لحظة وعى

المصريون وثورة الوجود

سلمى‭ ‬قاسم‭ ‬جودة
سلمى‭ ‬قاسم‭ ‬جودة

لحظة واحدة قاطعة.. آمرة ناهية تفصل بين الوجود والعدم.. أن تكون مصر أو لا تكون، فعلى حافة فقدان الهوية كنا، على أعتاب هاوية تبديد الذاكرة، التاريخ، الجغرافيا والتحول إلى قطرة دماء على خارطة الأوطان ليتقزم الوطن ويصبح بحجم جماعة وفروعها الإظلامية فيتم تغييب الوعى ووأد أعرق الحضارات، لكن المصرى المحمل بچينات ٧ آلاف عام من الحكمة، وأضواء المجد وعبقرية البقاء لا يعرف الهزيمة، يروض اللحظات الحرجة المحدقة بالخطر فيكون دوما على موعد مع الخلاص، وقد كان.. فى يونيو كانت الذروة، الرفض، الغضب، الخوف، التمهيد لليوم الثلاثين حيث التجليات الباهرة للنجاة، ويسطع الرصيد النفيس للشعب المصرى من الفكر، التراث، الإبداع فتكون إرهاصات ثورته من خلال النخبة المثقفة حيث يتماهى معها الشعب بأسره وأذكر كلمات إيزيس: « أنا كل ما كان، كل ما يكون، كل ما سيكون، قناعى لم يكشفه بعد إنسان»..

لا أحد يمتلك مفاتيح الشعب المصري، هو العصى على الفهم، ومن ثم تفشل المؤامرات التى تنشد النيل منه، هو بمثابة الفخ المحكم، فلقد ظنت الجماعات المتأسلمة ومن يخطط لها أن مصر صارت فريسة سائغة، والدين يسكن أفئدة المصريين بكل مظاهره، ومن هنا يكون المدخل، لكن الشخصية المركبة، الحافلة بالتناقضات، كانت بمثابة حائط الصد، فالتركيبة المصرية مطلسمة، ثرية، هى الصادحة بالمفاجآت وبغير المتوقع فى أغلب المواقف، فبينما يظن البعض أنها رضخت واستسلمت، نجد المصرى المتمرد، الثائر وأكثر ما يخشاه هو تبديد هويته، أذكر بكل الأسى الفادح فى ٢٠١٢ عندما تحول البرلمان المصرى العريق إلى برلمان قندهارى ــ مع احترامى للجميع ــ المصريون انتفضوا عبر التاريخ بكل صلابة وقوة وعزيمة فى كل اللحظات الفارقة التى تقتضى تلاحمهم وتضحياتهم، التاريخ دوما هنا يعيد  نفسه لأن المصرى هو المصرى منذ ٧ آلاف عام، الفن والإبداع والتنوير هى الدعائم المتجذرة فى أعماقه السحيقة، وتلك الأقانيم هى بمثابة  طوق النجاة الأبدي، فمن يكتنز فى تاريخه المديد المجد الفرعونى أصل كل الحضارات الإنسانية فنحن أبناء القمر الذى أضاء ذات فجر عظيم أرجاء الكون الفسيح، فمن يحظى فى تراث وطنه بأساطير الفكر، الأدب، الفن والعلم والشعر لا يموت، فمن ارتشف ذات النسيم الخالد الذى ارتشفه د.طه حسين، العقاد، نجيب محفوظ، ثروت أباظة، توفيق الحكيم، يوسف إدريس، يوسف السباعي، إحسان عبدالقدوس، أحمد شوقى، على محمود طه، محمود سعيد، محمد ناجي، محمود مختار، د.جمال حمدان، سيد درويش، محمد عبدالوهاب، عبدالحليم، أم كلثوم، فاتن حمامة، حسن فتحي، د.مشرفة، د. على باشا إبراهيم، د.مجدى يعقوب، د. نجيب محفوظ، طلعت حرب، مصطفى أمين، محمد التابعى..  هو لا يدركه الفناء، يتربع فوق عرش الثبات.. ويقول العظيم محمود مختار مبدع تمثال «نهضة مصر» الذى جسد روعة ثورة ١٩١٩: «ليس الفن ترفا وإنما هو ضرورة لكل شعب يقدر القوة المعنوية التى يبعثها فى الوطن». وتتكرر المشاهد البليغة عبر العصور، فلقد كان قرار الاكتتاب الوطنى من أجل الحصول على الأموال اللازمة لصنع تمثال «نهضة مصر» حيث اندلع الشعور القومى الجارف الذى يتقنه المصرى عبر تاريخه، فكل حجر من التمثال الخالد يصدح بالروح المصرية الخالدة مثلما ينطق كل حجر فى الأهرامات بتلك الروح العفية القادرة على سحق المحن والمستحيل، وكما حدث فى جمع الأموال المنشودة لتوسيع قناة السويس كان ما كان بالنسبة لنهضة مصر، وأذكر ما اختاره الكاتب الراحل فتحى رضوان من رسائل وصلت إلى جريدته واحدة من عامل فقير والأخرى من تلميذ صغير عام ١٩٢٠: «أننى رجل فقير جدا.. أعمل بالسكك الحديدية يوميتى ٧٠ مليما (سبعة قروش) زوجتى  يتيمة وأمها تقيم معنا.. بينما كنت جالسا أطالع عددا من جريدتكم قرأت عن الاكتتاب لإنشاء تمثال «نهضة مصر» الذى يقيمه المثال محمود مختار فبكيت، وسألتنى زوجتى عن سبب بكائى فأخبرتها عن نهضة مصر وعدم امتلاكنا للنقود الكافية حتى نتبرع فقامت فورا وأحضرت مائة مليم (عشرة قروش) كانت تدخرها لنوائب الدهر، وأحضرت أيضا أمها ٥٠ مليما.. وأنا أرسل لكم طى خطابى هذا المبلغ البسيط، وأرجو ألا تتعجبوا من ضآلته.. وأن تتوسطوا فى قبوله.. والسلام». 

أما خطاب الطفل فيقول: «إن والدى كان يطلعنى على ما كتب فى جريدتكم بشأن نابغة مصر المثال محمود مختار لأعلم أن النبوغ يأتى من الطبقة اللى أنا منها وليس مقصورا على طبقة العظماء- يقصد الأغنياء- وذلك ليحثنى أن أكون عظيما.. مما جعلنى أحب مختار حبا شديدا، وأحب أن أرسل لكم مصروفى كله هذا الأسبوع وهو مبلغ بسيط ٣٠ مليما فقط.. أرجو أن تقبلوه».. 

المصريون قادرون دوما على صنع المعجزة، الأهرامات، العبور فى ٦ ساعات، قناة السويس، دحر السحابة الإظلامية الرامية لتجهيل المجتمع واقتراف عملية إحلال للشعب العريق أول من عرف فى تاريخ البشرية: الدولة، الفن، القانون، الطب والهندسة ليحيا على أمجاده العالم بأسره.