خواطر الإمام الشعراوي| اللين فى النصح و«إن قابلوك بالقسوة»

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

 يقول الحق فى الآية 36 من سورة القصص: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ»، قوله تعالى: «بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ...» أى: بمعجزاتنا واضحات باهرات، فلما بُهِتوا أمام آيات الله، وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق، فقد جاءهم موسى ليهدم عرش الألوهية الباطلة عند فرعون، ولم يملكوا إلا أنْ قالوا: «مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا فى آبَآئِنَا الأولين».

لذلك يُعلِّم الحق تبارك وتعالى موسى عليه السلام مُحَاجَّة هؤلاء، فكأنه قال له: أنت مُقبل على أُنَاس متمسكين بالباطل، حريصين عليه، منتفعين من ورائه، ولابد أنْ يغضبوا إنْ قضيتَ على باطلهم، وصرفتهم عنه إلى الحق، فقد أَلِفُوا الباطل، فإنْ أخرجتَهم مما أَلِفوا إلى ما لا يألفون فلابد لك من اللين وألاَّ تُهيِّجهم حين تجمع عليهم قسوة تَرْك ما ألِفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم يألفوه. ويكفى أنك ستسلبهم سلطان الألوهية الذى عاشوا فى ظله، فإنْ زِدْتَ فى القسوة عليهم ولّدْتَ عندهم لدداً وعناداً فى الخصومة. لذلك قال تعالى: «فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً...» «طه: 44» يعنى: اعذروه فيما يلاقى حين تُسلَب منه ألوهيته، ويصير واحداً من الرعية. وإنْ قابلوك هم بالقسوة حين قالوا: «مَا هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا فى آبَآئِنَا الأولين» فقابلهم أنت باللين.

 وَيقول الحق فى الآية 37 من سورة القصص: «قَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى - عليه السلام - فلم يرد عليهم بالقسوة التى سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه، إنما ردّ بهذا الأسلوب اللَّبِق، وبهذا الإيحاء: «ربى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار...» ولم يقُلْ: إنى جئت بالهدى. ثم قال: «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون» سواء كنا نحن أم أنتم، ولم يقُلْ: أنتم الظالمون، لقد أطلق القضية، وترك للعقول أنْ تميز. ومعنى «عَاقِبَةُ الدار..» الدار يعنى: الدنيا وعاقبتها تعنى: الآخرة. وهذا الأدب النبوة فى الجدل والحوار رأيناه فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له، وقد خاطبه ربه: «وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِيَ أَحْسَنُ...» «العنكبوت: 46». والعلَّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذى أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذى يكرهون، فلا تجمع عليهم شدتين، لذلك فى أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون). أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما فى قصة نبى الله نوح عليه السلام، والذى ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فالأمر يختلف. فالنبى صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التى تقبل ما رفضه الآباء. فما أطولَ صبر نوح على قومه، وما أعظمَ أدبه فى الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء: «قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تُجْرِمُونَ» «هود: 35».
فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّى نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم، لكن، لما كان فى علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، ولا فائدة منهم، ولا من أجيالهم المتعاقبة، وبعد أنْ قضى نوح فى دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم، حيث لا أملَ فى هدايتهم، فقال: «رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً» «نوح: 26-27».

ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول فى محاورته مع كفار مكة: «قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» «سبأ: 25».
سبحان الله ما هذا التواضع، وهذا الأدب الجم فى استمالة القوم، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله، وحينما يتكلم عنهم يقول «تَعْمَلُونَ» «سبأ: 25» فيُسمِّى إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملاً، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم.