عاش عادل أسعد الميرى حياة مختلفة وثرية، درس الطب وعمل عازفا فى شارع الهرم، فتنه التاريخ المصرى فدرسه وحصل على دبلومة من كليةالآثار،ثم جاب مصر بطولها وعرضها فى فترة عمل فيها مرشدا سياحيا، درس الأدب الفرنسى فى السوربون، ودرّس اللغة العربية للأجانب لعدة سنوات،تزوج فرنسية ومر معها بتجريه مرض قاسية.دوَّن الميرى أحداث حياته بانتظام على مدى سنوات عمره، عاونته الكتابة على فهم العالم وتحمل الألم، وحين بدأ النشر بثها من جديد فى نصوص مدهشة لا تخلو من الصدق والألم والطرافة والمعلومات المكثفة.
جعل الميرى حياته محورا لرواية مفتوحة، ينثر أجزاء منها فى كل عمل جديد. تجربة ربما تكون غير مسبوقة فى الكتابة العربية. تجربه يصعب تصنيفها، وكتابة تختلط فيها الحقيقة بالخيال فيصعب حصرها فى لون أو شكل محدد.. من "القارئ الجالس القرفصاء" وحتى اخيوط أقمشة الذاتب مرورا بـاتسكع، وكل أحذيتى ضيقة، وفخّ البراءة، ولم أعد آكل المارون جلاسيه، وبلاد الفرنجة، وألوان الطيف وغيرهاب، نستطيع أن نقرأ حياة عادل أسعد الميرى كاملة بكل تفاصيلها وأحداثها كسيرة ذاتية أو كرواية أو كنص واحد طويل دون أن نشعر بالتكرار أو الملل!
فى أحدث كتبه الصادرة مؤخرا عن منشورات إبييدى اتسكع على أرصفه باريسب يواصل الميرى مشروعه الفريد، مستغلا الفترة التى عمل فيها مرشدا سياحيا، ليضع خبراته كلها فى نص مفتوح ثرى ومتنوع، ينقل للقارئ الوصف التفصيلى لعشرات الرحلات التى قام بها لباريس بمتاحفها وشوارعها ومقاهيها وسينماتها ومكتباتها وأزقتها وتاريخها القديم والمتجدد، سياحة مفتوحة فى ذاكرة الميرى نفسه،نتنقل عبرها من التاريخ الشخصى،لتاريخ الأماكن، ومن الكتب المترجمة، للروايات والأفلام واللوحات، فى تداع حر للأفكار والذكريات.
يتنقل الميرى بخفة عبر النص من الخاص إلى العام، بذرة صغيرة تنمو وتتفرع إلى شجرة كبيرة متشابكة الأغصان، تبدأ بحكاية شخصية تماما عن زيارته الأولى مع زوجته لمتحف اللوفر مثلا عام 1990 ثم يقفز بسلاسة لتاريخ المتحف الشهير نفسه، ثم التأثير المصرى المتناثر عبر باريس كلها االكثير من العناصر الحيوانية، مثل رموز الحيوانات التى تقوم بالحراسة، كالأفعى الكوبرا أو الصقر حورس، أو تماثيل صغيرة لكائنات تتكون فى نفس الوقت من جزء حيوانى وجزء إنسانى، مثل أبى الهول، أى الأسد صاحب الرأس البشرية، أو مثل حيوان الكبش ذى الرأس البشرية رمز خصوبة الرب آمونب عناصر معمارية لا تزال تزين الكثير من مبانى باريس،مصانة ومحفوظة بعناية، بينما تعانى فى كثير من الأحيان فى بلدها الأصلى، مقارنة ستتكرر كثيرا فى الكتاب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
يبسط الميرى تقسيم أجنحة اللوفر المعقدة، القسم الأول تحتله مصر القديمة وحدها، والقسم الثانى بقية حضارات الشرق الأدنى القديم فى بابل وآشور وكنعان وفارسا كأن مصر وحدها تساوى كل هؤلاء، وهو شىء كان يجعلنى أمتلئ بالفخر"، أما القسم الثالث فهو لحضارات الشرق الأقصى فى الهند والصين واليابان ودول جنوب شرق آسياب رغم أن هناك متحفا فى منطقة قصور التروكاديرو أمام برج إيفل، مخصصا بأكمله لحضارات الشرق الأقصى، يحمل اسم اجيميهب. القسم الرابع للحضارة اليونانية الرومانية، ثم القسم الخامس لحضارة عصر النهضة من نحت وتصوير، والقسم السادس لفنون التصوير فى أوروبا، والقسم السابع للفنون الصغرى فى أوروبا مثل النحت والتحف الفنية المختلفة.
