يوميات الأخبار

رفضتُ أن أكون مليونيرا!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

بكلمات عربية واضحة خاطبنى السيد خوسيه فيلوسو. أكد أنه يبحث عن اسمى منذ فترة. ارتفع سقف طموحاتى، فالرجل بذل جُهدا ليصل إلىّ، مما يعنى أن الأحلام على حافة التحقُق. واصلتُ القراءة لأكتشف أننى أمام عرض مُغر بأن أصبح مليونيرا.
 

رسالة من الفلبين


الجمعة:


عادة ما أتعامل مع طلبات الصداقة على «فيس بوك» بحذر، لأتجنّب نوعيات غير مرغوب فيها من البشر. يتحول الحذر إلى ريبة عندما أستقبل طلب الإضافة من حسناء، تُنافس صورتها جاذبية نجمات السينما العالمية، دون أن يدعمها أصدقاء مشتركون موثوق فيهم. وجودهم يجعلنى أوهم نفسى بأن هذه الحسناء وقعت فى أسْر كلماتي، لأقنع نفسى بتلبية طلبها على الفور! جاءنى الطلب هذه المرة من رجل فلبيني، حسابه يحمل منشورات بالإنجليزية، استنتجتُ من مضمونها أنه يملك قدرا لا بأس به من الثقافة.

سعدتُ لأن شُهرتى تجاوزت حدود المحليّة وقبلتُ الإضافة. بدأتْ أحلام اليقظة تتنامى، وتتابعتْ أحداث سيناريو تخيلتُ فيه أن الرجل يعرض ترجمة أحد كتبى إلى لغتهم التى لا أعرفها. قررتُ التهاون فى المقابل المادي. ستقتصر شروطى على حفل توقيع فخم، يتيح لى فرصة ركوب الطائرة من جديد فى رحلة طويلة، تُعوّض ما قطعه فيروس كورونا من «سفريات» قليلة بالأساس. انقضى يومان كاملان من الترقُب حتى وصلت الرسالة الموعودة، وفاق العرض المطروح كل توقعاتي.


بكلمات عربية واضحة خاطبنى السيد خوسيه فيلوسو. أكد أنه يبحث عن اسمى منذ فترة. ارتفع سقف طموحاتي، فالرجل بذل جُهدا ليصل إلىّ، مما يعنى أن الأحلام على حافة التحقُق. واصلتُ القراءة لأكتشف أننى أمام عرض مُغر بأن أصبح مليونيرا. أوضح أنه يعمل مدير تدقيق فى البنك الوطنى الفلبيني، وجد نفسه فجأة أمام مغارة على بابا، لكنه يحتاج فقط إلى من يمنحه كلمة السر لفتحها. إنه أنا شخصيا، أو بالأدق لقب عائلتى بالحروف اللاتينية، لأنه يتطابق مع لقب عميل كبير توفى دون أن يعرف مسئولو البنك بذلك، وله حساب يضم أكثر من 12 مليون دولار.

عدم وجود ورثة للراحل سيجعل المبلغ ينتقل تلقائيا إلى مديرى البنك، الأثرياء أصلا بشكل مُبالغ فيه حسبما قال خوسيه، لهذا فكّر فى أن يجعلنى أتقدم بطلب باعتبارى وريثا، لنحصل على المبلغ ونتقاسمه. إنه عرض يساوى ستة ملايين دولار، أى ما يقرب من 100 مليون جنيه، يكفل لى تحقيق الكثير من الأحلام المؤجلة فيما تبقى من العُمر، فضلا عن زيارة الفلبين لأتسلم ميراثى الضخم.


كثيرا ما سمعتُ عن عمليات نصب مشابهة، تعرّض لها سُذج جعلهم الطمع يتجاهلون الخلل الدرامى والمنطقى الواضح فى القصة السابقة، ليفاجأوا فى النهاية أنهم دفعوا آلاف الدولارات طواعية، وهم يحسبون أنها رسوم أساسية تفتح لهم بوابة الحصول على الثروة، أو فقدوا أموالهم خلسة، بعد أن سقطوا فى فخ تقديم بيانات حساباتهم البنكية للسيد خوسيه وشركاه. إنه طمع  «المُغفلّين» الذى يفتح للنصابين دائما أبواب الرزق! لم أردّ بالطبع، و«شتمتُ» الرجل فى سرى بعد أن أجهض أحلامي، غير أننى تساءلتُ:

لو تيقنتُ أن العرض حقيقي، هل كان ممكنا أن أوافق على المشاركة فى عملية نصب تمنحنى المائة مليون؟ لن أجيب لأن الرد غالبا سيكون مثاليا، بينما قد يحمل الواقع مفاجآت تكشف جوانب خفية فى شخصياتنا، ووقتها سيرفع كثيرون منا شعار «يا عزيزى كلنا لصوص»، المشكلة فقط فى الفرصة المناسبة.. والمضمونة! ومن لا يُصدقنى يمكنه استرجاع تشجيع آلاف المشاهدين لعصابة نيللى كريم وآسر ياسين فى مسلسل «بـ100 وش»!


