يوميات الاخبار

فى ذكرى مظاهرة قصر النيل

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

هذه كلمات من ذهب، لأنها توضح لنا طبيعة الجيش المصرى، فهو جيش وطني، ينبع من الأمة، ويعبر عنها، وليس جيش طائفة، ولا مذهب، ولا عرق. إنه حقاً جيش مصر.

كان الجيش المصرى دوماً طليعة الأمة المصرية، وإذا كان هذا الجيش قد لعب أدواراً حاسمة فى يوليو 52، ويناير 2011، و30 يونيو 2013، فإن مظاهرة عرابى فى ميدان عابدين (9 سبتمبر 1881) تبقى هى المحاولة الأولى التى قام بها الجيش لإنقاذ مصر من الحكم الاستبدادى، والمطالبة بإلإصلاحات التى تحتاجها البلاد. وبمناسبة مرور مائة وأربعين عاماً على هذه المظاهرة نستدعى أحداث هذا اليوم المجيد.
وقف آلاف المواطنين على جانبى الطريق المؤدى لميدان عابدين لمشاهدة القوات التى تتقدم نحو القصر  فى مشهد مهيب لعرض مطالب الأمة على الخديوى توفيق. ها هو أحمد بك عبد الغفار قائد آلاى السوارى يصل إلى الميدان على رأس قواته. يأخذ مكانه المحدد. يقف بنظام صارم يعكس مدى الضبط والربط بالآلاى. بعده بقليل ظهر أحمد عرابى على رأس آلاى العباسية. هتف له الجميع من القلوب قبل الحناجر. الكل يعرف عرابي، يعرفونه من يوم حادث «قصر النيل»، يومها احتال عليه عثمان رفقى باشا وزير الحربية (الشركسي) ليذهب إلى ديوان الوزارة بقصر النيل ومعه زميلاه على فهمى وعبد العال حلمي، وبمجرد وصولهم للديوان أمر رجاله بالقبض عليهم، وألقاهم فى السجن. لكن عرابى كان يدرك قبل أن يذهب للديوان أن عثمان رفقى مخادع، يخبيء له مفاجأة، فأعد العدة لتحرك القوات فى حالة القبض عليه، وإخراجه هو وزميليه من السجن. يومها قفز عثمان رفقى من إحدى النوافذ هارباً، وخرج عرابى ورفاقه خروج الأبطال المنتصرين، الذين دحروا مؤامرة الشركسى على الضباط المصريين، وطالبوا بعزل الوزير الجاهل المتعنت، فعزله الخديوى توفيق خوفاً من مواجهة الجيش، وصار عرابى منذ هذا اليوم زعيماً فى نظر الشعب. لذلك راح الشعب يهتف لزعيمه بحرارة.
كان عرابى فارع الطول، أسمر اللون مثل الفلاحين، وفى عينيه عزم يليق بالزعماء. وعمره يومئذ أربعون عاماً.
مع عرابى جاء آلاى الطوبجية (المدفعية) بقيادة إسماعيل بك صبرى. واصطفت الآلايات كل واحد فى المكان المحدد له. لاحظ عرابى أن آلاى الحرس، الذى يحرس الخديوى وقصره غير موجود. سأل عنه. قالوا له: إن قائد الآلاى على بك فهمى وزع الجنود على القصر استعداداً للدفاع عنه. أرسل له عرابى يستدعيه. حضر مسرعاً. سأله عرابى عن معنى تصرفاته؟ قال على بك: الحرب خدعة. فأمره عرابى بلهجة حاسمة: هات الآلاى فوراً وخدوا مكانكم فى الميدان. وأطاع على بك الأمر، وفى أقصر وقت كان آلاى الحرس مع بقية الجيش بدلاً من أن يكون فى موضع الدفاع عن الخديوى وقصره. وهكذا اكتملت الصفوف. احتشد أربعة آلاف جندى بأسلحتهم، ومعهم المدافع، والفرسان فى الميدان، فى انتظار ظهور الخديوى لعرض مطالبهم.
