كتابة

غُصة فى القلب ( 2 - 2 ) بعيدا عن البكاء على الأطلال

محمود الوردانى
محمود الوردانى

محمود الوردانى

[email protected]

أواصل هنا ماسبق أن كتبته فى الأسبوع الماضى حول رواية محمود عبد الوهاب «متقاعد» الصادرة أخيرا عن دار ميريت، حيث أشير إلى مأثرة أخرى من مآثر الرواية تتعلق بنجاتها من النمطية التى هددتها. وإذا كان راوى المتقاعد تحيط به الأجواء التى تقوده حتما إلى أن يرثى عمره الجميل، ويبكى على الأطلال متذكرا غزواته النسائية الوفيرة مثلا، أو أيامه ولياليه على مدى مايقرب من ستين عاما، إذا كان ذلك كذلك، فإن الرواية تمكنت هنا أيضا من الخلاص من التنميط.. من حالة الشجن العاطفية.. من النهنهة.. من النوستالجيا..
  لايكتب الكاتب إذن عملا نمطيا سهلا متاحا ينضم إلى سلسلة الأعمال التى كتبها الكثيرون، عملا يحفل برثاء الذات والعمر الجميل الذى ولّى، والبكاء على الأطلال، بل يكتب بحيوية مدهشة، ويتناول عالما غنيا متنوعا، لاجهامة فيه ولاعقد للحاجبين وخوف من الموت مثلا. الراوى يستقبل الأيام القادمة، أيام الغروب على كل المستويات بقدر من الاستهانة. الموت عرفه جيدا، عبر الإشارات القليلة التى تبقى فى الذاكرة، مثل مشهد نزوله إلى القبر بصحبة جثمان آخر خالاته ، والبحث عن مكان لها بجوار رفات أمه التى سبقتها بعدة سنوات.
  وليس معنى هذا أنه لامكان للحزن فى حياة الراوي، فهناك غُصة فى القلب حسبما ذكر فى البداية.غُصة تليق بحياة تفلت من الراوى بعد أن اعتصرها إلى آخر قطرة. وهناك مكان أيضا للقلق الذى دفعه لزيارة الطبيب النفسي، ودفعه لتأمل جسده وهو فى طريقه  للتخلى عن صاحبه.
من جانب آخر لاأميل إلى اعتبار « متقاعد» سيرة ذاتية لكاتبها، على الرغم من تماثلات وتشابهات عديدة بين حياة الراوى وحياة الكاتب، وأميل أكثر إلى التأكيد على المأثرة التالية  من مآثر الرواية، وهى تحرير السيرة الذاتية وإخضاعها لراو آخر، راو فى رواية تملك الاستقلال الذاتى عن حياة كاتبها.
لا أكتب هذا الكلام من واقع خبرتى الشخصية بالكاتب، بل من خلال الإنجاز المتحقق والمتمثل فى الحيوية والتنوع، ومن خلال تحرير الراوى نفسه من التنميط، فهو راو مثقل بالأخطاء والخطايا، لايهتم أصلا بمدح نفسه أو تقديرها التقدير الواجب، بل يدرك الكاتب هنا- لا الراوى- أنه يكتب رواية، وماالسيرة الذاتية هنا إلا حيلة فنية أخرى من الحيل الأساسية لـ« متقاعد»، حيلة سردية شأنها شأن حيلة الاعترافات السابق الإشارة لها فى الجزء الأول من هذا المقال.
يكتب الراوى قرب آخر الرواية وبعد دفن آخر الخالات: «ماالشعور الآن؟ ليس هناك شعور محدد، غير الفراغ وإحساس ما بالرضا حيث قد أوصلت الجميع وحيث لاشعور تقريبا بالذنب، وهو الأمر الذى خشيت منه طول عمرى، سيغفر الله لى مادمت أحببتكن كل هذ الحب، خالاتى العزيزات».
  وهكذا فالراوى إذن لم يمنعه انغماسه فى حياته الصاخبة، التى حقق الكاتب نجاحا لافتا فى التعبير عنها، من النهوض بمهام اعتبرها وأنجزها بكل محبة فى رعاية عائلته، على الرغم من أن فى حياته مايزيد عن عشر من النساء المتنوعات المختلفات على كل المستويات، رسم لهن الكاتب بورتريهات تتميز بالاقتدار حقا، واستطاع بإيجاز مدهش أن يسيطر عليهن - سيطرة فنية فى الكتابة بالطبع-  ليصبحن روايات قصيرة داخل المتن الروائى الأكبر.