بوابة حنين باريسية

 


السبت:


تفتح ذكريات «فيس بوك» بوابات الحنين. تطالعنى صورى فى باريس، التى زرتها فى سبتمبر 2015، لتستقبل أولى خطواتى على سطح القارة العجوز، لكنها فاجأتنى بأن الشباب شباب القلب، وأن الحيوية لا ترتبط بمرحلة عُمرية. 


أهو الهواء نفسه على سطح الكوكب؟ لا أعتقد. لا أعنى تلك التغيرات الناتجة عن اختلافات الطقس أو معدلات التلوث. أعتقد أن لكل منا هواءه الذى يصبغه بشخصيته وحالته النفسية.

نتفق جميعا على الشكوى من الحر أو البرد، غير أن حالتنا المزاجية قد تمنح نار الصيف نسائم داخلية تُرطب حياتنا. مع كل خروج من طائرة لأرض أخرى أتنفس بعُمق، لا لأمنح رئتيّ جرعة من هواء طبيعي، يُعوّضها آلافا من أنفاس صناعية التقطتْها خلال الرحلة، بل لأستنشق أكبر قدر من هواء مُختلف، وفى باريس كان له بالفعل مذاق آخر، رغم كل ما يُقال عن مواصفاته العلمية الثابتة، ربما يستمد هذا المذاق من شعورى الشخصى بمتعة الانتقال بين قارتين.


أسبوع كامل قضيتُه مستمتعا بقليل من العمل وكثير من الرفاهية، بصحبة صديقى الدكتور ممدوح الدماطى وزير الآثار السابق، وأصدقاء آخرين تربطنى بهم علاقات ممتدة. النوم مرفوع من الخدمة مؤقتا، أحاول التقاط كل ما يمكننى من تفاصيل رسختْها فى مُخيّلتى قراءة الروايات. أتنقّل بسرعة مكوكية بين الشانزليزيه والحى اللاتينى واللوفر ونهر السين، وأماكن أخرى عاشتنى قبل أن أعايشها، ويحتاج تسجيلها إلى كتاب كامل يروى قصة رجل قروى النزعة بهرتْه أضواء مدينة النور.

أصابتْنى رؤية نهر السين لأول مرة بخيبة أمل، اعتقدتُ أنه مجرد فرع لنهر تغزّل فيه كبار أدبائنا عندما مشوا على ضفافه، لكنى فوجئتُ بأن ما أراه هو المجرى الرئيسي، الذى لا يمكن أن يصمد بداخلى فى أية مقارنة مع النيل. نهرنا الخالد يكسب من وجهة نظري، لكن أسلوب التعامل هناك هو ما يُغيّر نتائج المقارنات. 


فى اللوفر كان تركيزى مُنصبا على الآثار المصرية، التى خرجتْ ذات زمن لتعيش غُربة أبدية دون أمل فى العودة، غير أن الاهتمام الكبير يمنحها القدرة على الصبر. شرْح الدماطي.. العالم الكبير يرفع مؤشرات فضولنا لمزيد من المعرفة. للحجر دائما جاذبيته إذا وجد من يكشف أسراره، لكن مقررات التاريخ فى مناهجنا جعلته منبوذا، وزاد شيوخ الجهل الأزمة بادعاء أن آثارنا مجرد أصنام!!


مع الموناليزا


جاء الوقت لموعد طال انتظاره، وحانت اللحظة الحاسمة للقاء الموناليزا.

طابور طويل ينتظم فيه رواد المتحف الشهير، ويتحرك ببطء شديد لأن من يصل إليها لا يرغب فى فراقها. أخيرا أصبحتُ فى مواجهة اللوحة التى رسمها الفنان الإيطالى دافنشي، ويتم تصنيفها على أنها الأكثر شُهرة فى العالم. بالتأكيد رأيتُ صورها عشرات المرات من قبل، كنتُ أعتبرها لوحة جميلة، لكنى أتعجب من درجة افتتان الآخرين بها، أرى أن هناك لوحات مصرية وعالمية أكثر جمالا، ومع كثرة التغزّل فيها اتهمتُ ذائقتى بعدم النُضج، ثم عدتُ لأصالحها بافتراض أن الرؤية المباشرة ستكشف ما لم تُظهره الصور.

الغريب أن المواجهة أكدتْ وجهة نظرى السابقة، ولم أتهم ذائقتى هذه المرة. رجّحتُ أن «الزن ع الودان» يمكن أن يخلق إجماعا لا يستند إلى رؤية جمالية، تلفّتُ حولى لأبصر علامات الافتتان مرسومة على الوجوه. على الفور تبدلتْ ملامح وجهى لتكتسى بإعجاب مُبالغ فيه، كى لا يتهمنى المحيطون بالجهل!