الجناب الخديوى
كان الخديوى يعلم بموعد تجمع القوات فى الميدان. عرابى أرسل خطاباً بذلك لوزير الحربية لإبلاغه. قرر الخديوى أن يقوم بمحاولة لمنع هذا الحشد حفاظاً على صورته وهيبته. خاطب رؤساء آلاى الحرس فأظهروا طاعتهم له، ثم ذهب لآلاى القلعة لكن الاستقبال كان خشناً. انتهى بأن رفع الجنود الأسلحة وعليها السناكى مشهرة فى وجهه، وخرج وهو لا يصدق ما يحدث. بعد هذا سار إلى العباسية، حيث يوجد الآلاى الذى يقوده عرابى على أمل أن يثنى عرابى ورجاله عن التظاهر، لكن مؤخرة الآلاى أبلغته أن عرابى تحرك بقواته منذ ساعة، فأسرع إلى السراى.
دخل السراى من الباب الشرقى «باب باريس»، ولم يلبث أن خرج على قدميه فى الموعد المحدد، معه مستر كوكسن، نائب القنصل الإنجليزى، والجنرال جولد سميث مراقب الدائرة السنية، والسير كالفن المراقب المالى الإنجليزى، وبعض رجال الحرس. وقف فى منتصف الميدان ونادى على عرابي، فتوجه إليه لينقل له طلبات الأمة. كان راكباً على جواده، شاهراً سيفه، وخلفه حوالى ثلاثين ضابطاً من خيرة الفرسان شاهرى السيوف. همس  كوكسن للخديوى: أطلق النار عليه. فالتفت الخديوى إليه قائلاً: أفلا تنظر إلى من حولنا من العساكر؟
حين دنا عرابى من الخديوى صاح فيه: أغمد سيفك وترجل. وأطاع عرابى الأمر، فلم يأت معتدياً على صاحب العرش، بل جاء يحمل مطالب الأمة. ثم أمر الخديوى بقية الفرسان: اغمدوا سيوفكم وعودوا إلى بلوكاتكم، فلم يطيعوه، لأن التعليمات لديهم هى حماية القائد، والقتال فوراً لو حدث أى غدر من جانب الخديوى ورجاله. وتجاهل الخديوى عدم طاعتهم للأمر، ثم توجه لعرابى يحاوره حواراً خلده التاريخ:
- ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟
- جئنا يا مولاى لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة، وكلها طلبات عادلة.
- وما هى هذه الطلبات؟
- هى إسقاط الوزارة المستبدة، وتأليف مجلس نواب على النسق الأوروبي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين فى الفرمانات السلطانية (18000 جندى)، والتصديق على القوانين العسكرية التى أمرتم بوضعها.
- كل هذه الطلبات لاحق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا
- لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً ولا عقاراً، فوالله الذى لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث، ولا نستعبد بعد اليوم.
حينئذ مال المستر كوكسن على الخديوى، ونصحه بالانسحاب إلى داخل القصر، فانسحب هو ورفاقه.
 بعد دخول الخديوى لقصره دارت مباحثات غير مباشرة بين الطرفين، فقد اختار توفيق كلاً من: المستر كوكسن نائب القنصل الإنجليزى والمستر كالفن المراقب المالي، للتفاوض مع عرابي.
قال كوكسن على لسان الخديوى: إن طلب إسقاط الوزارة وطلب تأليف مجلس النواب من حقوق الأمة لا من حقوق الجيش، ولا لزوم لطلب زيادة الجيش لأن المالية لا تساعد على ذلك.
فرد عليه عرابى بكلام من ذهب. قال: اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتى المتعلقة بالأهالى لم أعمد إليها إلا لأنهم أقامونى نائباً عنهم فى تنفيذها بوساطة هؤلاء العساكر الذين هم إخوانهم وأولادهم، فهم القوة التى ينفذ بها كل ما يعود على هذا الوطن بالخير والمنفعة، وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر فهم الأهالى الذين أنابونا عنهم فى طلب حقوقهم، واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.
قال القنصل مهدداً: علمت من كلامك أنك ترغب فى تنفيذ اقتراحاتك بالقوة، وهذا أمر ينشأ عنه ضياع بلادكم وتلاشيها.
