يوميات الأخبار

الأضحى عيد من ضحى ومن لم يضح

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

قيل إن أفضل بيت من الشعر قالته العرب: والنفس راغبة إذا رغبتها ..  وإذ ترد إلى قليل تقنع

الأضحية سنة للقادر عليها، وأما غير القادر فلا أضحية عليه، وذكر الشوكانى فى نيل الأوطار أن الصديق والفاروق رضى الله عنهما لم يضحيا مدة خلافتهما حتى لا يظن الناس أنها واجبة فلو كانت واجبة ما تركاها، فانظر إلى سلوك الصحب الكريم الذى يدل على أهمية التفريق بين مما هو واجب، وما هو سنة، وانظر الى الفرق بين التعليم بالفعل والتعليم بالخطب الرنانة، لقد علما الناس السنة بتركها، وكان مالك رضى الله عنه لا يصوم الستة من شوال، حتى لا يظن الناس أنها من رمضان، وعيد الأضحى اسمه هكذا عيد الأضحى لمن ضحى، ولا يملك غير القادر على الأضحية أن يغير اسمه، فاسمه واحد عند من ضحى، وعند الذى لم يضح، وفى هذا من تحقيق معنى الأمة التى يجزئ فعل أحدهم عن الباقين، فإذا أضفت إلى ذلك أن المضحى يعطى من أضحيته جيرانه، وأصدقاءه، وغير القادرين وقفت على جانب مهم من جوانب مقومات الأمة، وهو التكافل الاجتماعى، فجميع الناس يأكلون منها، وقد قال الله تعالى: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» أى من يعترضك فأعطه منها، وقال عز وجل: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» وهذا يحقق التكافل الاجتماعى، وينشر المودة بين الناس، فالغنى الذى لم يضح يأكل من أضحية أخيه الذى ضحى، وهكذا تنشر المودة والألفة التى تحقق معنى من معانى خيرية الأمة، فقد روى البخارى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يذكر فيه أقربنا منه مجلسا يوم القيامة وأحبنا إليه: «الموطئون أكنافا الذى يألفون ويؤلفون» ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، صحيح أننا عجنا الدنيا عجنا فى هذا الباب، فأفسدنا الألفة وقطعناها بسبب غياب الفقه الرشيد فى التعامل، إذ زعمنا أن الألفة كى تتحقق لابد أن يحكى كل منا أسراره للآخر، وأن يتبسط معه، وان يتواضع التواضع المذموم وهو ان تتواضع غير مقر لك بمنزلتك الأولى قبل التواضع، فالتواضع المعترف به شرعا أن تتواضع مع من هو دونك، وأن يحفظ لك من هو دونك مكانتك، والدليل على ذلك ان النبى صلى الله عليه وسلم كان المثال فى التواضع،دخل عليه رجل فظنه ملكا، فارتعد مهابة وإجلالا، فأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يهون عليه فقال له: هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة والإسلام دين المعادلة، وللمعادلة طرفان متساويان، فإذا اختل طرف منهما فسدت، فالذى يتواضع معك يجب عليك أن تحفظ له منزلته ومكانته التى من اجلك تنازل عنها لبعض الوقت، أو فى بعض الظروف، وقد غابت عنا مسألة المعادلة فأفسدنا الألفة، فليس معنى أن يعطيك غنى كريم قطعة لحم فى العيد سعى إليك بها أنه قد انسلخ من مكانته، أو بمعنى صريح أنت تريد أن تسلخه من مكانته وتجرده منها تحت شعارات فارغة منها قولنا «كلنا اولاد تسعة» لقد كان الناس فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاد تسعة  ومع ذلك عندما شاهد عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ رضى الله عنه قادما قال عليه الصلاة والسلام: قوموا لسيدكم وقال: انزلوا الناس منازلهم، والله عز وجل هو من جعلنا منازل، ورفع بعضنا فوق بعض درجات ليبلونا فيما آتانا فيجب علينا أن نفهم هذا، وأن نرضاه.