فقْد آخر


الأحد:


أبدأ يومى غالبا بتصفح «فيس بوك» لأعرف ما يجرى فى مداراتنا. أكرّر ذلك رغم أننى قررتُ أكثر من مرة الإقلاع عن هذه العادة، لأننى اكتشفتُ أننى أمام صفحة وفيات إلكترونية، وليس صحيا أن أبدأ اليوم بأخبار تقبض القلب. 


إنه يوم أحد آخر حزين، بدأ بخبر وفاة إيمان خيرى شلبي.

على مدار سنوات تابعتُ صراعها مع السرطان، عبر منشورات لأصدقاء كثيرين مشتركين، يدْعون لها مع كل دخول إلى المستشفى، أو يُخبرون بعضهم بحاجتها لمُتبرعين بالدماء. لكن منشورات اليوم طوتْ صفحات حياتها بكلمات التأبين.

القلوب تنزف حُزنا حقيقيا، ومن بينها قلبى رغم أننى لم أقابلها نهائيا، مع أنها تعمل مخرجة فى قناة النيل الثقافية التى أرتبط بصداقات مُزمنة مع معظم العاملين فيها. تابعتُ معاناتها عن بُعد، أعرف ما يجرى لها وأنفعل دون تفاعل، وأعتبر أن العلاقات الإنسانية غير مقصورة على المعرفة الشخصية، فكم من لقاء جعل الفجوة بين الشخصيات تتسع، وكم من تباعُد حمل سمات القُرب. ربما كان لوالدها المُبدع الكبير خيرى شلبى دور فى اهتمامى بها، لكن ذلك اقتصر على مرحلة البدايات، واكتسى الاهتمام بعد ذلك بصبغة إنسانية، تُنبت بداخلنا انفعالات بشرية تكاد تنقرض.

أمام الموت تتراجع قدرة الكلمات على التعبير، وتُصبح عبارات التأبين العادية بلا معنى، خاصة بعد أن ارتفعت مُعدلات تداولها بدرجة غير مسبوقة فى الفترة الأخيرة، مع تزايد أعداد الراحلين.

رحم الله الباقين على قيد الحياة، لأنهم وحدهم من يتعاطون الحزن!


رد الاعتبار للخريف


الأربعاء:


تنساب همسات هواء مُعتدلة، ليست حارة ولا باردة، تُفجّر بداخلى طاقة إيجابية لا بأس بها، مع إعلانها رفع الحرّ من الخدمة ولو مؤقتا.

اعتدتُ أن أعيش هذه الفترة من العام بانقباضة قلب غير مُبرّرة. بعد محاولات للتفسير لجأتُ للتبرير الأسهل: إنها مشاعر خريفية، والخريف فى وجداننا فصل مُرتبط بالنهايات.

عادة كنتُ أتهمه بأنه فصل باهت، لا يملك الحضور الطاغى لصيف يفرض لهيبه، ولا لشتاء يحاصرنا ببرده، كما أنه يخسر أية مقارنة مع الربيع، الذى ارتبط لدينا بالرومانسية، ربما أيضا بفعل «الزن ع الودان»، عبر تراث غنائى وشعرى رسّخ لذلك.

على مدار سنوات تابعتُ أصدقاء يحاولون أن يردوا للخريف اعتباره، ويؤكدوا أنه فصل بالغ النعومة، لا يكوينا بحرارة أو يُجمّدنا ببرودة، ولا هو يهاجمنا بأتربة خماسينية توقظ فينا حساسية تنتظر من يفك أسْرها! غالبا لم أكن أقتنع بمبرراتهم، منظر أوراق الأشجار المتساقطة يصيبنى بالكآبة، لكننى هذه الأيام أقابله بإحساس مُختلف.

يكفى أنه الفصل الذى حافظ على عاداته نسبيا، بعد أن غيّرت باقى الفصول خصائصها. بعد تفكير وصلتُ إلى سبب مُرجّح للجفاء الذى أتعامل به مع الخريف.

إنه الفصل الذى يشهد بدء الدراسة. يُعلن انتهاء انطلاقة العطلة الصيفية، والعودة إلى مُقررات لم أشعر أبدا بالتعاطف معها، وبادلتْنى مشاعرى السلبية فتعاملت معى بعدوانية! يبدو أن توابع العلاقة المُتأزمة استمرت فى اللاوعي، حتى نجحتُ قبل أيام فقط فى تجاوزها، بعد أكثر من ثلاثين عاما من تخرجي.

قررتُ أن أفتح صفحة جديدة مع الخريف، وأن أعتبر الأوراق المتساقطة تحولّات تفرضها المرحلة، وتمنح الأشجار فرصة تخفيف أحمالها لبعض الوقت.