كأى دليل سياحى محترف لا يفوت الميرى أن يحكى قصة المبنى نفسه أيضا، يقول إن اللوفر ينقسم إلى ثلاثة قصور تحمل أسماء ثلاثة رجال من النهضة الفرنسية، حيث كان اللوفر هو القصر الملكى، الذى يقيم فيه ملوك فرنسا، منذ إنشائه فى زمن فيليب أوجست فى القرن الثانى عشر، وحتى نهايات القرن الثامن عشر، عندما تحول اللوفر إلى متحف للفنون، بعد أن تضخمت مجموعات المقتنيات الفنية لملوك فرنسا وشخصياتها المهمة، أما بالنسبة لنظام العرض فيمتد أفقيا االطابق الأرضى فى القصور الثلاثة متصل اتصالا تاما، أى أنك إذا أردت متابعة زيارة قسم المصريات، وجدت نفسك تنتقل من الطابق الأرضى بقصر سوللى إلى الطابق الأرضى بقصر دينون إلى الطابق الأرضى بقصر ريشيلو.
بالطريقة نفسها ينتقل من الحديث عن رحلة لسوق الخضراوات والفاكهة فى منطقة كانت تعرف بـامعدة العاصمة" للحديث عن إميل زولا الذى كتب "بطن باريسب سنة 1873 واستوحى أحداثها من المكان نفسه، يقول الميرى إنها كانت أول رواية يتحدث فيها زولا عن معاناة الطبقة العاملة، إذ كانت له رغبة عنيفة فى التعبير عن الطبقات المظلومة فى المجتمع الفرنسى والدفاع عنها.
من أكثر المواضيع التى تشغل المؤلف وتؤرقه، المقارنة بين أنماط السلوك فى فرنسا ومثيلتها فى منطقتنا العربية، من طريقة التعامل مع المبانى والشوارع والمواصلات والمخلفات، وحتى المتع الحسية الفجة،وأيضا طرق الاستمتاع بالحياة وتقبلها وجعلها أكثر بساطة وإنسانية، من البداية يرى الميرى أن القاهرة تتشابه مع فرنسا جغرافيا "فكل منهما يمر بها نهر عظيم يخترقها من منتصفها، النيل فى حالة القاهرة والسين فى حالة باريس، بحيث يقسم كل من النهرين مدينته إلى شطرين شبه متساويين، ضفة شرقية قديمة وضفة غربية حديثة فى حالة القاهرة، وضفة يمنى ثرية وأخرى يسرى فقيرة فى حالة باريس" التشابه لا يقف عند هذا الحد ففى منتصف كلا النهرين جزيرتان الكبيرة إلى الشمال وهى اإيل دو لا سيتيهب فى باريس و"الزمالك" فى القاهرة، والصغيرة إلى الجنوب وهى اسان لوىب فى باريس، وامنيل الروضةب فى القاهرة. كما أنهما مقاربتان تاريخيا إذ لا يفرق بينهما إلا قرن واحد، فقد بدأ إنشاء باريس قرب منتصف القرن التاسع الميلادى، فى حين بدأ إنشاء القاهرة قرب منتصف القرن العاشر الميلادى افى حالة باريس بدأ البناء بقصر وكنيسة وأسوار، وفى القاهرة بدأ البناء بالقصرين الشرقى الصغير والغربى الكبير وبجامع الأزهر والأسوارب.
نشأت باريس على جزيرة إيل دو لا سيتيه فى وسط نهر السين، على شكل قلعة مرتفعة محاطة بالأسوار لتسهل حمايتها من الأعداء الذين إن تمكنوا من عبور النهر، فلن يتمكنوا من اجتياز الأسوار، ولم تعبر باريس النهر من جزيرة لوتاس إلى ضفتيه إلا فى القرن الثانى عشر عندما تكاثرت مبانيها، وكانت جميعها محاطة بالأسوار، وحتى الآن يمكن الدخول لباريس من الفتحات التى كانت موجودة فى السور القديم ولا تزال تحمل أسمائها القديمة، وهو الأمر نفسه فى القاهرة التى كانت أيضا محاطة بالأسوار وكان الدخول إليها يتم من خلال أبواب محددة لاتزال ثلاثة منها قائمة حتى الآن "باب الفتوح والنصر وزويلة".
على امتداد الكتاب لا يتوقف الميرى عن الرصد والمقارنة بين العمارة وتخطيط الشوارع وتحركات البشر، لكن عندما يتعلق الأمر بالسلوكيات لا تكون المقارنة فى صالح القاهرة فى أغلب الأحوال.
لكن الصورة ليست وردية على الدوام فالبلد الهادئ تحته بركان يغلى يهدد حياة سكانه، يقول الميرى إن فرنسا مؤهلة تماما لقيام حرب أهلية، نتيجة الانقسام الجغرافى والبطالة والعنصرية المبطنة امدينة نيم التى أقمت فيها شهورا طويلة كل عام، خلال السنوات العشر بين 2010 و2020 تجد أن فيها انقساما جغرافيا واضحا تماما، فالأحياء التى يقيم فيها العرب على أطراف المدينة لا يسكن فيها فرنسيون على الإطلاق"ب لهذا يعتقد أنه لو تم انتخاب مارين لوبن (زعيمة حزب اليمين المتطرف) رئيسة للجمهورية الفرنسية فى انتخابات العام القادم فستقوم بتكليف الجيش بمهاجمة هذه الأحياء الطرفية لتجميع الشباب المغاربى العاطل عن العمل وترحيله إلى بلاده!