 عندما يكون الفرح مشروعا


وعندما يكون الفرح مشروعا لايجوز لأحد أن يعطل مشروعيته بل يجب على الناس تعظيم المشروع لقول الله ربنا:  (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ) فجعل الحق سبحانه وتعالى تعظيم الشعائر آية دالة على تقوى القلوب، ومن تعليمات الدين وتوجيهاته فى العيد ان ينشر المسلم الفرحة بين الناس وإن كثرت الهموم وتضاعفت المواجع، فالحياة لا تخلو من تلك المواجع بحال، ولى كتاب سميته «الحياة مشكلات لذيذة» ومعنى كون مشكلاتها لذيذة أن لها حلولا، فلا توجد مشكلة إلا ولها فى دين الله حل، وهى تأتى وفق طاقة الإنسان: «لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا» لكن التهويل من تلك المشكلات والعويل حولها والندب عند رأسها والبكاء أو التباكى فى ساحتها يزيد من شأنها.


وإذا كنا قد ابتلينا بالميديا التى لاتكف عن نقل الأخبار صحيحها وسقيمها فعلى هواة البوستات أن يأخذوا منها إجازة فى العيد، وعملا بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» أقول إن لم تستطيعوا نشر الخير فاسكتوا عن نشر السوء تعظيما لشعيرة العيد، دعوا  الناس يفرحوا فى يوم الفرح فيه مشروع، ولا تعدوهم بنشر السوء بعد العيد لعل الله أن يتوب عليكم بعد العيد فتتوقفوا عن نشر السوء إلى الأبد.


ومن توجيهات الدين فى العيد إدخال المسرة على المساكين والأطفال بما تيسر من الصدقات لقول النبى صلى الله عليه وسلم:»أغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم» وفى هذا الحديث كلمة هى أن الأمر بإغناء الفقراء عن سؤال الناس فى يوم العيد امر للنفس القادرة المستغنية عن سؤال الناس بأن تفرح، اذ لا يسر عاقل بمشاهدة منظر السائلين، فماذا لو خلت أماكن التواجد من هؤلاء فى يوم العيد؟ سيكون العيد خاليا من منغصات الفرح به والسعادة بعودته فما سمى العيد عيدا إلا لأنه يعود، وهو يعود بالفرح المشروع أى الفرح الذى شرعه الله عز وجل وأمرنا فيه بالتكبير شكرا له ان هدانا: «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» فالألسنة مكبرة والقلوب سعيدة والصدور منشرحة، والتوسعة من شأن العيد على النفس والأهل والأطفال والجيران والمحتاجين، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه.


الغسيل يغنى عن الجديد


لبس عمر رضى الله عنه ثوبا أعجب النبى صلى الله عليه وسلم، فسأله: جديد أم غسيل؟ فقال عمر: غسيل يارسول الله، فلا بأس بأن تكون ملابس العيد مغسولة وليس شرطا ان تكون جديدة، وشيوع التعبير بملابس العيد يفسد فرحة الغارمين ثمن تلك الملابس، ويوهم من لا علم عنده بأن الجديد من سنة الدين فى العيد وليس الأمر على ما يزعمون، وبعض النساء المؤمنات يرون دخلة العيد حربا منها الخبط والرزع وتغيير بعض فرش المنازل «ع العيد» غير ناظرة لحال الرجل الذى يشكو بثه وحزنه الى الله، والفرح بالعيد أوسع من الملابس وتغيير الفرش وشراء الذهب وفرح الآنسة المؤجل حتى يكون فى العيد.
يعرف العلماء الفرح بأنه انبساط النفس وانشراحها، والفرح المعنوى لا يتكلم فيه الناس، فقد عرفنا الفرح الحسى الذى يقوم على الحس من الفرح بالأموال المعدودة، والملابس الجديدة والسيارات الفارهة والقصور الواسعة الى آخر المحسوسات التى لا تنتهى، وللفرح المعنوى حديث طويل فى الخطاب الدينى، يقول ربنا تعالى : «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» فالمصلى يفرح بصلاته، وقارئ القرآن يفرح بتلاوة آياته، ومن أصبح معافى فى بدنه آمنا فى سربه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا أى كل الدنيا تمثلت  فى عافية البدن من العلل والأمراض وفى نعمة  الأمن وفى تحصيل قوت يوم واحد، وكيف يشقى من حيزت له الدنيا جميعا، وأصبحت فى قبضة يده، أمور تبدو يسيرة، والحياة برمتها أحلام يسيرة لكن دونها أهوال من الغباء والنظر الى ما عند الناس، ومحاولة الوصول الى ما وصلوا إليه، والبعد عن الخطاب الدينى المستنير الذى يدعو الى الفرحة بأقل ما  ترى العين من النعم، والمعهود عن سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يفرح بالنعمة وإن دقت، أى وإن كانت ضئيلة فيما ترى العين والذى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يتحلى بخلقه  وإن لم يبلغ مبلغه، فيفرح بدقيق النعم وقد قال ربنا تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ» فالشكر على القليل سبيل الى تحصيل الكثير.


