كتب : جرجس شكرى
النيل هذا النهر العظيم الذى ارتبط بحياة المصريين، على الرغم من أنه واقع يراه الناس ويعيشون حوله، إلا أنه على مر العصور له النصيب الأكبر من الخيال، فقدسه المصريون الأوائل وعبده الفراعنة وصلّوا وصاموا من أجله وابتهلوا فى المعابد وقدموا له الذبائح من العذارى، وراح عقل الجماعة ينسج الحكايات والأساطير حول واهب الحياة للمصريين، فالفيضان ماهو إلا دموع إيزيس على زوجها أوزوريس، وكان يقال للفلاح المصرى فى المعبد ان فرعون يأمر النيل بالارتفاع فيطيعه النيل وكان الفلاح يستمع إلى الكاهن يبتهل الى النيل بنشيد بالغ القدم منقول من على جدران طيبة، السلام عليك أيها النيل الذى يخرج من الأرض ليغذى مصري، والذى يخرج من الظلمات الى النور. لقد خلقك رع لتطعم الناس، وكانوا يستعطفونه متضرعين : إذا جاء فيضان قدمنا الضحايا إليك وذبحنا بقرا وأوزاً، وذكر هيرودوت حكايات عديدة حول الفيضان الذى يستمر مائة يوم مابين الخرافة والواقع، حكايات لعب فيها الخيال دور البطولة، وأجمع الباحثون على أن التناغم الطبيعى للبيئة بما يشمله من دورة الشمس وارتفاع وانخفاض منسوب نهر النيل، والدورة الزراعية الموسيمية بمثابة الفكرة الاساسية فى المعتقدات المصرية القديمة، ويتفق الباحثون أيضاً على انه أهم ظاهرة جغرافية فى الحياة اليومية للمصريين القدماء، فكان لنهر النيل النصيب الأكبر فى الحضارة المصرية.
وعلى الرغم من أن النيل ظاهرة جغرافية تناولها الباحثون من خلال آلاف الدراسات وكتب المؤرخون مئات كتب إلا أن الخيال كما ذكرت له الكلمة العليا فى حياة نهر النيل وظنى أن ما يعرفه الناس عن نهر النيل من أساطير وخرافات وحكايات غرائبية وما يحفظونه من أشعار وما يهمسون به من أغانى أكثر بكثير من المعلومات التاريخية والجغرافية والعلمية، فالنيل كائن أسطورى رغم واقعيته الملموسة، فلجأ إليه الشعراء وصنّاع الخيال عبر العصور منذ كهنة الفراعنة الذين وضعوا التراتيل التى تمجد هذا النهر المقدس وصولاً إلى شعراء العصر الحديث فى القرن العشرين ومرورا بمراحل عديدة فى تاريخ مصر، ولكن ستظل قصيدة أحمد شوقيب أيها النيل االقصيدة التى لو تكلم النيل لفاض وأغرق الضفتين فرحاً وسروراً بكلمات أمير الشعراء (دِيـنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ / لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـنْ يَقُـوتُ ويَـرزُقُ؟ / لـو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن / لِسواكَ مَرْتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخْـلُقُ) فكان شوقى مثل أجداده الفراعنة يرى أن النهر واهب الحياة للمصرين جدير بالعبادة، وإذا عدنا إلى القصائد الاولى التى كتبها العرب فى النيل سواء فى بداية عهدهم بمصر أو فى عصور لاحقة مثل العصر الفاطمى ثم اثناء حكم المماليك سنجد أنها تعبّر عن الدهشة ويغلب عليها الطابع الوصفى وثمة مقارنة دائمة بين النيل والحاكم،الملك، الوالي، السلطان،الخليفة، فكان النيل بعيون عربية صواًر شعرية تشى بالدهشة، أو قل صدمة القادم من الصحراء إلى الوادى الخصيب، فإذا أرادوا مدح شخص ما ومنحه صفة الكريم قالوا أنه أكرم من النيل فكتب ميمون ابن قيس المعروف بالأعشى مادحاً قيس بن معد يكرب ( ما النيل أصبح زاخراًمن مده / جادت له ريح الصبا فجرى لها / زبداً ببال يسقى أهلها / وغدا تفجره النبيط خلالها / يوما بأجود نائلاًمنه إذا / نفس البخيل تجهمت لسؤالها ) وحين زار أبو نواس مصر راح يشبه ممدوحه بالنيل أيضاً اأنت الخصيب وهذه مصر، فتدفقا فكلاكما بحرب ويذكر حمدى المناوى فى