لحظة وعى

سلمي قاسم جودة تكتب :العيد وغواية النوستالجيا

سلمى‭ ‬قاسم‭ ‬جودة‭ ‬
سلمى‭ ‬قاسم‭ ‬جودة‭ ‬

يقبل ويدبر .. يعود.. يشرق ويغيب.. ينثر هذا الفيض المؤثر من الذكريات العصية على المحو.. يتقن التماهى مع ذاكرة الحواس لتكتنز التفاصيل فتظل منقوشة فى غياهب النفس باللون، الطعم، العطر والوجوه الحاضرة الغائبة.. هو العيد يهل يبث البهجة المنعشة، يتوج رتابة الأيام بزينة الحياة.. الأمل وهو فى حد ذاته عيد يبدد الأسى، يدحر المستحيل يفضى إلى الرغبة وتابعها الإرادة، فالأمل والحلم صنوان هما بمثابة الترياق السحرى للوجود.. يأتى العيد محملا بالعتيق من الطقوس وبالجديد الطازج.. وأذكر ماسطره جبران «الأمل فى دخول الفردوس هو فى حد ذاته فردوس»..

الآن أخوض فى الطبقات الزمنية.. النسيم الصباحى بلون البنفسج، أتنفس رحيق بكارة النهار، شرفات البناية تزف رائحة الفل والياسمين، مظاهر الاحتفاء بالعيد قائمة منذ أيام، الأثواب الجديدة الوردى والزهري، الحرير والمخمل، بقايا الخيوط الزاهية الملونة عالقة فى المكان، زهوة قصاقيص الأقمشة تشى بدنو الحدث المبهج، أعشق تلك الأيام المشحونة بفوران اللهفة، الخفة، وترقب الفرح، الزمن يزحف تارة فى بطء وتارة يميل للجموح، أشعر بلوعة الانتظار غير المحتملة، قطع الحلوى البيتى فور، الكعك ببياضه الثلجي، ونعومة السكر المنثور تحاكى قمم الجبال الجليدية، البناية تتحول إلى خلية للبهجة، البيوت الموصدة هاهى فاتحة أبوابها للقادم. ترحب، الجيران عائلة واحدة سبيكة واحدة مجوهرة، مشاهير ونجوم زينوا ذات يوم سماء المحروسة، بالرغم من أعوامى الشحيحة وزينة اللاوعى الطفولية، أكاد أرتشف وأتنفس رحيق الأيام التى كانت ــ المبللة بماء الزهر والورد ــ نحن الآن فى الدور 8 منزل د. زكى سويدان أشهر طبيب أمراض باطنة عرفته مصر، سوف تلتقى فى هذا البيت العامر بالكرم والحفاوة الدائمة بأساطير الفن، الصحافة والسياسة، فى الشقة المجاورة وزير المواصلات الأسبق محمود رياض شقيق الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض، عبدالحليم حافظ هنا فى الدور السابع، الشاعر الأشهر حسين السيد، الدور الثاني، المصور العظيم وحيد فريد الدور السادس، فى منزل د. سويدان اكتنزت خزائن طفولتى، حضور الموسيقار كمال الطويل، صباح ومديحة يسرى هما فى البناية الكويتية الملاصقة للعمارة السعودية، عبدالحميد الحديدى رئيس الإذاعة الأسبق وابنته المذيعة الرائعة هالة الحديدى زوجة الشاعر الاستثنائى فاروق شوشة، أما زوجة د.زكى سويدان فيفى هانم فهى سيدة جميلة شقراء لها ضحكة مميزة مجلجلة تستدعى فى لحظة كل موسيقى الكون لتصدح أهازيج الوجود، أتأمل شفاه النساء المليحات ملونة بلون الورد تحاكى الأزهار اليانعة، أمى تصبغ شفتيها بنمرة 3 لديور، لا تغير الروج، أطباق الكعك متناثرة على الطاولات فى الصالون تضاهى القباب الشهباء، حتى الآن كلما تذوقتها تحيلنى إلى ذات الذوبان الأشبه بالقطيفة لتلك الأيام الخوالى، البيوت يغمرها الونس والمحبة الصافية، الخالصة، الكل يأتى بدون موعد ولا موبايل ولا تليفون، ها هو عبدالحليم مع د.سويدان الذى يشبه النجم الأمريكى شديد الوسامة وليم هولدن بطل (سبرينا) مع أودرى هيبورن، يعطينى ما يسمى (بالعيدية) رزمة ضخمة شاهقة من (الشلنات) أو ورق الخمسة قروش الجديدة، تزينها نفرتيتى، أخال نفسى الآن فاحشة الثراء، هكذا تتلقى أعوامى الشحيحة تلك الثروة الهابطة عليّ، المكان يعج بالصخب المحبب، فوران بهجة الحياة، النجاح، والتألق، الحياة حلوة تحيلنى الآن ذاكرتى إلى لبنان، العيد فى بيروت الجميلة، تلك الحورية نصف البحرية نصف الجبلية، نحن الآن أمى وأنا فى منزل خالتها ميرى بشارع الحمرا، العيد هنا بطعم المعمول مشرب بماء الزهر وحبات الفزدق أشبه بخضرة الزمرد، الصوت الملائكى لفيروز ينثره هواء بيروت المشبع برائحة القهوة ويود البحر، المدينة أشبه بمحارة مكتظة باللآلئ ومحاصرة بالمطامع والتلمظ الكئيب، ربما العيد الحقيقى يكمن فى القدرة على اقتفاء أثر الأمل والاستمتاع بالطقوس البسيطة، والأمل هو الوجه الكامن وراء كل شيء، تلك الجذوة القادرة على شحذ الهمم، وإنعاش المناعة كى نقاوم حتى فى أحلك اللحظات وأكثرها هشاشة. «لا تفقد الأمل حتى لو وجدت نفسك فى مكان ضيق تسير فيه الأمور كلها لغير صالحك، حتى فى هذه الحالة لا تفقد الأمل، فقد يكون هذا المكان نفسه وهذا الوقت نفسه اللذان عانيت فيهما منطلقا لخلاص جديد» كتب شو، وسطرت إميلى دكنسون: «للأمل أجنحة ذوات ريش يرفرف متغلغلا فى الروح يغنى بلا كلمات، ويعزف اللحن بلا توقف فنسمع أحلى الألحان حتى عند هبوب العاصفة»، «يأتى الموت عندما نتوقف عن الحلم».. هكذا قالت إما جولدمان.