«البشـعـــــة»

وصلت «القاهرة»

البشعة
البشعة

كتبت: إثار حمدى

على جدران الأسوار فى شوارع القاهرة تنتشر أرقام "المبشعين"، ما جعلنا نستطيع الوصول إلى أحدهم بسهولة لفهم طبيعة عمله، وأسرار مهنته، وأغرب القضايا التى استخدم فيها البشعة، والطريقة التى يحمى بها نفسه فى حالة إصابة أحدهم، بجانب العديد من الأسئلة التى أجاب عنها بسهولة، فى الوقت الذى تواصلنا فيه مع خبراء أمن، وعلوم جنائية، وعلم اجتماع من أجل مناقشة الظاهرة.
من مركز ملوى بمحافظة المنيا يشد خليفة أبو عسل الرحال كل حين وآخر إلى القاهرة من أجل عقد جلسات عرفية بين أطراف متخاصمة، بعد أن ذاع صيته منذ سنوات عديدة فى "التبشيع".


فى عزبة النصر على الأوتوستراد يستأجر أبو عسل شقة صغيرة بالدور الرابع، الصعود إليها نوع من المخاطرة لأن سلم البيت مظلم وبدون درابزين والوقوع منه وارد مع كل درجة، داخل تلك الشقة يعقد خليفة جلسات التبشيع.
يزعم خليفة أبو عسل أن البشعة أصلها فرعونى، ويقول إنه يتلو آيات قرآنية معينة وبعض الأحزاب الصوفية على البشعة (الحديدة) قبل استخدامها، وفى المقابل يقوم المبشع المسيحى بقراءة آيات من الإنجيل، مؤكدا انتشار البشعة فى أزمنة ماضية نتيجة عدم وجود قانون بالمعنى المتعارف عليه حاليا، فكانت الحكم، واندثرت فى القرن العشرين بعدما وجدت الشرطة المدنية والقانون.
ويقول خليفة: إن البشعة عبارة عن أداة مصنوعة من الحديد الخالص سمكها 5 مللي، يجب ألا تزيد ولا تقل عن ذلك، حتى تتناسب مع كثافة النار، ولا تتسبب فى جرح كبير للشخص الذى يتم تبشيعه، ويتم مسح اللسان بها ثلاث مرات، حيث يتم تسخين الحديدة فى درجة حرارة عالية، ثم يتلو عليها آيات قرآنية محددة، وتوضع على اللسان بطريقة معينة.
ويضيف: "سر البشعة يكمن فيما يقرأ عليها من آيات قرآنية، والذى يصبح حاجزا بين الشخص البريء والنار، لتؤذى المذنب"، نافيًا بشدة ما يتردد عن أن المبشع يستعين بالجن، قائلًا: "أثناء قيامى بعمل البشعة أطلب ممن حولى قراءة ما يريدون من آيات قرآنية تصرف الجن والسحر لقطع الشك باليقين".


