«يوليو» والأدب .. علاقة ملتبسة

علاقة ملتبسة
علاقة ملتبسة

كتب: حسن حافظ

تعد ثورة 23 يوليو 1952، أكثر الثورات المصرية حظاً فى عملية تسجيلها وتفاعل الأدباء معها وتخليد أحداثها ومتابعة ما تركته من أثر وتأثير فى المجتمع المصري، فضلاً عن نقد التجربة وتسجيل انحرافات التجربة والتى دفعت البعض للتحذير من هزيمة تلوح فى الأفق قبل نكسة 1967، ويعود ذلك فى جزء منه إلى أن ثورة يوليو واكبت طفرة فى كتابة الرواية والقصة القصيرة فى مصر، ففى لحظة قيام الثورة كانت الرواية قد اكتملت فنيا وأصبحت محل احترام وتقدير وإقبال الجمهور والنقاد على حد سواء، واحتلت مكانة مرموقة فى الآداب المصرية.
وقد وفرت الرواية مساحة مناسبة للمبدع الراغب فى تحليل حجم التغيرات التى أحدثتها الثورة فى بنية المجتمع المصرى الذى تغير من عصر الملكية والاحتلال البريطانى إلى عصر الجمهورية والحكم الوطني، فأصبحت الرواية هى ديوان ثورة يوليو، ففى كل محطة للثورة ونظامها السياسى الذى أقامه جمال عبدالناصر كانت الرواية حاضرة بقوة.
تعود علاقة "23 يوليو" بالرواية لما قبل الثورة بسنوات طويلة، عندما قرأ عبدالناصر رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، والتى نشرت عام 1933، أى وعبدالناصر فى الخامسة عشرة من عمره، وقد تأثر الفتى جمال بالرواية أيما تأثير، فقد استلهم فكرة عودة الروح لمصر بعد قرون من الضياع، ليرى إمكانية أن ينفذ هو هذه العودة ويقود مصر لكى تعود لممارسة دورها الحضاري، لذا عندما نجح تنظيم الضباط الأحرار فى الإطاحة بالنظام الملكى وإنهاء الاحتلال البريطانى بعد ثورة 23 يوليو، أصبح توفيق الحكيم محل تقدير دولة يوليو، بينما تفاعل الحكيم مع الثورة فألف مسرحية "الصفقة" 1956، والتى ركزت على كفاح الفلاحين للحصول على الأراضى التى سيطر عليها الإقطاعيون لعقود، ومسرحية "الأيدى الناعمة" 1959، التى تحولت لفيلم شهير، وتتحدث المسرحية على قيمة العمل وتوجيه نقد ساخر وعميق لقيم طبقة الأرستقراطية التى دخلت فى عداء مع نظام العدالة الاجتماعية للطبقات الفقيرة والذى تبناه نظام 23 يوليو.


