بين المقاطع التى كتبت على فترات متباعدة، وبدأت تتّضح ملامحها مع تجاور النصوص مع بعضها، بالتأكيد كنت هناك مسودات سابقة حذفتها وأعدتُ الكتابة من جديد، ودائمًا ما أضيف لعالم الديوان حتى آخر لحظة قبل دخول المطبعة.
الديوان الذى تراجعت عن نشره، هل كان من شعر التفعيلة؟
تفعيلة نعم. وأغلب القصائد كانت على بحر المتدارك، فَاْعِلُنْ فَاْعِلُنْ فَاْعِلُنْ. وهو بحر يعطى شعورًا بالاسترسال والانسياب والجريان. وكان مناسبًا لحالة الفرار والجرى التى تجمع بين القصائد. وكانت آخر قصيدة موزونة كتبتها هى «فى الحبس الانفرادى مع عمر بن أبى ربيعة»، وفيها كنتُ أودّع فكرة الوزن تمًامًا، حيث انتهت القصيدة بجزء نثرى من خيال جامح أتخيلنى وعمر بن أبى ربيعة ونحن نهرب من السجن بمساعدة أمل دنقل الذى يأتينا على متن دراجته البخارية وصولًا للصعلكة مع حنا السكران، وكأن الوزن التفعيلى داخل القصيدة يصل لمنتهاه وينفتح على النثر، الذى هو نقطة البداية بالمناسبة، باعتبار أن الشعر ولد حرًا أولًا ثم اُكتُشفت الأوزان والهياكل والقوالب بعد ذلك.
بين «بالأمس فقد زرًا» و«سقوط.. سيرة رائحة»، كتبت عن موت لاعب فيديو جيم.. وكان ذلك مبشرًا لأن وراء ذلك تجربة عن الألعاب والتوحد معها، هل كان ذلك مشروعًا تراجعت عنه أم أجلته؟
«حياة جندى فى لعبة فيديو جيم» قصيدة تنبنى على فكرة الموت المكرر، هذا الجندى عليه أن يدخل مستوى اللعبة من أجل ألا يموت، لكنه عادة ما يُقتل ليعود للحياة يكرر نفس الأشياء ثم قد يموت فى نفس الموضع الذى مات فيه لتوه، وقد يتجاوز المستوى ويدخل مستوىً آخر ليكرر نفس الميكانيزم حتى يقابله موت جديد، هذا التكرار المذهل، العود الأبدى داخل لعبة الفيديو جيم جعلنى أكتب قصيدة أخرى من نفس العالم، لكنها للأسف ضاعت، ثم فكرت فى التأنى قليلًا حتى تتعدد مستويات اللعبة التى ألعبها أنا شخصيًا على الأقل.
تكتبها حاليًا أم ستكتبها؟
لم أبدأ فى الكتابة بعد لكننى أفكر فيها باستمرار
كم استغرقت تجربة الروائح، ولماذا اخترت السقوط كمرادف للرائحة وسيرتها؟
الروائح فكرة قديمة عندى، فأنا بالأساس شخص يعتبر الرائحة موصلًا جيدًا للشعور، ويهتز لها قلبى بالفعل. هنا روائح قادرة على الإلقاء بى خارج اللحظة الحالية وخارج المكان. فكرت مرة وأنا فى الثامنة عشر فى الكتابة عن رائحة الجوافة. لكن المنطلق الأساسى بالنسبة لى فى هذه التجربة بدأ من السقوط وتحديدًا عندما حكى لى أحد الأشخاص عن أبيه الذى عمل فى زراعة النخل فى السعودية وسقط من أحد النخلات هناك وأصيب بالشلل. عندها وبينما كان يحكى تخيلتُ أن الذى يسقط هو أنا، وشعرتُ بكثافة اللحظة وثقلها لدرجة دفعتنى للكتابة. بعدها أخذ العالم داخل النص فى التمدد ثم تعددت الأفكار والمسودات إلى أن جاءت فكرة الروائح لتكون ثيمة لاستعراض الذوات المتعددة داخل النص، وكذلك فعلًا مقاومًا لحتمية السقوط داخل الديوان باعتبار أن الرائحة لا تسقط بل تتصاعد. استغرق ذلك وقتًا طويلًا منذ ٢٠٠٦ حين كتبتُ المقطع الأول «عند سقوطه من النافذة كان يعرف أن أول ما سيرتطم بظهره هو الموت»، وذلك لانشغالات الحياة ولإحساسى بعدم اكتمال العالم حتى جاءت عزلة كورونا لتدفعنى لمزيد من الكتابة وإتمام التجربة.