وعن سر انتشار البشعة فى المناطق البدوية، قال لإن البدو بطبيعتهم وحتى فترة قريبة لم يكونوا يحتكمون للقانون، ولم يكن لديهم شهادات ميلاد أو بطاقات شخصية، والبشعة هى التى تحكم بينهم فى الجلسات العرفية، وإذا حدث أى شك فى حوادث السرقات والقتل وغيرها يلجأون للبشعة، وفى الصعيد كذلك تعتبر البشعة إحدى أدوات الصلح، وفى بعض حالات  تقديم الكفن لابد من التعرض للبشعة للتأكد مما إذا كان الشخص قام بالقتل فعليا أم لا، فمن الممكن أن يتهم شخص بالقتل وهو بريء.
أضاف: "الشخص المذنب بعد الإصابة غالبًا يذهب للمستشفى ويتلقى العلاج، والإصابة لا تكون خطيرة لأننى أنفذها بسرعة حتى لا تؤذيه بشكل مبالغ فيه، ويستغرق علاجه ما بين أسبوع أو أسبوعين وحتى شهر ونصف، حسب درجة الإصابة"، لافتًا إلى أن البشعة تنفع الكثير من المواطنين فى الاستبيان وكشف الحقائق فنحن جهة استبيان فقط، وتساعد المجتمع فى إظهار الحقيقة، وتحل الكثير من المشكلات قبل وصولها لقسم الشرطة، فليس الغرض من البشعة جمع الأموال كما يظن البعض.
ويحكى عن آخر حالة تبشيع قام بها قائلًا: "منذ أسبوع اتصل بى شخص من الجيزة، يبكى، وهو يقول إن زوجته أخبرته أن شقيقه (إمام مسجد) تعدى عليها منذ 4 سنوات، وقبل أن يستكمل: قلت له أن زوجته كاذبة، فلماذا انتظرت كل تلك الفترة، لابد أن هناك سببا جعلها تلفق الاتهام لشقيقك، وطلبت منه أن يجعلها تستعد للبشعة بشرط وجود والدها وشقيقها حتى لا يتهمونى بأننى تسببت لها فى عاهة مستديمة، وبعد فترة اتصل بى الرجل مرة أخرى ليؤكد أن زوجته كاذبة وافترت على شقيقه بعد أن  اكتشف أنها على علاقة بأحد الجيران وحذرها من الاستمرار فى العلاقة، فخافت أن يخبر زوجها وفبركت له تلك القصة".
واصل: "من يأتى للبشعة يجب أن يكون راضيا ومقتنعا، ويوقع على إقرار بأنه مسئول عن أى ضرر قد يلحق به نتيجة للبشعة"، لافتًا إلى أن البشعة تطورت عن الماضى فى درجة الإصابة.. ففى الماضى كانت بالغة، تلتهم الشفتين تماما لتصبح الأسنان ظاهرة، لذلك أطلق عليها اسم البشعة نظرا لبشاعة منظر المصاب بالحروق، وكانوا قديما يقومون بها بعنف، أما الآن فالوضع اختلف لحد كبير.
وعن المساءلة القانونية، يقول خليفة: "على طول الطريق الدائرى وطريق الأوتوستراد أرقامى مدونة على الحوائط، وكذلك فى المنيا، ومن يذهب للإبلاغ عنى لأننى أبشع الناس، سيكون ردهم عليه لا يوجد جريمة بلا قانون لأنه غير متضرر.. كما لا يوجد قانون يمنع الجلسات العرفية والبشعة جزء منها، ولكن يجوز له أن يبلغ عنى إذا سببت له إصابة بالغة ولا أمتلك سندا قانونيا (إقرار يوقع عليه) يعفينى من المسئولية"، مُطالبًا بأن يصبح للبشعة تراخيص، لافتًا إلى أنه يحل 10 قضايا كل شهر تقريبًا على مدار 25 عامًا، وفى القاهرة هذا العام أصيب 3 أشخاص، وفى المنيا أكثر، بسبب العند والكذب لأننى أقول للشخص أنت مذنب ويصمم على أنه بريء فنضطر لتبشيعه فيصاب.
وعن علاقته بالشرطة، قال: "بيننا قانون غير مكتوب وعرف غير معلوم، فعملى أحيانا يكون بعد انتهاء الشرطة من عملها، وأحيانا يكون قبل وصولها، وقضايا الخيانة الزوجية أغلبها تأتى للبشعة قبل الشرطة فنقوم بعملية المصالحة، وبذلك نكون خففنا الحمل عن الشرطة".
أضاف، أن البشعة تنتشر فى شمال وجنوب سيناء، والإسماعيلية وخاصة سرابيوم، ولكنها مثل أى مهنة تسلل اليها النصابون والمحتالون والمستغلون وعديمو الضمير، مُشيرًا إلى أنه من الممكن ألا يصاب الشخص وهو مذنب، وذلك عندما يتلاعب بالقسم فمن الممكن أن يقول والله ما سرقت وبصوت منخفض لا يسمع يقول "اليوم" فهو بالفعل لم يسرق فى ذلك اليوم فلا يُصاب، أو يقول والله ما سرقت أموالًا وهو فى الحقيقة سارق سلاح أو أى شىء آخر، لذلك لابد أن يكون كل شىء محددا من البداية.
من جانبه، ينفى اللواء الدكتور عبد اللطيف البدينى مساعد وزير الداخلية الأسبق عن البشعة تهمة النصب، لافتا إلى أنها أحد المظاهر القبلية القديمة، وتتمثل فى تعريض المتهم بارتكاب شيء معين للسعة من النار ومن تصيبه يكون مرتكب الفعل والعكس صحيح.
ويحذر من وقوع المبشع فى قبضة القانون إذا ما قدم ضده بلاغ من شخص أصيب بعاهة أو جرح شديد، خاصة أن الإقرار لن يحميه، بل يثبت أنه يتحمل المسئولية، لأن الاتفاق فى الأساس غير صحيح وغير قانونى، مشيرا إلى أن البشعة لا يتم التعامل معها على أنها من أعمال الدجل أو السحر ولكنها جزء من الجلسات العرفية.
ويؤكد اللواء عبد اللطيف أن الجلسات العرفية تقلل العبء عن الداخلية بشكل كبير، لكن البشعة لا تحل أى شيء فهى ليست إلا وسيلة يلجأ إليها الجهلة وليس بالضرورة أن يكون الجاهل غير المتعلم، ويعتقد أن مثل هذه الأفعال فى طريقها للاضمحلال وسوف تنتهى، ويرى أن تركهم يكتبون أرقام هواتفهم على الحوائط والأسوار فى الشوارع  تقصير من المحليات.
ويشبه اللواء رفعت عبد الحميد خبير العلوم الجنائية البشعة بمصل الاعتراف الذى كان يعطيه القاضى الفرنسى للمتهم، وحين اعترض المحامون قال لهم سأعطيه بناء على رغبة المتهم.
ويقول: اقتناع البعض بالبشعة مثل ذهاب السيدات للدجالين لعمل سحر وأحجبة وأعمال، فهناك الكثير من البشر لا يزالون مقتنعين بمثل هذه الأشياء، ولكن المسألة مرفوضة شكلا وموضوعا خاصة أننا نمتلك برلمانا وتشريعات وثوابا وعقابا.
وتقول الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع أن البشعة تأتى ضمن الأحكام العرفية التى ينفذها البدو، وهى إجراء تمارسه المجتمعات ذات الطابع البدائى والقروي، بينما القانون ألغى الاحتياج لها، وتأسف لوجود ما نطلق عليه جيوب حضارية، وهى مناطق سقطت من التحضر وينتشر فيها مثل هذه الأفعال، والداخلية هى الوحيدة المسئولة عن مثل هذه الممارسات، فنحن نعيش فى بلد محكوم بقانون ودستور، وما يحدث هو ترويج لمزيد من الشعوذة.
يبقى أن نقول إن دار الإفتاء قد أكدت أن البشعة ليس لها أصل فى الشرع فى إثبات التهم أو معرفة فاعلها، والتعامل بها حرام ولا يجوز شرعا.

المصدر: مجلة آخر ساعه