والمشكلة ليست فى دقيق النعم وعديمها، إنما المشكلة فى جهاز الاستقبال، أى فى النفس التى تستقبل النعمة، إن كانت نفسا راضية مطمئنة رأت القليل كثيرا، وإن كانت نفسا لا تشبع فلن يرويها رؤية القليل، ولا الكثير.


وسبحان الله الذى خلق فينا وازعا نستطيع به اقناع النفس وتذليلها قال عز وجل: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» ووجه الدلالة فى الآية أن الإنسان قادر على نهى نفسه بسر وضعه الله فيه، فبوسع كل إنسان أن ينهى نفسه عن هواها، ومحال أن ينهاها عن هواها غير مستحضر الثمرة المنصوص عليها فى الآيات: «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى»  ومحال أن تنهاها عن هواها وهو جاهل بذلك الهوى الذى كله حيدة عن الواقع  والمعقول، فهوى النفس الشطط فى الجمع، والميل الى النوم والكسل، وكل ما من شأنه رفعة الحياة والزيادة من خيرها، ولابد أن نربى هذا الوازع فى نفوس الناس خاصة الشباب، حتى يكونوا قادرين على نهى أنفسهم عن هواها وهو بلاشك مدمر فليس شرطا أن يسافر الناس فى العيد وفى ظروف وباء كورونا حيث تنتشر العدوى فى التجمعات، وليس شرطا شراء ملابس  جديدة يتزاحم الناس من أجلها قبل العيد بساعات وكأننا داخلون على حرب تبين وقتها فجأة بل يكفى أن نغسل للعيد ملابسنا، وأن تسعنا بيوتنا، وأن نفرح بتواجدنا فيها، فإن بعضنا أصبح ناسيا شكل بعض من كثرة الهجر، وافتقدنا متعة النظر فى وجوه بعض، وافتقدنا لغة الحوار فيما بيننا، والعيد فرصة لذلك كله وفى ذلك سعادة غامرة إذا فقهنا، وفى الحديث الصحيح : «خيركم خيركم لأهله وأن خيركم لأهلى» والخيرية للأهل كما تتمثل فى المال تتمثل كذلك فى النظر إلى وجوههم، وحسن الاستماع إليهم، ومحاورتهم، والجلوس إليهم خصوصا فى العيد الذى يعود كما أراده الله أن يعود بالفرح المشروع والفرح بالموجود، ومن عيد إلى عيد تألف النفوس مباديء الدين الذى جاء لإسعاد الناس، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» والحياة الحقيقية هى الحياة كما أراد الله أن تكون، حياة فيها النفس تشبع وتقنع وتفرح، وتنشر الفرح فى كل مكان وسعها الوصول إليه، وفى الحديث أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، وإنما تسعونهم بأخلاقكم، والاخلاق كالدين منهج حياة.