كتاب النيل فى المكتبة العربية شاعراً اسمه نصيب بن رباح يمدح والى مصر عبد العزيز بن مروان فيصفه بأنه النيل ا فبشر أهل مصر فقد أتاهم مع النيل الذى فى مصر نيلب فنظر العرب الأوائل الذين هبطوا مصر إلى النيل كما يصفون الخيل والليل، والبيداء ومفردات البادية، حتى العصر الفاطمى ظلت هذه النظر حيث يصف أحدهم السلطان اوكيف لا تفخر مصر وفى أرجائها السلطان والنيل وسوف تختلف النظرة وتتبدل الصفات مع الشعراء المصريين الذى عاشوا على ضفاف النيل، وهاهو جمال الدين بن نباتة المصرى يقول ا قسماً ما حلت من عهد الوفاء، بعد مصر ولا نيل مصر بكائى / حبها تحتى وفوقى ويمنى وشمالى وأمامى وورائىس ليختفى الوصف التقليدى والتشبيهات المتعارف عليها، فقط يجسد الشاعر من خلال هذه الكلمات محبته وشوقه وحنينه لمصر والنيل، وبعد ما يقرب من عشرة قرون يحن البارودى وهو فى جزيرة سرنديب إلى مصر مثلما اشتاق بن نباتة من قبل ويقول اليت شعرى متى أرى روضة المنيل ذات النخيل والأعناب / حيث تجرى السفين مستبقات فوق نهر مثل اللجين المذاب التبدأ مرحلة جديدة بين النيل والشعراء حيث تأثير البيئة المصرية ومع حافظ إبراهيم الملقب بشاعر النيل يعود النيل الذى قدسه الفراعنة وعبدوه فقد ذكره فى أكثر من مائة بيت فى الرثاء والمديح، فى الفرح والحزن، فى السياسة والغزل، فى كل شيء كان النيل حاضراُ لا يغيب عن مخيلة حافظ إبراهيم فهو القوة الفاعلة التى تحرك المشاعر والوقائع والأحداث، بل وكل مفردات الحياة، فحين يمدح الخديوى عباس حلمى الثانى يخبره بأن النيل كان يتألم ويبكى إلى أن أنعم عليه الخديوى ا قد كان يشكو ضياعاً مذ جرى طلقاً حتى أقمت له خزان أسوان ا أما سعيد باشا رئيس وزارء مصر فيخاطبه ا فيك السعيدان الذان تباريا يا مصر فى الخيرات والبركات / نيل يفيض على سهولك رحمة وفتى يقيل غوائل العثرات ا، وحتى الغزل لا ينجو من النيل فيصف حبيبته ا ماكان سهلاً أن يروا نيلها ا وحين مات سعد زغلول كان النيل حاضرا ا وسها النيل عن سراه ذهولا حين ألقى الجميع تبكى انتحاباًس وفى رثاء محمد فريد يسأل النيل أن يكون مدادا له إذا الدمع نفد، وفى رئاء مصطفى كامل سيجرى النيل دماً أحمرا، وإذا ارتفعت الأسعار يخاطب النيل، وإذا آراد أن يدعم مشروع الجامعة المصرية سيكون النيل حاضراً أيضاً ا ومن يروض مياه النيل إن جمحت وأنذرت مصر يالويلات والحرب وهكذا النيل شريك أساسى فى كل تفاصيل الحياة اليومية فى مصر، فلا حياة بغير النيل مع حافظ إبراهيم وصولاً إلى حسن طلب الذى كتب ديواناً كاملاً عنوانه ا لا نيل إلا النيل
ماسبق إطلالة سريعة على شذرات مما كتبه الشعراء فى محبة النيل قديما وحديثاً، وهى نصوص غير متدولة على المستوى الشعبي، فما يعرفه الجمهور ويحفظه القصائدة المغناة سواء الفصحى أو العامية، وهناك العديد من القصائد التى أصبحت جزءاً من الوجدان المصرى. يحظى أحمد شوقى وبيرم التونسى ومحمود حسن إسماعيل وأمين عزت الهجين بالنصيب الأكبر منها، وفى مقدمة هذه النصوص قصيدة النيل لأمير الشعراء التى غنتها أم كلثوم ولحنها رياض السنباطى، وهى أقرب إلى ملحمة درامية صاغها أحمد شوقى شعراً وجسّد من خلالها حياة نهر النيل، المنبع والمصب وعروس النيل والفراعنة ا فـى كـلِّ عــامٍ دُرَّةٌ تُلْقَـى بِـلا ثمـنٍ إِليــكَ، وحُــرَّةٌ لا تُصْـدَق/ حَــوْلٌ تُســائِل فيـه كـلّ نجيبـةٍ سَـبقتْ إِليـكَ: متـى يحـولُ فتَلْحقُ؟