يوميات الأخبار

الصياد وبنت الأعيان

عبد الصبور بدر
عبد الصبور بدر

لم أكن أعلم أنك بتلك القسوة التى تجعلك تخيطين قلبى ــ بدون مخدر ــ حتى يصبح ضيقا لايتسع إلا لك.

الأحد:


عادة-ربما تكون ضارة- أقوم بها حين أجلس فى مطعم أو «كوفى شوب»، أراقب من يجلس على الطاولات حولي، ليس فضولا فى معرفة ما يقومون به من أشياء، ولا تطفلا لسماع أحاديثهم الخاصة، ولكن لكى أتخيل القصة التى جمعت بينهم.


لست مهتما فى القصة التى أقوم بتأليفها إن كانت تتطابق مع الحقيقة، أو بعيدة كل البعد عنها، إنها فقط مجرد ترجمة لما يقومون به من حركات وانفعالات لملامحهم.


انتقدتنى زوجتى مرات عديدة على تلك العادة التى قد تتسبب فى إحراج من أمامى إذا شعر بأن هناك كأئنا يقوم بمراقبته، ولكنها فى النهاية، اقتنعت بمبرراتي، وأغرتها اللعبة، وظلت تشاركتنى فيها بحيوية.


القصة التى تقوم زوجتى بتأليفها للأبطال الذين نختارهم، تكون فى الغالب مختلفة عن قصتي، وهذا ما يجعل كل منا يستميت لإثبات مطابقة خياله للواقع.
بالأمس مثلا كان يجلس بالقرب منا-داخل المطعم-فتاة وشابا، فى العشرين من عمرهما تقريبا، الفتاة ظلت مشغولة بالتقاط «سيلفي» لنفسها، بينما كان يقتصر دور الفتى على مشاهدة الصور بعد أن تنتهى منها.


البنت تمتلك شعرا ناعما منسدلا على كتفيها، تقوم بإزاحته بأصابعها كل دقيقة تقريبا عندما ينزل على وجهها وهى تطالع شاشة الموبايل، بينما كان الشاب ينظر فى السماء دائما وكأنه على موعد مع سفينة فضائية قادمة.


قلت لزوجتي: «البنت مش طايقة الواد، واستعراضية بشكل مستفز، بدليل إنها ماتصورتش معاه ولا مرة، اللى بستغربله، إن تجاهلها ليه مش مضايقه، وبيتعامل عادي، وكأنه قاعد لوحده، والأغرب إنها ما بتكلموش ولا كلمة».


وأضفت: «الولد والبنت، فى حالة تعارف، تقدم لها عن طريق الصالونات، وهى بتجيب آخره، عشان تطفشه بعد ما أجبروها تخرج معاه طبعا».
البنت طلبت «شوكليت كيك» والولد قهوة، هى أكلت فى صمت وكانت تتوقف بين الحين ولآخر لالتقاط سيلفى جديد، وهو احتسى فنجانه فى هدوء، وكلما شعر بأنها انتهت من صورة مد عينيه ليشاهدها دون أن يبدى رأيا.


قلت لزوجتي: «هى عايزة تثبتله إنها جميلة جدا، و1000 مين يتمناها غيره، عشان يحل عنها».


أما قصة زوجتى فكانت مختلفة كليا قالت: إن الولد والبنت كلاهما زملاء دراسة، وأن ما يحدث بينهما طبيعى جدا، لم يأتيا إلى هنا ليتبادلا عبارات الحب، هى فقط «خروجة» بيشموا فيها هوا».


انشغلت بموضوع آخر مع زوجتي، وحين التفت من برج المراقبة، وجدت أن الفتاة تجلس وحيدة، وعامل المطعم يقدم لها الفاتورة، سألت زوجتي: «ما الذى حدث؟.. أين ذهب أخينا؟». قالت لي: «ولا اعرف»، قلت لها: «وده كلام برضو، أكيد اتخانق معاها ومسح بيها الأرض قبل ما يمشي، ودبسها فى الفاتورة». قالت لي: «وليه ما تقولش إنه فى الحمام، وبعد شوية هيهل عليك».


وقد حدث فعلا، جاء الفتى أخيرا، وتحدث معها كلمات قليلة، يبدو أنه كان يلومها على دفع الحساب، أو هكذا اعتقدت.


عندما وقفت، ظهر الولد أقصر من البنت ببضعة سنتيمرات، سارا أمامنا، وتجاوزا السور الحديدى للنيل، ونزلا سويا، لتستكمل «الفولدر» أمام النهر.
تغيرت مهمة الولد قليلا، تمت ترقيته إلى مصور خاص، هى تثنى ذراعها وتضع كفها على وسطها، وهو يلتقط صورة، هى تميل حتى تنسدل خصلات شعرها على وجهها، وهو يلتقط صورة، هى تفرد ذراعيها وهو يلتقط صورة، وهكذا، وبعد أن شبعت من تلك العينة من الصور، طلبت منه أن ينضم إليها لتلتقط لهما صورة سويا (سيلفي).


لم يكن هذا بمثابة تغير كبير فى القصة، التطور الأكبر كان حين وضعت ذقنها على كتفه وهى تقف وراءه، وتلتقط صورة، لتبدأ بعدها سلسلة من اللقطات، تقرب وجهها من وجهه، أو تطلب منه أن يحتضنها، بينما كان يفعل المطلوب منه بكل أدب ودون إسراف.


كان الولد فى الحقيقة ماهرا فى تنفيذ التعليمات التى تلقيها عليه بكل دقة، ظهر كمانيكان فى فاترينة عرض، بينما أتقنت البنت دور عاملة المحل تحركه كيفما تشاء، دون أن تبدر منه حركة زائدة.


حزمة الصور الأخيرة نسفت القصتين، ما جعلنى أتوقع أن يقوم الولد بشىء مختلف، التصاعد الدرامى فى حاجة إلى مفاجأة، مثل أن يستغل الموقف ويخطف منها قبلة، ولقد صبرت عليه طويلا حتى يفعلها، ولكنه خيب ظنى فى النهاية.


عندما انتهى كلاهما من جلسة التصوير على النيل العظيم، غادرا المكان سويا بنفس الهدوء الذى كانا عليه، هى تسير أمامه، وهو يتبعها، وأنا وزوجتى نبحث لهما عن قصة ثالثة.


الإثنين:


كانت أرض الحاج «فلت» بعيدة عن العمران، تغرى الحرامية بسرقة محصولها دائما، والعجيب أن ذلك كان يحدث تحت إشرافه الكامل وفى وجود ولده عادل، فقد كان الرجل كلما شاهد شخصا على وشك الدخول إلى الغيط، يأخذ ابنه ويختبئان بعيدا حتى لا يشاهدهما فيشعر بالحرج، ويتوقف عن آداء المهمة، وكان الحرامى من دول يأخذ اللى يكفيه سواء كان ذلك ذره، أو برسيم، أو باذنجان، أو طماطم، على حسب الخضار المزروع.


عندما مات «أبوعادل» شاهدنا فى الجنازة كل هؤلاء اللصوص يبكون بحرقة ويقطعون أنفسهم من العياط، وشابا منهم مزق جلابيته حزنا عليه، وبجانبه امرأة طاعنة فى السن، لطخت رأسها ووجهها بالطين، وهى تصرخ، وتولول، وتقول للناس: «كنا عايشين فى خيره.. أنا وعيالى وبهايمي.. كان لما يشوفنى داخله أسرق يدارى وأنا شايفاااااااه.. يا مرارى على حلاه!


الثلاثاء:


منذ سنوات كتبت قصة قصيرة عن ابن صياد أرسله والده إلى أحد الأعيان بسمكة كبيرة اصطادها من النهر خصيصا من أجله، كان الطريق إلى فيلا الرجل الغنى ملىء بالأوحال، والسماء لم تكف عن المطر فى صباح ذلك اليوم الشتوى البارد، والولد الصغير لا يرتدى إلا ملابس خفيفة تضاعف إحساسه بالبرد.
عندما وصل الولد إلى سور البيت كان يرتعد تحت جلابيته الكستور، ولكنه بمجرد أن شاهد بنت البيه تفتح له الباب شعر بالدفء يسرى فى أطرافه، كانت البنت فى مثل سنه تقريبا، وتبتسم فى وجهه لسبب لا يعرفه.


لم أكمل كتابة القصة، ونسيت أمرها تماما، حتى عثرت على أوراقها بعد سنوات طويلة، وفوجئت بالولد المفعوص صار شابا بطول وعرض، شاهدته يجلس بجانب البنت صاحبة الابتسامة الحلوة على مائدة واحدة فى «كافيه»، وجدت ملامحها تغيرت وجسدها امتلأ بالأنوثة لكن ابتسامتها ظلت بريئة على حالها.


متى حدث ذلك؟.. وكيف؟!


عاتبنى الولد على إهمالى الشديد وعدم تحملى مسئولية استكمال القصة، قال لي: إنه لم يدر ماذا يصنع وهو يجد نفسه مصلوبا أمام الباب المفتوح لا يحرك ساكنا والبنت تقف أمامه كتمثال من الشمع، كليهما انتظرنى طويلا لأدير مجرى الأحداث ولكنى «نفضت» لهما.
قال الولد: كان علينا أن نتحرك فالزمن يمضى وأنت متوقف.


الأربعاء:


أنهيت الوجبة السريعة لكنى لم أستطع استكمال كوب المياه الغازية، وحين هممت بمغادرة المحل طلبت منى زميلتى ألا أترك الكوب وأحمله معي.. قلت لها: إن معدتى ممتلئة ولن تتقبل نقطة إضافية، فقالت لي: فى الخارج سوف تجد من يحتاج إليه!.


ترددت أن أفعل ذلك، لاعتقادى أن الصدقة يجب أن تكون من أفضل الأشياء فقط، وليس أبدا من البواقي، ولكنى حملت الكوب بين يدى بعد إلحاحها.
قطعنا مسافة من وسط البلد إلى التحرير، لم أجد فيها ذلك المحتاج الذى تنبأت بوجوده، فاتخذت قرارى أن ألقى بالكوب فى أقرب سلة مهملات، وحين شاهدتنى على وشك أن أرميه، نهرتني، وهى تقول لى إن صاحبه ينتظرني!


وصلنا ميدان عبد المنعم رياض، وبجانب موقف السيارات، شاهدت من بعيد مسنّة تجلس على الأرض فرغت للتو من تناول غذائها (طعمية ومخلل)، وفى اللحظة التى أصبحت فيها أمامها، مسحت فمهما بكم جلابيتها السوداء، ومدت يدها وهى تصنع بأصابعها دائرة فارغة دون أن تنظر إليّ، وكأنها على يقين أن هناك من سيضع فى يدها كوب «الحاجة الساقعة» فى اللحظة نفسها.


تجاهلتنى وأنا ألبى طلبها، وشربت من الكوب بنهم شديد.. أعطيتها ظهرى وأنا أقول لزميلتي: «الست دى حسستنى إنى شغال عندها.. لا شكرتني، ولا قالت لى دعوة حلوة».. فقالت لى زميلتي: «لأ.. إنت شغال عند ربنا.. هو اللى بعتك ليها.. وأجرتك هتاخدها منه.. هى عارفه كده».
الخميس:


قلت لصاحب البقالة وأنا أشير على أحد العمال: السبب الذى يجعلنى أشترى منكم دائما هو ذلك الشاب.. الابتسامة لا تفارق وجهه أبدا.. ضحك وهو يقول لي: أصل حضرتك مش فاهم.. الواد ده عبيط!


ختامها أنت


كنت أظن أن التجارب منحتنى الحذر الشديد، والتفكير المتأنى قبل الدخول فى معركة جديدة لا أمتلك سلاحا لحسمها، حتى وجدتنى أقع فى غرامك، ومقيدا فى هواك، وأسيرا مكبلا بالعشق، لا حيلة تنقذنى من الغرق فى بحور عينيك، ولا شواطئ تهدينى أملا فى الرجوع، ولا أحد باستطاعته أن يمد يده فيخلصنى من سجن الحب.. لم أكن أعلم أنك بتلك القسوة التى تجعلك تخيطين قلبى-بدون مخدر-حتى يصبح ضيقا لا يتسع إلا لك.