وأجابه عرابي:
- كيف يكون ذلك ومن ذا الذى يعارضنا فى أحوال داخليتنا؟ اعلم أننا سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة
المهم أن الخديوى حين وجد إصراراً من عرابى على مطالبه وافق على إقالة وزارة رياض باشا فوراً، وتفاوض مع عرابى حول رئيس الوزراء الذى يرشحه، فاختار عرابى شريف باشا ليكون رئيس وزراء الثورة، وهكذا حققت المظاهرة أول أهدافها.
شريف باشا
هو محمد شريف باشا، أحد أعضاء بعثة الأنجال التى أرسلها محمد على إلى فرنسا عام 1844 لتدرس فى المدرسة الحربية المصرية بباريس، وزامل فيها أربعة أمراء من الأسرة العلوية، أبرزهم الخديوى إسماعيل. وقد ترقى فى المناصب حتى صار رئيساً للوزراء، لكن اللقب الذى غلب عليه هو «أبو الدستور»، فهو الذى أعد الدستور للخديوى إسماعيل قبيل عزله عن حكم مصر 1879، وحين جاء ولده توفيق بعده تقدم شريف باشا له بالدستور مرة ثانية، لكن توفيق كان يريد أن يحكم حكماً ديكتاتوريا، دون دستور يقيده، لذلك اعتذر شريف باشا عن الاستمرار فى الحكم. هذا هو الرجل الذى اختاره عرابى ليكون رئيس وزراء الثورة.
كان شريف باشا يرى أنه يجب ألا يكون تحت ضغط زعماء الثورة، لذلك أرسل لعرابى مع محمود سامى البارودى باشا، وزير الحربية، اقتراحات محددة: شريف باشا يرى ضرورة نقل قادة الثورة بقواتهم خارج القاهرة، وأنا أعرض عليك الأمر، حتى لايحدث صدام آخر.
- أكمل يا معالى الوزير
- ستذهب أنت إلى رأس الوادى بالشرقية، وسيذهب عبد العال حلمى وآلايه إلى دمياط. فما رأيكم؟
صمت عرابى لحظة مفكراً، ثم قال: أوافق يا باشا، لكن بشرط..
- ماهو؟
- أن يصدر شريف باشا أمراً بانتخاب النواب الذين سيشكلون المجلس النيابي.
- سأعرض عليه الأمر.. وصدر الأمر بانتخابات مجلس النواب فى  أكتوبر 1881، فكان هذا هو النصر الثانى لمظاهرة الجيش فى عابدين. وتم افتتاح المجلس فى 26 ديسمبر من العام نفسه، أى بعد ثلاثة أشهر ونصف من وقفة الجيش العظيمة.
الدستور
احتشد النواب جميعاً فى قاعة المجلس. تأهبوا لاستقبال شريف باشا وجميع أعضاء الوزارة. فى الموعد المحدد وصل مجلس الوزراء بكامل هيئته. ووقف شريف باشا أمام المجلس يقدم له الدستور، أو اللائحة كما كانوا يسمونها. قال إنها تضمنت القواعد التى تقوم عليها الدساتير الأوروبية. وذكر بالتفصيل المهام التى سيقوم بها المجلس، مثل التشريع والرقابة، لكن المبدأ الذى أقام الدنيا ولم يقعدها هو المبدأ الخاص بعرض الميزانية على المجلس ومناقشتها وإقرارها.
كان المراقبان الماليان الإنجليزى والفرنسى لايريدان أن تكون هناك علاقة لمجلس النواب بالميزانية، لكن الضباط رأوا فى هذا انتقاصاً من السيادة الوطنية، أراد شريف باشا ألا يجعل هذه الأزمة تتسبب فى وقف المسيرة الديمقراطية، لكن الضباط تمسكوا برأيهم احتراماً للسيادة الوطنية، فاستقال شريف باشا، وجاء بعده محمود باشا سامى البارودى.
إنحاز البارودى، وهو ضابط، لرأى الضباط، وصدر الدستور، أو اللائحة كما كانوا يسمونها، فى 8 فبراير 1882، فكان هذا قمة الانتصارات التى حققها العرابيون من مظاهرة عابدين فى سبتمبر 1881، والمهم أن هذه الإنجازات وغيرها تمت خلال ستة أشهر لاغير.
إنها صفحات من تاريخنا جديرة بالوقوف أمامها وتأملها.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي