أزمة سد النهضة.. هل تخرج الصين من المنطقة الرمادية للحياد الإيجابي؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بكين ــ عـامر تمـام 
لم يكن تزامن انطلاق العلاقات المصريةـالصينية مع أول اجتماع لحركة عدم الانحياز في باندونغ عام 1955 مجرد صدفة،وقتها، جمعت الجمهوريتين الجديدتين نفس المبادئ، المناهضة للاستعمار، والداعمة للحياد الإيجابي، بعين تستشرف المستقبل، أسست مصر لعلاقاتمع الصينلا تنال منها التغييرات الدولية، قائمة على عدم الإنحياز؛الذي لم يكن موقفا سلبيا، بل داعمالحقوق الشعوب في التحرر والدفاع عن النفس.


66 عاما انقضت، كانت كفيلة بتغيير موازين القوى العالمية، لكن بقيت العلاقات المصرية الصينية راسخة على أسسها، بقيت معها سياسة مصر داعمة ومدافعة عن احترام سيادة الدول وحقوقها في التنمية،لاسيماالأفريقية والعربية منها، نعترف بأن مكانتنا في القارة ليست كما كانت عليه أيام عبد الناصر، سنوات من الإهمال، تدخلات دولية، تركت ندوبا نسعى لمداوتها، وما سد النهضة الأثيوبي إلا أحدها، عشر عجاف مرت، تفاوض من أجل التفاوض، مراوغة حكومات أديس أبابا المتعاقبة لم تنته، لكن لم يتبق من الوقت الكثير، وحان وقت القرار، تنتظر مصر من القوى الكبرى وعلى رأسها الصين دورا كبيرا لحل الأزمة مع أثيوبيا، فما عاد للتأخير مجال.

 

زيارة هامة


وسط هذا الزخم، تأتي زيارة هامة لوزير الخارجية الصينيوانغ يي إلى القاهرة، فهي هامةفي توقيتها،وملفاتها، ورمزيتها، بهاتزول زرات غبار عن العلاقات المصرية ـ الصينية، بعدما أثير عقب جلسة مجلس الأمن عن خذلان صيني في ملف سد النهضة، واصطفاف إلى جانب أثيوبيا، بخبث شديد دعمت أديس أبابا هذه النظرية، وروجت لها، وانتهجت سياسة خلط الأوراق، مستغلة وقوف الصين في المنطقة الرمادية من الأزمة.
التواصل بين مصر والصين لتنسيق المواقف لم ينقطع، وقبيل التوجه إلى مجلس الأمن لطرح القضية، أجرى شكري مكالمة هاتفية مع وانغ يي، أعرب خلالها الوزير الصيني عن رغبته في إجراء حوار بين الدول الثلاث؛ لإيجاد حل مقبول لجميع الأطراف في أقرب وقت ممكن.مؤكدا أن بلاده مستعدة لمواصلة لعب دور بناء لإنهاء الأزمة، وهنا وجب التنويه لو رفضت الصين أو أي من الخمس دائمي العضوية في المجلس مناقشة القضية ـ كما كانت تريد أديس أبابا ـ لما تم طرحها، لكن الطرح هو نجاح للدبلوماسية المصرية.

 

المنطقة الرمادية


يعيب البعض على الصين عدم دخولها بشكل مباشر للضغط على أثيوبيا لحل القضية،في بلدان الأزمة الثلاث حلفاء رئيسي ونلها، تربطها بهم علاقات وطيدة، بإمكانها استخدام نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي للمساعدة في تخفيف التوترات وإيجاد حل دائم للنزاع.


أزمة سد النهضة معقدة، فضل صانع القرار الصيني عدم الانخراط الكامل فيها، لأسباب عدة:  أولها علمه يقينا أن الحكومة الاثيوبية متعنتة، لن تقبل أية وساطات، فالسد بالنسبة لها هو العامل الرئيس لشرعيتها والذي يجمع شعبها الذي يتقاتل،  أيضا، تخشى الصين ـ دولة المنبع ـ  أن تستغل وساطتها الداعمة للحقوق المصرية المائية  في نهر النيل، لإضعاف موقفها كدولة منبع للعديد من الأنهار الدولية، خاصة نهر الميكونغ الذي الذي تحرض الولايات المتحدة دول مصبه لمواجهة الصين، كما أعلنت الصين عن عزمها إقامة أكبر سد لانتاج الطاقة في العالم في منطقة التبت على نهر برهمباترا، هو ما قد يسبب مشاكل مع دولتي المصب وهما الهند وبنغلادش. 
 