فى مدخل الديوان تتصدى للهواء، تكتب عنه. هو تحد، وقد وُفقت فيه، لنتحدث فى البداية عن هذه المفارقة..
الهواء هو أقصى درجات الوجود. ذروة المطلق فى تجليه الحر. وبكل التنوع. هو الذى يحمل الروائح. وفيه تفنى الروائح. لا مرئى وهذا يُتيح له الرؤية الكاملة. لا أحد وهو ما يجعله يحوى الجميع. وهو الجسر الواصل بين السقوط والرائحة. فنحن فى الهواء ونحن نسقط، ونحن فى الهواء ونحن نتصاعد مثل الروائح، وهذا ما جعل نص الهواء مدخلًا للديوان. كأنه أنشودة البداية. عندما كتبت النص لم يكن هذا واضحًا لى تمامًا حينها لكن مع تطور كتابة عالم السقوط والرائحة بدت هذه العلاقات المتشابكة تتضح بين هذه القصيدة والقصائد الأخرى.
لنعد إلى الرائحة.. هى ليست الثيمة فحسب، بل هناك بناء درامى وتضفير بين قصائد الديوان الروائح الست مولدة من القصيدة الأولى، تلك الخاصة برائحة الأم، التى ظلت لأربعين عامًا تقابل رائحة الأب فخُلقت ٦ روائح. سرد لأسرة أم سرد لتجربة خلق.. كلمنا أكثر عن هذا التوليف المعقد.
هذا الجزء من الديوان، الانتقال من سقوط الابن إلى الأم فالأب ومن ثَمَّ روائح الابناء، كُتب أكثر من مرة، وبأكثر من شكل، قبل الاستقرار على شكل الروائح، وما أعطاه هذا التوليف والتضفير والخروج من السقوط والعودة إليه هى طبيعة الروائح ذاتها بانسيابيتها وقدرتها على الانتقال من موضع لموضع. هناك بالفعل سرد لتاريخ أسرى للشخص الذى يسقط من النافذة. لكنه سرد لا يخص أحداً بعينه بل هو سرد عن الجميع. الأم التى تصنع كل شىء فى البيت. الأب الذى لا يحب الأسئلة. إنهما كل أب وأم فى فترة زمنية معينة ولدى جيل بأكمله. إننا جميعًا هنا متجسدون بشكل ما أو بآخر بأفكارنا بدوافعنا ورغباتنا. «والكُلُّ مُثْـقَلٌ وَمَآلُهُ إِلَى سُقُوط». وهذا هو المشترك بيننا جميعًا. الشخص الذى يسقط فى الديوان يدرك فى أثناء سقوطه أنه كل شخص. كأنه سرد عن الخلق منذ بدء السقوط حتى لحظة الارتطام بالأرض.
«ولأن َلا أَحد يـَعرفُ رائحتَهُ/ ومن يدعُون أنهم يـَعرفون رائحتَك/ لا يـَعِرفُون رائحتـَهم/ إِذن فالكلُّ سَواء/ من لَهُ رائحةٌ/ وَمَن هُو مِن ُدون».. ما شرط الرائحة.. ما الذى يجعل إنسان له رائحة، وآخر بلا رائحة؟
الرائحة هى علامة الحياة، أن ثمة وجود قد مُورِس هنا وفاح، والرائحة هنا ليست شيئًا إيجابيًا، وغيابها ليس شيئًا سلبيًا، لكنها أكثر تتعلق بالآخرومدى قربه منك. فبما أن الإنسان لا يستطيع تميز رائحته، وأحيانًا عطره لو اعتاد على وضعه، إذن فوجود الرائحة مرهون بالآخر الذى يشمها فيعرفها ويعرّف بها. الآخر هو الأنف. هو الذى يقول إن ثمة رائحة هنا.
شخصيًا أتصور أن لكل حال رائحة، فى اللحظات الحميمية لنا رائحة، فى النوم لنا رائحة، فى الغضب والسعادة. إنها مستويات متعددة. لا يعرفها إلا القريبون منا. وقد لا تُعرف، لكن هذا لا يعنى أنها غير موجودة. وهناك روائح لا يعرفها أحد إلانا.
