يوميات الأخبار

حوارات لا تنقصها الصراحة

أسامة عجاج
أسامة عجاج

تخيل عزيزى القارئ، أن الحوار الأهم فى حياتى الصحفية، وكان الأول مع زعيم دولة عربية مثير للجدل، سعيت له، وعندما تم تحديد الموعد، كان على أنا، وبمحض إرادتى، أن أهرب من إتمامه، ولكن ماذا نقول، إنها أحكام السياسة!!  
 

مارست خلال عملى كل أنواع الفنون الصحفية، الخبر والتحقيق والتغطية، وكتابة التقرير والمقال. ولكن الحوار الصحفى يبقى لدى المفضل والقريب إلى قلبي، فهو فى رأيى الأهم، الذى يكشف قدرات الصحفي، فى البحث عن المحاور، ووضع الأسئلة، وإدارة الحوار، وبالطبع صياغته.
انفرادات صحفية
فى مسيرتى الصحفية، سعيت إلى الحوارات كلما وجدت إليها سيبلا، القائمة متعددة، رؤساء وزراء كبار مسئولين، فى الأغلب عرب وبعضهم مصريين، وراء كل حوار قصة، فى الوصول للمصدر والاتفاق على الموعد، وأحيانا التوافق على المحاور بصفة عامة، أعتز  بكل الحوارات التى أجريتها، ولكنى أتوقف عند عدد منها، بعضها يمثل «انفراد على مستوى الصحافة المصرية» ، وفى المقدمة  الحوار الذى أجريته مع رئيس الوزراء القطرى الأسبق حمد بن جاسم ونشرته فى الأخبار فى ١٠ نوفمبر  ٢٠١١، قل فى الرجل ما تشاء، اختلف معه كما تريد، زد فى قائمة اتهاماتك له، أو كن أحد المدافعين عنه، ولكنه يظل علامة فى العمل السياسى منذ ظهوره على مشهد الأحداث العربية، فقد عرفت الرجل منذ توليه الخارجية القطرية فى أول سبتمبر ١٩٩٢،  حيث ولدت الدبلوماسية القطرية على يديه، وأتذكر أننى كتبت عنه بعد إحدى القمم الخليجية التى استضافتها الدوحة، والتى قاطعتها البحرين لأول مرة فى تاريخ المجلس، بعد خروجه مهاجما المنامة  فى المؤتمر الصحفى فى نهاية القمة، وقلت «إنه كمن يلقى حجرا ثقيلا فى بحيرة راكدة»، حيث خرج عن المألوف خليجيا، وهو الحرص على أن تبقى الخلافات داخل الغرف المغلقة، وقد جمع الشيخ حمد بين رئاسة الوزراء والخارجية أبريل ٢٠٠٧، الإعداد للحوار بدأ منذ سبتمبر من نفس العام، بعد حضوره أعمال الدورة العادية لوزراء الخارجية العرب، حيث أبديت رغبتى للمسئول عن الإعلام فى ذلك الوقت الشيخ جبر بن يوسف، الذى عاد لى بالموافقة فى اليوم التالي، قائلا: «لقد جرت العادة على أن تقتصر حوارات الشيخ حمد مع وسائل الإعلام الدولية على أربع فقط سنويا، و»الأخبار» ستكون من بينها، تقديرا لمكانتها، واستمرت المخاطبات بيننا أسابيع، حتى تم الاستقرار على الموعد فى نهاية أكتوبر، وعلى مدى ساعة ونصف جرت وقائع الحوار فى مكتبه فى الديوان الأميري، الارتياح يبدو على الرجل، حيث لم يخصص له وقت انتهاء، لم يتخللها سوى استدعاء سريع من الأمير الشيخ حمد بن خليفة والذى كان فى لقاء مع الوفد السورى برئاسة وليد المعلم وزير الخارجية، الذى كان يشارك فى اجتماعات الوزراء العرب فى الدوحة، جر ى الحوار بدون خطوط حمراء أو سقف ،تناول كل القضايا المطروحة حتى منها ما هو يخص الأوضاع فى قطر، عندما أشار الى ان دول الخليج ليست محصنة ضد ثورات الربيع العربى ، حيث تم اتخاذ قرارات بزيارة رواتب القطريين والتى اعتبرتها فى سؤالى إجراء استباقيا لأى احتجاجات، مثل تلك التى شهدتها دول خليجية مجاورة لقطر، وتساءلت عن أسباب جمعه بين رئاسة الوزارة والخارجية، وعن التسريبات التى تتحدث عن إعادة ترتيب هرم السلطة فى قطر، وهو الذى تم بالفعل بعد أقل من عامين، تناولت وضع قاعدة العديد الأمريكية، ومدى تأثيرها على القرار القطري، سألت عن دور الدوحة فى عمليات الناتو ضد نظام القذافى، وتزعم الدوحة للتحرك ضد نظام بشار الأسد، والأزمة اليمنية، وبالطبع علاقات قطر مع مصر، سواء فى زمن الرئيس الراحل حسنى مبارك، أو فى الأشهر التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، الحوار لقى صدى عربيا واسعا سياسيا وإعلاميا.