الحياد الإيجابي


زيارة وانغ يي، يمكن أن تشكل تحولا في سياسة بكين تجاه الأزمة، وخروجا من المنطقة الرمادية إلى الحياد الإيجابي الذي دعت إليه دول عدم الإنحياز، ليس من مصلحة الصين نشوب حرب في القرن الأفريقي، مصلحتها تقتضي استقرار الدول الثلاث، خاصةالدولة الاثيوبية الهشة، لحماية استثماراتها المهددة، وحتى تتمكن أديس أبابا من سداد ديونها، وهذه الأهداف ذاتها،تفسر دعم بكين للحكومة المركزية في بسط سيطرتها على إقليم تيغراي ورفض إدانتها في مجلس الأمن.


تملك الصين نفوذا لتقريب وجهات النظر، ومحاولة اقناع أديس أبابا بأن التعنت لا يجلب إلا الحرب، خاصة مع نضوب خيارات السلام، ونفاد الصبر، لو نجحت ستحقق مكاسب جمة، نفوذا تتسع رقعته، واستثمارات تبقى في آمنة، وخطوة على طريق نظام عالمي ثنائي القطبية، وإن فشلت، فيكفي شرف المحاولة، ولن تنسى لها مصر والتاريخ ذلك، وكما يقولون، سمو الهدف يبرر المحاولة.


لدى الصين ما يؤهلها للوساطة، علاقات قوية، مصالح مشتركة، خبرات في بناء وإدارة السدود الضخمة،تساعدها في وضع مخططات لعمليات الملء والتشغيل، كما يمكنها المساعدة من خلال توفير التمويل لتحسين ممارسات إدارة المياه في كل من السودان ومصر خلال سنوات الملء.


لغة المصالح، هي من تحكم العلاقات بين الدول، وبهذه اللغة أيضا، نرى الأهمية الكبرىالتي توليها الصين لمصر، فهي الدولة المحورية في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط الذي تبحث بكين عن دور فيها، اقتصاديا؛ تعمل بها شركاتها،واستثماراتهاتنتشر بالعديد من القطاعات في جو من الاستقرار والأمان، سياسا، هناك تنسيق ودعم متبادل في المحافل الدولية.

 

استثمارات صينية


ذكرت تقارير أن الصين تستثمر في السد، وشركاتها تعمل في البناء، ومن مصلحتها حمايته، هذا نصف الحقيقة، أما الصورة كاملة:لا توجد استثمارات صينية مباشرة في بناء سد النهضة، إنما قدمت بكين تمويلا  قيمته 1.2 مليار دولار في 2012 لبناء شبكة خطوط لنقل الكهرباء من السد إلى المدن الأثيوبية،  هذا إلى جانب اتفاق مع رئيس الوزراء الأثيوبي خلال زيارته إلى بكين في 2019 على قرض بقيمة 1.8 مليار دولار لم ينفذ حتى الآن، وتعمل شركتان صينيتان في بناء السد من الباطن.
تعتبر الصين أكبر دائن لأثيوبيا، بقيمة 16 مليار دولار،بحسب المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية،كما أن بكين أكبر مستثمر أجنبي في إثيوبيا، وبسبب فشل أثيوبيا في الوفاء بالتزامتها وعدم قدرتها على السداد، مددت الصين أجل الدين من 10 سنوات إلى 30 سنة.


تخشى بكين ـ وهذا حقهاـ على استثماراتها في أثيوبيا، التي تعاني بسبب سوء إدارة حكومة أديس أباباوعدم الاستقرار، الحرب في تيغراي تسببت في توقفت استثمارات لبناء 3 مجمعات لصناعة الملابس في الأقليم كانت تهدف لجعل أثيوبيا مركزا لصناعة الملابس في القارة السمراء بعد تنفيذ أحدها بالفعل، لم يحقق مشروع النقل الداخلي عبر خطوط السكك الحديدية الذي أقامته الشركات الصينية النتائج المرجوة بسبب فشل الحكومة الأثيوبية في إدارته، ما دفع شركة صينية للحصول على حق إدارته، حتى المشروع الهام الخاص ببناء خط سكك حديدية من أديس أبابا إلى جيبوتي لربط الدولة الحبيسة بالبحر الأحمر، يرتبط مصيره بمدى التوافق بين الحكومة الاثيوبية وجيبوتي، وحال حدوث توترات بين البلدين ربما تفقد أديس أبابا الشريان الوحيد لها على البحر وتفقد بكين استثماراتها.


في الحرب لا رابح، من مصلحة أثيوبيا ومصر السودان والصين بل والعالم التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة، بدونه، سيكون الخيار؛ إما أن تفقد مصر حقوقها المائية، أو تشهد القارة الأفريقية حالة من عدم الاستقرار لا يمكن التنبؤ  بنهايتها، وقد حسمت مصر خيارها.