كل رائحة تأتى على لسان شاعر ذاتى، يتحدث عن أناه كرائحة أو العكس، ليس هناك آخرين، أم أن فى كل رائحة تتماهى الذات الشاعرة مع تلك الرائحة فتكون الناطقة باسمها؟
من أجمل خصائص الهواء هو انمحاء الذات. الهواء بلا رائحة. لذا يسهل عليه أن يلبس أى رائحة يشاء ويفوّحها. هو تماهى من أجل إعلان الوجود. أن ثمة رائحة مرت من هنا وفاحت. ولولا الهواء ما وصلت الرائحة إلى الأنف، وهذا ما حدث مع الروائح الست. حملتها ذات تشبعت بالهواء وتماهت معها وأفاحت بها. هذه الذات وبعد استعراض تاريخها الشخصى تسقط فى ذاتها لإعادة اكتشاف أناها الخاصة، وعندما تتجلى لها الرؤية كاملة تكون لحظة الارتطام بالأرض.
ثم شممت رائحة الشعر/ والدخان الأسمى/ فاتح المغالق/ كاشف كلمات السر/ ومجلى الغيوم عن العيون.
لنخرج قليلًا عن أسئلة الديوان، لنتحدث فى موضوع أكثر عمومية وهو الشِعر، لا أريد أن تتحدث عن إنتاج الآخرين، أو معارك تتصل بقصيدة النثر، (هل شُغلت بهذه المعارك أصلًا؟) لكن ما الذى تراه الآن فى مشهد الكتابة؟
من بعد ديوان الملابس وأنا أتحاشى الشِعر، ودائمًا ما أراه فخًا، مثله مثل الجمال عندى، طُعْم يستدرج مَن ينساق فى غوايته إلى أن يطبق عليه فلا يرى سواه. كنت أقول وبعض الأصدقاء الشعراء «إحنا مش موظفين عند الشِعر». وظللت هكذا لا أذكره أمام الأصدقاء ولا فى أماكن العمل إلا فيما ندر، لدرجة أن أحد الأصدقاء بعد عام أو يزيد من معرفتنا عرف أننى مَن كتب ديوان الملابس! لكننى كنت ومازلتُ أمارسه فى لحظات خاصة حين أغلق على نفسى وقد انسحبت من كل شىء، وصرتُ حرًا تمامًا، حرًا من الشاعر وقارئه بل من الشِعر ذاته. تمامًا كما قال لى صديق: «فى الجنس متفكرش فى الجنس». وفى هذه اللحظة أكتب. لا شك أن نشوة الشِعر ولذتها لا مثيل لها لدى الشاعر، لكن استمراء اللذة يتلف الرؤية ويفتح الباب للوهم. مثل الهوس بالجنس والمخدر والدين. حين يستمرئ المهووس فى لذته ويتطرف فلا يرى ويؤذي. يمكنك الآن بسهولة رؤية شعراء مهاويس متطرفين أفسد عليهم الشعر حيواتهم الحقيقية، وشلّهم كراكتر الشاعر عن الاندماج طواعية فى الحياة وأن يكونوا أنفسهم. وبالمناسبة هناك مهاويس رائعون. لكننى لا أفضّل أن أضع على عينى نظارة شمسية طيلة الوقت. اخترتُ فى النهاية أن أكون عاديًا لا يُلحظ كى ألحظَ تجليات الشعر فى التفاصيل العادية، ثم أخزّنها وأقطّرها وأتنسم أبخرتها مع نفسى باعتبارها خلاصة اللذة والشعور وبعد ذلك أفكر فى النشر. خاصة وأن النشر لدينا دوائره صغيرة، نحن نكتب لأصدقائنا ولا نقرأ كل ما يكتبه الآخرون. وهذا ما جعلنى بالمناسبة لا أدخل معارك، ولا أنحاز لشكل بعينه فى كتابة الشعر، لأنه لا داعى للضجيج فلنعمل فى صمت واستمتاع. هذه طريقتى ولا أدعى أنها الصحيحة وغيرها لا.
هل استفدت من تجارب سابقة حول الرائحة، عطر باتريك زوسكيند مثلًا؟
عادة لا أقرأ ولا أشاهد تجارب سبقتنى فيما أكتب فيه. لا أحب أن أضيف على كاهلى عند الكتابة أعباء مسبقة، كتفادى تجربة فلان أو ما شابه. لكننى قرأت رواية العطر طبعًا قبل حتى التفكير فى كتابة ديوان الروائح. وأعجبتنى كثيرًا بحبكتها البوليسية المثيرة، لكنها لم تكن حاضرة فى ذهنى عند الكتابة، لأنها بعيدة عن العالم الذى أكتب فيه، زوسكيند لا يتحدث عن الروائح لذاتها بل فى سياق قاتل ذى قدرة شمّ خارقة يسعى لصناعة عطر يخلب الألباب، لكن الحديث عن الروائح فى الديوان يأتى فى سياقات أخرى.