شخصيات ثرية
وطالما نحن أمام الحوارات - الانفراد، فلن أنسى حوارى مع طه ياسين رمضان نائب رئيس الوزراء العراقى فى زمن صدام، والذى نشر فى مجلة آخر ساعة فى الثالث من اغسطس ١٩٨٨، حيث تقدمت بطلب الحوار بعد ٢٤ ساعة من إعلان إيران وقف إطلاق النار، وكانت المفاجأة تحديد الموعد بعد أقل من يومين، ليمثل الحوار المنشور فى مجلة أسبوعية، مادة تتناقلها وكالات الأنباء العالمية، باعتبارها أول موقف رسمى عراقى على هذا المستوي، تجاه قبول إيران قرار مجلس الأمن الدولي، ووقف إطلاق النار على صعيد العمليات العسكرية، والذى اعتبره المسئول العراقى إجراء اضطراريا، متوقعا الغدر منهم، باعتبارهم أصحاب مشروع خاص بتصدير الثورة بقوة السلاح، معربا عن استعداد بلاده لتوقيع اتفاقية سلام مع الجانب الإيرانى، ونفى يومها كل التقارير التى تحدثت عن الصواريخ طويلة المدى الشهيرة، الحسين والعباس ليست عراقية، بل تطوير لمثيلاتها روسية، وقال إن موسكو رفضت أساسًا فكرة الشراء مما دفعنا إلى التصنيع المحلى. 
وأذكر فى هذا المجال، أننا فى «الأخبار، الصحيفة المصرية الوحيدة التى استضافت على صفحاتها أكثر من حديث مع يوسف بن علوي، حيث التقيته فى القاهرة لهذا الغرض، وهو ثانى من تولى وزارة الخارجية فى سلطنة عمان، ويحتاج أى صحفى  للخروج بحديث معه ضرورة الإعداد الجيد، فهو  هادئ لا ينفعل أبدا، مهما كان جنوح السؤال، سريع البديهية، حاضر الفكرة، متقد الذكاء، مباشر واضح فى التعبير عن آرائه وأفكاره، ومن تلك النوعية الدكتور إبراهيم الجعفرى وزير خارجية العراق، وهو خليط بين المفكر والسياسي، وله إسهامات مهمة بعد سقوط نظام صدام حسين.
حوارات لم تكتمل
فى صندوق الذكريات، نماذج لحوارات لم تجد طريقها للنشر، والأسباب مختلفة منها مخالفة التعليمات، مثلما حدث فى ٢٧ نوفمبر ١٩٨١، فى الجلسة الأولى لمحاكمة قتلة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، حيث ظهر فى القفص لأول مرة، المتهمين العشرين فى القضية، خالد الإسلامبولى وعبود وطارق الزمر والشيخ عمر عبدالرحمن وغيرهم، ولعل الصورة الشهيرة للفنان الراحل مكرم جاد الكريم التى جمعت كل تفاصيل القاعة، تظهر حرصى الشديد على متابعة كل تفاصيل الجلسة، حيث أقوم بالكتابة باليد اليمني، وأرفع اليسرى بجهاز التسجيل، جنوح الشباب وحب المهنة، والرغبة فى التفرد هى من دفعتنى إلى الاقتراب من القفص، فى فترة الاستراحة لمحاولة تسجيل حوار سريع مع خالد الإسلامبولى، حول ظروف عملية الاغتيال، لم تستمر المحاولة سوى لحظات قليلة، حتى أحاط بى مجموعة من رجال الأمن فى القاعة، وبسرعة شديدة أخذوا جهاز التسجيل ونزعوا الشريط بداخله، عدت إلى مكانى محبطا، وفى اليوم التالى حاولت مع العميد يسرى كامل، وكان مديرًا لفرع الإعلام فى إدارة التوجيه المعنوى للقوات المسلحة، الحصول على الشريط، فابتسم قائلا «احمد ربنا لقد أنقذناك من تحويلك لمحاكمة عسكرية»، وكان حوارا لم ير النور. 
أحكام السياسة
على عكس ذلك، فقد كنت صاحب قرار عدم إتمام حوار سعيت إليه بنفسي، هذه المرة مع العقيد معمر القذافى فى ديسمبر ١٩٩٠، فبعد أن توثقت العلاقة بينى وبين أحمد قذاف الدم منسق العلاقات المصرية الليبية، بعد أن تعرفت عليه فى أول زيارة لى إلى ليبيا لتغطية مؤتمر صحفى للعقيد القذافي، لطرح مبادرة ليبية لإنهاء أزمة الغزو العراقى للكويت، بناء على طلب من ولى العهد الكويتى الشيخ سعد العبدالله، وأظن أنه كان فى  سبتمبر من العام نفسه، حيث طلبت من الأخ أحمد إجراء حوار مع العقيد القذافى، فرحب بالفكرة ووعدنى ببذل كافة جهوده، الموافقة جاءت فى نهاية ديسمبر ١٩٩٠، قبل بدء عملية تحرير الكويت بأيام قليلة، والتى بدأت كما هو معلن ليلة الخامس عشر من يناير، قلق داخلى دفعنى الى استشارة أحد كبار المسئولين فى مكتب الرئيس الراحل حسنى مبارك – لم أستأذنه فى ذكر اسمه متعه الله بالصحة وأطال فى عمره – وقد ربطتنى به علاقة صحفية، منذ أن أجريت معه الحوار الأول له فى «مجلة الحوادث اللبنانية الشهيرة» التى كانت تصد فى لندن، وأعيد نشره فى صحيفة الأحرار الحزبية الصادرة عن حزب الأحرار المعارض، أتذكر يومها  رد  المسئول قال لى (هل تريد رأيى كصديق أو مسئول) قلت (هما معًا) فقال (كصديق أقول لك إنك صحفى مجتهد، تمكنت من التوصل إلى تحديد موعد مع رئيس دولة، مهما كان المسمى، فتوكل على الله، أما كمسئول أقول لك، تمهل الظرف السياسى والجو العام فى المنطقة لا يسمح، فأنت ستكون مسئولا عن أسئلتك، ولكنك ستلتزم بإجابته، ولا أحد يجزم بطبيعتها تجاه عملية عاصفة الصحراء وهى على الأبواب) وقال (خيارات محدودة، إذا كان مضمون الحوار مخالفا للموقف العام، فلن تستطيع تغييرها، كما أنه من الصعوبة نشرها فى مجلة قومية) فهمت الرسالة، وتركز كل جهدى فى محاولة التملص من الموعد، مع صعوبة تأجيله، وهكذا ضاعت فرصة لحديث تاريخي، ندمت عليها ومازلت، ولكنها أحكام السياسة. 
وسيلة النشر                          
وتشير الوقائع إلى أنه أحيانا، تكون وسيلة النشر، وطبيعة المرحلة، أسبابًا مضافة إلى أهمية الحديث نموذجا لذلك، ما جرى فى زيارة لى لتونس الشقيقة فى سبتمبر عام ١٩٩٢، حيث تمكنت من إجراء العديد من الحوارات، مع رئيس البرلمان الحبيب بو لعراس، ووزير الخارجية الحبيب بن يحيي، وكذلك وزير الإعلام فتحى الهويدى، وأيضا على الشابى وزير الشئون الدينية، واختتمت الزيارة بحديث مع أبو عمار فى مكتبه بالعاصمة التونسية، والذى نشرته فى مجلة آخر ساعة، وكان مصدر اعتزازي، ولكن ظروفا لا أتذكر تفاصيلها، دفعت لنشر حديث الشابى فى صحيفة «الأخبار» وحظى باهتمام من الأستاذ الكبير جلال دويدار، فخصص له قرابة الصفحة الخامسة، وحفل الحوار بتفنيد أفكار الجماعات الإرهابية فى الدول العربية، والهجوم عليها، وكانت مصر تواجه أحد موجات المواجهات معها فى صعيد مصر، وفى نفس يوم النشر جمعنى احتفال مع عدد كبير من رموز المجتمع المصري، فكانت المفاجأة أن الكل يشيد بحوار الشابى، دون أى إشارة لحديث أبو عمار، الذى سبقه فى النشر فى مجلة آخر ساعة.
مقولة حائرة 
تعليقا على يوميات الشهر الماضى، «فلسطين وأنا قصة حب طويلة» جاءتنى تعليقات كثيرة، عبر البريد الإلكترونى ووسائل التواصل الاجتماعي، أكدت أن صاحب مقولة «مصر وطن يعيش فينا، وليس دولة نعيش فيها»، تعود الى الزعيم السياسى القدير مكرم عبيد وليس البابا شنوده، وبالبحث والتحرى، وجدت اختلافا شديدا حول المسألة، وإن كان الدكتور مصطفى الفقى من الذين أكدوا معلومة مكرم عبيد، ومهما كان الأمر فهى تعبير عن علاقة المصرى بوطنه.