/ والمجـدُ عنــد الغانيــاتِ رَغيبـةٌ يُبْغَـى كمـا يُبْغَـى الجمـالُ ويُعْشَـق ا ثم كتب قصيدة بالعامية ليغنيها عبد الوهاب ا النيل نجاشى - حليوة واسمر / عجب للونه/ دهب ومرمر/ أرغوله فى إيده / يسبِّح لِسيده / حياة بلادناس ليصف نزهة نيلية، وكأنها حوارية مسرحية من مجموعة شخصيات تدير حواراً مع النيل.أما محمود حسن اسماعيل الذى وضع قصيدة النهر الخالد والتى خلدها محمد عبد الوهاب بصوته وألحانه امسافرٌ زاده الخيالُ والسحر والعطر والظلال / ظمآن والكأس فى يديه والحب والفن والجمال / شابت على أرضه الليالى وضيعت عمرها الجبال / ولم يزل ينشدُ الديارَا ويسأل الليل والنهارَ ا / والناس فى حبه سكارى هاموا على شطه الرحيبِ ا أما قصيدته الأخرى التى كتبها أثناء العدوان الثلاثى ا أنا النيل مقبرة الغزاةس غناء نجاح يلام وألحان رياض السنباطى فكانت رسالة إلى الدولة المعتدية على لسان النيل الذى وجده محمود حسن إسماعيل سنداً ومعيناً وداعما للمصرين فى هذه المحنة
االمجموعة : أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاةْ أنا الشعبُ ناريْ تُبيدُ الطغاةْ
أنا الموتُ فىْ كلِّ شبرٍ إذاعَدوُّكِ يا مصرُ لاحَتْ خُطاهْ
منفرد : يدُ اللهِ فىْ يدِنا أجمعينْ تصبُّ الهلاكَ على المعتدينْ
فشقوا إليهمْ جحيمَ الفناءِ أسوداً كواسرَ تحميْ العرينْ
منفرد : سنمضيْ لهمْ فىْ لهيبِ الشَررْ ونزحفُ للنصرِ زحفَ القدرْ
ونغشى المعاركَ من كلِّ فجّ ونثبتُ حتى نلاقيْ الظفَرْ
ومنْ كلِّ بيتٍ ومنْ كلِّ شبرٍ لظى الموتِ يخرجُ منْ كلِّ صدرْ
على كلِّ باغٍ نسوقُ الحِمامَ لنحميْ تُرابكِ يا ارضَ مصرْب
ورغم أن الأغنية غير مشهرة إلا أنها تجسد علاقة المصريين بنهر النيل الذى لجأ إليه الشاعر ليدافع ويحارب فى صفوف الشعب.
وفى افتتاح الجامعة المصرية لجأ أحمد رامى إلى النيل وهو يخاطب الشباب ا يا شباب النيل يا عماد الجيل / هذه مصر تناديكم فلبو ا دعوة الداعى الى القصد النبيلب واستمع إليها الشباب بصوت أم كلثوم من خلال ألحان رياض السنباطى صاحب النصيب الأكبر مع عبد الوهاب فى موسيقى النيل.
والنيل فى وجدان المصرى ليس فقط النهر المقدس، وليس فقط المدافع والحارس للهوية، ولكن ثمة ملمحاً آخر يحتل الجزء الأكبر فى قلوب المصريين وهو الحب، فالنيل ليس العذول بل هو راعى العشاق وملجأهم وقد كتب أمين عزت الهجين واحدة من أجمل أغانى عبد الوهاب ا إمتى الزمان يسمح ياجميل/ وأسهر معاك على شط النيل / الجو كله سكون والورد نام عالغصون/ والقمر طالل علينا والعذول غاب عن عينينا / وأنا والجميل قاعدين سوا قاعدين سوا / قاعدين سوا على شط النيل
وعاد بيرم التونسى إلى نهج أسلافه وتذكر النيل فى منفاه وخاطبه فى حنينه إلى مصر اعطشان يا صبايا / عطشان يا مصريين / عطشان والنيل فى بلادكم/ متعكر مليان طين /ولا نهر الرون يروينى ولا مية نهر السينب وحين عاد كتب واحدة من أجمل الغزليات وهى شمس الأصيل اشمس الأصيل دهبّت خوص النخيل يا نيل/ تحفة ومتصورة / فى صفحتك يا جميل لوالناى على الشط غنى والقدود بتميل على هبوب الهوا لما يمر عليل / يا نيل أنا واللى احبه نشبهك بصفاك لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك وصفونا فى المحبةهو هو صفاك ما لناش لا احنا ولا انت فى الحلاوة مثيل.
أحمد رامى
والشذرات السايقة ماهى إلا أمثلة محدودة مما كتبه الشعراء العرب والمصريين فى محبة النيل والتى لا تؤكد فقط على عظمة هذا النهر الذى قدسه المصريون وأنشدوا له التر اتيل فى المعابد لكن أيضاً على ارتباطه العميق بحياة المصريين بكل تفاصيلها بدء من لقاء الحبيب فى ظلال النيل ووصولاً إلى اللجوء إليه فى أوقات الشدة التى يمر بها الوطن ومروراً بكل تفاصيل حياتهم اليومية .
المصدر : جريدة أخبار الادب