ما بين «بالأمس فقدت زرًا» و«سقوط» كتبت قصيدة طويلة عن القاهرة، هى تجربة مختلفة من حيث الكتابة، أنت لا تقدم عالمًا بل مكانًا، وحول هذا المكان أنت السكندرى تكتب عن القاهرة، كان ذلك قبل أن تترك المدينتين المصريتين إلى غزة ثم فرنسا. لتحدثنا عن كتابتك للقاهرة وعلاقتك بالمكان.
هذا هو الديوان التالى وقد أوشك على الانتهاء. وقد بدأتُ الكتابة فيه بعد حلم رأيتُ فيها المدينة تتهاوى فكتبت نصًا ديستوبيًا يبدأ بهذا السطر «حتمًا ستنهار القاهرة»، كان ذلك فى ٢٠٠٧ ثم توقفت، لكن ما كتبته دفعنى لإعادة النظر فى علاقتى بالقاهرة حتى وجدتنى ذات ليلة أكتب بلا توقف، ململمًا المشاهد التى التصقت بذاكرتى من عيشى فى القاهرة، وتكرر الأمر فى اليوم التالى، ثم اليوم الذى يليه. كنت أنهى العمل وأجرى إلى البيت للكتابة، كنت سعيدًا ومستمتعًا ومتعجبًا من الحيوات التى تشكلت والشخوص التى ظهرت، وحينها عرفت لماذا أكتب. من أجل تلك اللذة وهذا الشعور. ثم حدثت ثورة يناير فتوقفت، ثم عاودت الكتابة على فترات متباعدة. الحقيقة أن القاهرة من بعد سكنتى فيها بلعت الإسكندرية فى داخلي. أفسدت عليَّ استمتاعى بها، فقد جعلتنى أستشعر صِغرها الذى لم أشعر به أبدًا وجعلت مكانها فى الذاكرة فقط. وبعد أن أقمت فى غزة وأمريكا، ظلت القاهرة فى الخلفية كمحطة العودة التى لا بد منها. والآن وبعد عيشى لعامين فى فرنسا، تقف القاهرة على مبعدة لأول مرة، وكأنها الحنين الذى لا يجب أن أتورط فيه، المخدر الذى لا ينبغى أن أتعاطاه كى أتمكن من رؤية الواقع الجديد كما هو.
فى الختام، لقد ألّفت أغاني.. لنتحدث عن علاقتك بالعامية..
لم أكتب شعرًا بالعامية، لكنى كتبت أغانى، من باب أن الأغنية عمل جماعى يحتاج لأطراف أخرى حتى يكتمل تكوينها. إنها نتاج التشاور والمناقشات والأحاديث والتجريب، وهذا ما أحبه فى كتابة الأغانى ومعالجات الأفلام الوثائقية، أنك لست وحدك، كما فى الشعر والرواية والترجمة، بل هناك آخرون يفكرون مثلك وعلينا أن نلتقى لفعل ما نريد، هكذا كانت تجربتى مع فيروز كراوية، كنا نريد كتابة أغنية بدون قافية أو وزن لكن بها موسيقى داخلية، فكتبت أغنية «جربت»، وأغنية أخرى هى «مش شايفين» التى غنتها الصديقة نهى طه وكان قد طلبها منى صديقى محمود فرج لتكون فى تتر نهاية أحد الأفلام، ضمن مشاريع التخرج فى معهد السينما. وأعتقد أنه لو كان لدى صديق مقرب ملحن، لكنت كتبت أكثر. الآن أستمع للأغانى بشكل أكبر فى جولات المشى فى المدينة والتسوق، تشدنى تجارب الفرق الجديدة كدعسوقة وعمدان نور، وأخيرًا بدأت أسمع المهرجانات وصارت ترافقنى عوالمها الصاخبة وطاقتها المفرطة وخطابها الذكورى الفج العنيف وأنا أتمشى فى شوارع المدينة الفرنسية الهادئة حيث أقيم، وهو أمر يحيل المشهد إلى خلطة سيريالية على خلفية أصوات بيكا وشواحة وحسن شاكوش ونور التوت وعلى قدورة. هذا التضاد بين السياقين أبرز المهرجانات لديّ باعتبارها عالما كبيرا ودالا اجتماعيا وثقافيا مثيرا للدهشة وجديرا بالتحرى.