تسكع فى ذاكرة الميرى

تسكع فى ذاكرة الميرى
تسكع فى ذاكرة الميرى

عاش‭ ‬عادل‭ ‬أسعد‭ ‬الميرى‭ ‬حياة‭ ‬مختلفة‭ ‬وثرية،‭ ‬درس‭ ‬الطب‭ ‬وعمل‭ ‬عازفا‭ ‬فى‭ ‬شارع‭ ‬الهرم،‭ ‬فتنه‭ ‬التاريخ‭ ‬المصرى‭ ‬فدرسه‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬دبلومة‭ ‬من‭ ‬كليةالآثار،ثم‭ ‬جاب‭ ‬مصر‭ ‬بطولها‭ ‬وعرضها‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬عمل‭ ‬فيها‭ ‬مرشدا‭ ‬سياحيا،‭ ‬درس‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسى‭ ‬فى‭ ‬السوربون،‭ ‬ودرّس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬للأجانب‭ ‬لعدة‭ ‬سنوات،تزوج‭ ‬فرنسية‭ ‬ومر‭ ‬معها‭ ‬بتجريه‭ ‬مرض‭ ‬قاسية‭.‬دوَّن‭ ‬الميرى‭ ‬أحداث‭ ‬حياته‭ ‬بانتظام‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬عمره،‭ ‬عاونته‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬العالم‭ ‬وتحمل‭ ‬الألم،‭ ‬وحين‭ ‬بدأ‭ ‬النشر‭ ‬بثها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬فى‭ ‬نصوص‭ ‬مدهشة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الصدق‭ ‬والألم‭ ‬والطرافة‭ ‬والمعلومات‭ ‬المكثفة‭.‬

جعل‭ ‬الميرى‭ ‬حياته‭ ‬محورا‭ ‬لرواية‭ ‬مفتوحة،‭ ‬ينثر‭ ‬أجزاء‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬جديد‭. ‬تجربة‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭. ‬تجربه‭ ‬يصعب‭ ‬تصنيفها،‭ ‬وكتابة‭ ‬تختلط‭ ‬فيها‭ ‬الحقيقة‭ ‬بالخيال‭ ‬فيصعب‭ ‬حصرها‭ ‬فى‭ ‬لون‭ ‬أو‭ ‬شكل‭ ‬محدد‭.. ‬من‭ "‬القارئ‭ ‬الجالس‭ ‬القرفصاء‭" ‬وحتى‭ ‬اخيوط‭ ‬أقمشة‭ ‬الذاتب‭ ‬مرورا‭ ‬بـاتسكع،‭ ‬وكل‭ ‬أحذيتى‭ ‬ضيقة،‭ ‬وفخّ‭ ‬البراءة،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬آكل‭ ‬المارون‭ ‬جلاسيه،‭ ‬وبلاد‭ ‬الفرنجة،‭ ‬وألوان‭ ‬الطيف‭ ‬وغيرهاب،‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬حياة‭ ‬عادل‭ ‬أسعد‭ ‬الميرى‭ ‬كاملة‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬وأحداثها‭ ‬كسيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬أو‭ ‬كرواية‭ ‬أو‭ ‬كنص‭ ‬واحد‭ ‬طويل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭ ‬بالتكرار‭ ‬أو‭ ‬الملل‭!‬

فى‭ ‬أحدث‭ ‬كتبه‭ ‬الصادرة‭ ‬مؤخرا‭ ‬عن‭ ‬منشورات‭ ‬إبييدى‭ ‬اتسكع‭ ‬على‭ ‬أرصفه‭ ‬باريسب‭ ‬يواصل‭ ‬الميرى‭ ‬مشروعه‭ ‬الفريد،‭ ‬مستغلا‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬عمل‭ ‬فيها‭ ‬مرشدا‭ ‬سياحيا،‭ ‬ليضع‭ ‬خبراته‭ ‬كلها‭ ‬فى‭ ‬نص‭ ‬مفتوح‭ ‬ثرى‭ ‬ومتنوع،‭ ‬ينقل‭ ‬للقارئ‭ ‬الوصف‭ ‬التفصيلى‭ ‬لعشرات‭ ‬الرحلات‭ ‬التى‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬لباريس‭ ‬بمتاحفها‭ ‬وشوارعها‭ ‬ومقاهيها‭ ‬وسينماتها‭ ‬ومكتباتها‭ ‬وأزقتها‭ ‬وتاريخها‭ ‬القديم‭ ‬والمتجدد،‭ ‬سياحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬فى‭ ‬ذاكرة‭ ‬الميرى‭ ‬نفسه،نتنقل‭ ‬عبرها‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬الشخصى،لتاريخ‭ ‬الأماكن،‭ ‬ومن‭ ‬الكتب‭ ‬المترجمة،‭ ‬للروايات‭ ‬والأفلام‭ ‬واللوحات،‭ ‬فى‭ ‬تداع‭ ‬حر‭ ‬للأفكار‭ ‬والذكريات‭.‬

يتنقل‭ ‬الميرى‭ ‬بخفة‭ ‬عبر‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬العام،‭ ‬بذرة‭ ‬صغيرة‭ ‬تنمو‭ ‬وتتفرع‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬كبيرة‭ ‬متشابكة‭ ‬الأغصان،‭ ‬تبدأ‭ ‬بحكاية‭ ‬شخصية‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬زيارته‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬لمتحف‭ ‬اللوفر‭ ‬مثلا‭ ‬عام‭ ‬1990‭ ‬ثم‭ ‬يقفز‭ ‬بسلاسة‭ ‬لتاريخ‭ ‬المتحف‭ ‬الشهير‭ ‬نفسه،‭ ‬ثم‭ ‬التأثير‭ ‬المصرى‭ ‬المتناثر‭ ‬عبر‭ ‬باريس‭ ‬كلها‭ ‬االكثير‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬الحيوانية،‭ ‬مثل‭ ‬رموز‭ ‬الحيوانات‭ ‬التى‭ ‬تقوم‭ ‬بالحراسة،‭ ‬كالأفعى‭ ‬الكوبرا‭ ‬أو‭ ‬الصقر‭ ‬حورس،‭ ‬أو‭ ‬تماثيل‭ ‬صغيرة‭ ‬لكائنات‭ ‬تتكون‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬جزء‭ ‬حيوانى‭ ‬وجزء‭ ‬إنسانى،‭ ‬مثل‭ ‬أبى‭ ‬الهول،‭ ‬أى‭ ‬الأسد‭ ‬صاحب‭ ‬الرأس‭ ‬البشرية،‭ ‬أو‭ ‬مثل‭ ‬حيوان‭ ‬الكبش‭ ‬ذى‭ ‬الرأس‭ ‬البشرية‭ ‬رمز‭ ‬خصوبة‭ ‬الرب‭ ‬آمونب‭ ‬عناصر‭ ‬معمارية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تزين‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مبانى‭ ‬باريس،مصانة‭ ‬ومحفوظة‭ ‬بعناية،‭ ‬بينما‭ ‬تعانى‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬فى‭ ‬بلدها‭ ‬الأصلى،‭ ‬مقارنة‭ ‬ستتكرر‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬الكتاب‭ ‬سواء‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭.‬

يبسط‭ ‬الميرى‭ ‬تقسيم‭ ‬أجنحة‭ ‬اللوفر‭ ‬المعقدة،‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬تحتله‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬وحدها،‭ ‬والقسم‭ ‬الثانى‭ ‬بقية‭ ‬حضارات‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬القديم‭ ‬فى‭ ‬بابل‭ ‬وآشور‭ ‬وكنعان‭ ‬وفارسا‭ ‬كأن‭ ‬مصر‭ ‬وحدها‭ ‬تساوى‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء،‭ ‬وهو‭ ‬شىء‭ ‬كان‭ ‬يجعلنى‭ ‬أمتلئ‭ ‬بالفخر‭"‬،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬لحضارات‭ ‬الشرق‭ ‬الأقصى‭ ‬فى‭ ‬الهند‭ ‬والصين‭ ‬واليابان‭ ‬ودول‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسياب‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬متحفا‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬قصور‭ ‬التروكاديرو‭ ‬أمام‭ ‬برج‭ ‬إيفل،‭ ‬مخصصا‭ ‬بأكمله‭ ‬لحضارات‭ ‬الشرق‭ ‬الأقصى،‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬اجيميهب‭. ‬القسم‭ ‬الرابع‭ ‬للحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬الرومانية،‭ ‬ثم‭ ‬القسم‭ ‬الخامس‭ ‬لحضارة‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬من‭ ‬نحت‭ ‬وتصوير،‭ ‬والقسم‭ ‬السادس‭ ‬لفنون‭ ‬التصوير‭ ‬فى‭ ‬أوروبا،‭ ‬والقسم‭ ‬السابع‭ ‬للفنون‭ ‬الصغرى‭ ‬فى‭ ‬أوروبا‭ ‬مثل‭ ‬النحت‭ ‬والتحف‭ ‬الفنية‭ ‬المختلفة‭.‬

كأى‭ ‬دليل‭ ‬سياحى‭ ‬محترف‭ ‬لا‭ ‬يفوت‭ ‬الميرى‭ ‬أن‭ ‬يحكى‭ ‬قصة‭ ‬المبنى‭ ‬نفسه‭ ‬أيضا،‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬اللوفر‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬قصور‭ ‬تحمل‭ ‬أسماء‭ ‬ثلاثة‭ ‬رجال‭ ‬من‭ ‬النهضة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬اللوفر‭ ‬هو‭ ‬القصر‭ ‬الملكى،‭ ‬الذى‭ ‬يقيم‭ ‬فيه‭ ‬ملوك‭ ‬فرنسا،‭ ‬منذ‭ ‬إنشائه‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬فيليب‭ ‬أوجست‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬الثانى‭ ‬عشر،‭ ‬وحتى‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬عندما‭ ‬تحول‭ ‬اللوفر‭ ‬إلى‭ ‬متحف‭ ‬للفنون،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تضخمت‭ ‬مجموعات‭ ‬المقتنيات‭ ‬الفنية‭ ‬لملوك‭ ‬فرنسا‭ ‬وشخصياتها‭ ‬المهمة،‭ ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنظام‭ ‬العرض‭ ‬فيمتد‭ ‬أفقيا‭ ‬االطابق‭ ‬الأرضى‭ ‬فى‭ ‬القصور‭ ‬الثلاثة‭ ‬متصل‭ ‬اتصالا‭ ‬تاما،‭ ‬أى‭ ‬أنك‭ ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬متابعة‭ ‬زيارة‭ ‬قسم‭ ‬المصريات،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسك‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضى‭ ‬بقصر‭ ‬سوللى‭ ‬إلى‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضى‭ ‬بقصر‭ ‬دينون‭ ‬إلى‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضى‭ ‬بقصر‭ ‬ريشيلو‭.‬

بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬لسوق‭ ‬الخضراوات‭ ‬والفاكهة‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بـامعدة‭ ‬العاصمة‭" ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬إميل‭ ‬زولا‭ ‬الذى‭ ‬كتب‭ "‬بطن‭ ‬باريسب‭ ‬سنة‭ ‬1873‭ ‬واستوحى‭ ‬أحداثها‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬نفسه،‭ ‬يقول‭ ‬الميرى‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬زولا‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬رغبة‭ ‬عنيفة‭ ‬فى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الطبقات‭ ‬المظلومة‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسى‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها‭.‬

من‭ ‬أكثر‭ ‬المواضيع‭ ‬التى‭ ‬تشغل‭ ‬المؤلف‭ ‬وتؤرقه،‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭ ‬ومثيلتها‭ ‬فى‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المبانى‭ ‬والشوارع‭ ‬والمواصلات‭ ‬والمخلفات،‭ ‬وحتى‭ ‬المتع‭ ‬الحسية‭ ‬الفجة،وأيضا‭ ‬طرق‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة‭ ‬وتقبلها‭ ‬وجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬بساطة‭ ‬وإنسانية،‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬يرى‭ ‬الميرى‭ ‬أن‭ ‬القاهرة‭ ‬تتشابه‭ ‬مع‭ ‬فرنسا‭ ‬جغرافيا‭ "‬فكل‭ ‬منهما‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬نهر‭ ‬عظيم‭ ‬يخترقها‭ ‬من‭ ‬منتصفها،‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬القاهرة‭ ‬والسين‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬باريس،‭ ‬بحيث‭ ‬يقسم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬النهرين‭ ‬مدينته‭ ‬إلى‭ ‬شطرين‭ ‬شبه‭ ‬متساويين،‭ ‬ضفة‭ ‬شرقية‭ ‬قديمة‭ ‬وضفة‭ ‬غربية‭ ‬حديثة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وضفة‭ ‬يمنى‭ ‬ثرية‭ ‬وأخرى‭ ‬يسرى‭ ‬فقيرة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬باريس‭" ‬التشابه‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬ففى‭ ‬منتصف‭ ‬كلا‭ ‬النهرين‭ ‬جزيرتان‭ ‬الكبيرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬وهى‭ ‬اإيل‭ ‬دو‭ ‬لا‭ ‬سيتيهب‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬و‭"‬الزمالك‭" ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬والصغيرة‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭ ‬وهى‭ ‬اسان‭ ‬لوىب‭ ‬فى‭ ‬باريس،‭ ‬وامنيل‭ ‬الروضةب‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭. ‬كما‭ ‬أنهما‭ ‬مقاربتان‭ ‬تاريخيا‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يفرق‭ ‬بينهما‭ ‬إلا‭ ‬قرن‭ ‬واحد،‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬إنشاء‭ ‬باريس‭ ‬قرب‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الميلادى،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬إنشاء‭ ‬القاهرة‭ ‬قرب‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬الميلادى‭ ‬افى‭ ‬حالة‭ ‬باريس‭ ‬بدأ‭ ‬البناء‭ ‬بقصر‭ ‬وكنيسة‭ ‬وأسوار،‭ ‬وفى‭ ‬القاهرة‭ ‬بدأ‭ ‬البناء‭ ‬بالقصرين‭ ‬الشرقى‭ ‬الصغير‭ ‬والغربى‭ ‬الكبير‭ ‬وبجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬والأسوارب‭.‬

نشأت‭ ‬باريس‭ ‬على‭ ‬جزيرة‭ ‬إيل‭ ‬دو‭ ‬لا‭ ‬سيتيه‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬نهر‭ ‬السين،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قلعة‭ ‬مرتفعة‭ ‬محاطة‭ ‬بالأسوار‭ ‬لتسهل‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬الأعداء‭ ‬الذين‭ ‬إن‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬النهر،‭ ‬فلن‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬اجتياز‭ ‬الأسوار،‭ ‬ولم‭ ‬تعبر‭ ‬باريس‭ ‬النهر‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬لوتاس‭ ‬إلى‭ ‬ضفتيه‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬الثانى‭ ‬عشر‭ ‬عندما‭ ‬تكاثرت‭ ‬مبانيها،‭ ‬وكانت‭ ‬جميعها‭ ‬محاطة‭ ‬بالأسوار،‭ ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬يمكن‭ ‬الدخول‭ ‬لباريس‭ ‬من‭ ‬الفتحات‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬السور‭ ‬القديم‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تحمل‭ ‬أسمائها‭ ‬القديمة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬أيضا‭ ‬محاطة‭ ‬بالأسوار‭ ‬وكان‭ ‬الدخول‭ ‬إليها‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أبواب‭ ‬محددة‭ ‬لاتزال‭ ‬ثلاثة‭ ‬منها‭ ‬قائمة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ "‬باب‭ ‬الفتوح‭ ‬والنصر‭ ‬وزويلة‭". ‬

على‭ ‬امتداد‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬الميرى‭ ‬عن‭ ‬الرصد‭ ‬والمقارنة‭ ‬بين‭ ‬العمارة‭ ‬وتخطيط‭ ‬الشوارع‭ ‬وتحركات‭ ‬البشر،‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالسلوكيات‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬المقارنة‭ ‬فى‭ ‬صالح‭ ‬القاهرة‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭.‬

لكن‭ ‬الصورة‭ ‬ليست‭ ‬وردية‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬فالبلد‭ ‬الهادئ‭ ‬تحته‭ ‬بركان‭ ‬يغلى‭ ‬يهدد‭ ‬حياة‭ ‬سكانه،‭ ‬يقول‭ ‬الميرى‭ ‬إن‭ ‬فرنسا‭ ‬مؤهلة‭ ‬تماما‭ ‬لقيام‭ ‬حرب‭ ‬أهلية،‭ ‬نتيجة‭ ‬الانقسام‭ ‬الجغرافى‭ ‬والبطالة‭ ‬والعنصرية‭ ‬المبطنة‭ ‬امدينة‭ ‬نيم‭ ‬التى‭ ‬أقمت‭ ‬فيها‭ ‬شهورا‭ ‬طويلة‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬بين‭ ‬2010‭ ‬و2020‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬فيها‭ ‬انقساما‭ ‬جغرافيا‭ ‬واضحا‭ ‬تماما،‭ ‬فالأحياء‭ ‬التى‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة‭ ‬لا‭ ‬يسكن‭ ‬فيها‭ ‬فرنسيون‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭"‬ب‭ ‬لهذا‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬انتخاب‭ ‬مارين‭ ‬لوبن‭ (‬زعيمة‭ ‬حزب‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭) ‬رئيسة‭ ‬للجمهورية‭ ‬الفرنسية‭ ‬فى‭ ‬انتخابات‭ ‬العام‭ ‬القادم‭ ‬فستقوم‭ ‬بتكليف‭ ‬الجيش‭ ‬بمهاجمة‭ ‬هذه‭ ‬الأحياء‭ ‬الطرفية‭ ‬لتجميع‭ ‬الشباب‭ ‬المغاربى‭ ‬العاطل‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬وترحيله‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭!‬