لكن توفيق الحكيم عندما وجد بعض الانحرافات فى ثورة يوليو، عاد ووجه انتقادات للانحرافات ودعا عبر صفحات الأدب للعودة للنهج الصحيح، فكتب مسرحية "السلطان الحائر" 1960، التى يتحدث فيها عن حيرة الحاكم بين الديمقراطية والقانون وبين القوة الغاشمة، وقد استغل الإسقاطات السياسية فى المسرحية ليوجه انتقادات لنظام عبدالناصر، كما كتب "بنك القلق" 1966، التى اختار لها شكل الرواية المسرحية أو المسرواية كما أطلق عليها الحكيم، والتى وجه من خلالها نقداً لاذعاً للتدخلات الأمنية ما أدى لانتشار شعور بالقلق لدى المواطنين، وقد أثار نشر النص على صفحات "الأهرام" انتقادات من البعض بقيادة عبدالحكيم عامر، ما أدى لتدخل شخصى من عبدالناصر لاستمرار نشر حلقات "بنك القلق"، وهى واقعة ذكرها محمد حسنين هيكل فى كتابه "وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكي".
العلاقة الملتبسة بثورة يوليو، تكررت مع نجيب محفوظ، فالرجل الذى حقق مجده الأدبى بعمله الاستثنائى الأشهر "الثلاثية" التى نشرت بين عامى 1956 و1957، ثم عاش فترة انتظار وتمهل يتابع ما يجري، بدأ فى تشجيع قرارات الثورة الاجتماعية والإصلاح الزراعى وتحقيق الاستقلال التام، لكنه بحسب شهادته التى سجلها رجاء النقاش فى كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، يلخص موقفه من الثورة قائلاً: "كانت علاقتى الوجدانية بالثورة تنقسم ما بين التأييد والحب من جهة، والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية وللوفد... ولم أتغاضَ عن هذه الانتقادات من جانبى للثورة، إلا فى فترة محدودة، وهى فترة العدوان الثلاثى على مصر". وشدّد على أن انتقاداته لثورة يوليو فى كتاباته لم تكن موجهة ضد النظام، "بل كنت أنقد غياب الديمقراطية فى هذا النظام".
وبدأت انتقادات محفوظ بشكل غير مباشر بقصة "سائق القطار" التى نشرها على صفحات "الأهرام"، واعتُبِرت على نطاقٍ واسع إشارة إلى أن عبدالناصر هو سائق القطار، لكنه عاد وانتقد انحراف الثورة عن أهدافها فى رواية "ثرثرة فوق النيل" 1966، التى رأى فيها المشير عبدالحكيم عامر تعدياً على الثورة والنظام وأنه "يجب تأديب" نجيب محفوظ، الأمر الذى استدعى تدخل عبدالناصر مُجدداً، وطلب من وزير الثقافة وقتذاك ثروت عكاشة قراءة الرواية، وإبداء رأيه فيها، ليدافع عنها عكاشة ويقنع عبدالناصر بأن حرية الأدب هى أفضل دعاية للنظام، فيما تدخل مقص الرقيب بالحذف فى روايتى "الحب تحت المطر" و"الكرنك" بسبب تضمنهما لبعض الانتقادات، بحسب ما ذكر بنفسه فى "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ".
أما عن أشهر الروايات التى خلدت لحظة قيام ثورة يوليو والأمل الجديد الذى بعثته فى البلاد، فتعد رواية "رد قلبي" ليوسف السباعي، الأهم فى هذا المجال، ومعها "فى بيتنا رجل" لإحسان عبدالقدوس، و"قصة حب" ليوسف إدريس، وهى روايات تدور حول كفاح الشعب المصرى ضد الاستعمار البريطانى وكيف نجحت الإرادة المصرية فى إجبار البريطانيين على الجلاء، وهى من أشهر الروايات التى ظهرت بعد ثورة يوليو، واكتسبت شهرة إضافية بتحويلها لأفلام تعد من كلاسيكيات السينما المصرية، وتعتمد هذه الروايات على قصة حب بين بطل وبطلة الرواية، لكن حب الوطن يتدخل ليعلو على حب الأشخاص، ويظل هو الحب الأبقى.
وتعد "غروب وشروق" لجمال حماد، والصادرة عام 1966، من أهم الروايات التى ترصد الأسباب التى وصلت بالعهد الملكى إلى نهايته وجعلت قيام الثورة عملية حتمية، فالرواية التى تحولت لفيلم شهير بطولة رشدى أباظة وسعاد حسنى ومحمود المليجي، تركز على تحليل الفساد الذى تغلغل فى مفاصل النظام الملكي، ومحاولة البوليس السياسى تكميم الأفواه، إذ تدور الأحداث داخل منزل عزمى باشا رئيس البوليس السياسي، حيث نكتشف بعض جوانب الفساد الأخلاقى والاجتماعى والسياسى فى رأس السلطة، ما يكون تمهيداً للمشاهد النهائية فى الروائية التى تركز على لحظة ثورة 23 يوليو وسقوط النظام البائد ممثلاً فى صورة عزمى باشا.
أما الرواية التى كانت الأعلى فى انتقاد نظام يوليو بسبب الأزمات التى ظهرت فى جدار التجربة فكانت "شيء من الخوف" لثروت أباظة، والتى صدرت عام 1967، حتى أن نجيب محفوظ اعترف بذلك قائلا: "ربما كان الكاتب الوحيد الذى كتب رواية يهاجم فيها النظام بشكل مباشر هو ثروت أباظة، ففى روايته (شيء من الخوف)، أظهر بوضوح موقفه من الثورة، وهذا المعنى هو نفسه الذى وصل لبعض دوائر صنع القرار وكاد يتم التنكيل بأباظة وأن يُمنع الفيلم المأخوذ عن الرواية، ما أدى لتدخل عبدالناصر الذى شاهد الفيلم ورفض إيقافه أو التنكيل به.
ويرى الدكتور حمدى حسين، أستاذ الأدب والنقد وصاحب كتاب "الرؤية السياسية فى الرواية الواقعية فى مصر"، أن الروايات الواقعية واكبت ثورة يوليو منذ بدايتها، وعبّرت عنها فى مختلف محطاتها، خاصة أن الرواية أقدر من القصة القصيرة على تقديم الرؤية السياسية بحكم امتدادها فى الزمان والمكان، ولأن قالبها يحتمل طرح الأفكار، والأفكار المناهضة كما يفسح المجال لإلقاء الضوء على كافة أبعاد الشخصيات الرئيسية، التى تضطلع بالبطولة، خاصة أن الرواية الواقعية تقدم للأديب أن يقدم رؤية وتصوير للمجتمع من خلال عقله ووجدانه بشرط أن يتوافر له قدر من الوعى بحركة التاريخ، وشمولية الرؤية، وموضوعية عرض الأفكار المختلفة.
وأشار حسين إلى أنه بعد صدور العديد من الروايات التى تناولت فترة الثورة وأزمة المجتمع الملكي، لم تتوقف الرواية عند هذا المستوى بل عملت على الاحتكاك بكل مبادئ الثورة والعمل على مناقشة ما تم إنجازه وما تعثر، والبحث عن حلول وتسليط الضوء على أى مشكلات فيما يخص قضيتى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فنجد أعمال "بنك القلق" لتوفيق الحكيم، و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"تلك الرائحة" و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، و"الوهم" لمحمد جلال تناقش قضية التناقض بين شعار الثورة الداعى للديمقراطية والممارسة غير الديمقراطية، بينما ركزت روايات "القضبان" لمحمد جلال، و"الفلاح" لعبدالرحمن الشرقاوي، و"السنيورة" لخيرى شلبي، و"الحواجز الزجاجية" ليحيى زكي، على مسألة قضية العدالة الاجتماعية فى خطاب ثورة يوليو وممارساتها، وهم فى كل هذه الأعمال أثبتوا أن "الرواية من أقدر الفنون الأدبية على تقديم الرؤية السياسية فى فترة ثورة يوليو وما بعدها، إذ نجحوا فى أن يصوروا حركة الواقع تصويراً يكشف رؤية الأجيال لأهم القضايا".

المصدر: مجلة آخر ساعه