بسبب كورونا .. المتاحف اليابانية تتيح لعشاقها جولات افتراضية مثيرة 

المتاحف اليابانية
المتاحف اليابانية

أدت جائحة كورونا إلى تسريع وتيرة هجرة الأنشطة الثقافية إلى الفضاء الإلكتروني، مما دعا البعض إلى التشكيك في مستقبل الفنون، يناقش تاتيهاتا أكيرا، الذي يعمل مدير متحف ورئيس المجلس الياباني لمتاحف الفن، دور المتاحف في المجتمع الياباني وآفاق بقائها في عصر كورونا وما بعده.

اقرا ايضا|أول عيد لـ«قاعة المومياوات الملكية».. 22 ملكًا وملكة ينتظرون الزوار
في 7 أبريل 2020، أعلنت الحكومة اليابانية حالة الطوارئ لمواجهة تفشي فيروس كوفيد-19 وأغلقت المتاحف اليابانية أبوابها على الفور أمام الجمهور.

لا شك أن حالة الإغلاق التي استمرت حتى رفع حالة الطوارئ بعد مرور حوالي شهرين، كان لها تأثير سلبي على المتاحف التي كانت تكافح لتعديل جدول عملها ومحاولة إيجاد أنسب أسلوب للتفاعل مع الجمهور.

الزوار هم شريان الحياة لأي معرض

يتذكر تاتيهاتا أكيرا قائلاً ”في الفترة التي سبقت فرض حالة الطوارئ كانت هناك عدة متاحف منهمكة في إقامة معارض خاصة، وفي بعض الحالات انتهت المعارض قبل أن تتمكن المتاحف من فتح أبوابها للزوار مرة أخرى، بالنسبة لمتحف الفن الحديث في سايتاما، فقد كان يقيم معرضًا للوحات النادرة المرسومة بالحبر للرسام موريتا تسونيتومو [1881-1933] عندما تم إعلان حالة الطوارئ. هذه الرسومات بالحبر تتلاشى بسرعة بمجرد تعرضها للضوء، لذلك يجب تحريكها بانتظام واستبدال مجموعة بأخرى. ولما كنا لا نعلم متى سيفتح المتحف أبوابه مجدداً، فقد أخذنا نحرك اللوحات التي لم يكن أحد يأتي لرؤيتها. لقد كان هذا حقاً مضيعة للوقت“.

على الرغم من أن بعض المتاحف شرعت في تطبيق تجربة المعارض الافتراضية، إلا أن تاتيهاتا يرى أن الإغلاق قد أبرز أهمية حضور الجمهور. يقول: ”الزوار الحقيقيون هم شريان الحياة للمعارض، فالصحف لن تهتم بتغطية معرض غير مفتوح للجمهور.“

بعد رفع حالة الطوارئ الأولى، أعيد فتح العديد من المتاحف في ظل إرشادات صارمة للحفاظ على السلامة، بما في ذلك التذاكر المسبقة التي تم ضبطها في أوقات محددة لمنع الازدحام. ظلت معظم المتاحف مفتوحةً خلال حالة الطوارئ الثانية التي أُعلنت في يناير 2021.

يتذكر تاتيهاتا: ”عندما فتحنا أبوابنا مجددًا واستعملنا تذاكر موقتة وغيرها من إجراءات السلامة المعمول بها، أخبرنا الناس عن مدى الارتياح الذي يشعرون به لتمكنهم من الزيارة، أدركت حينها أنهم كانوا يأتون إلى المتحف بحثًا عن الراحة والشفاء بقدر ما كانوا يأتون لمشاهدة الأعمال الفنية، وكان من دواعي سرورنا“.

التجربة الرقمية

مع استمرار حالة الطوارئ الأولى، وسعت المؤسسات من نطاق استخدامها للتكنولوجيا الرقمية على أمل إعادة إنشاء تجربة المعرض عبر الإنترنت.

يعد المعرض جزئياً تجربة في أحضان فضاء المتحف، لذلك فخلال فترات الإغلاق المؤقتة حاول عدد قليل جدًا من المنشآت، بما في ذلك متحف موري للفنون والمتحف الوطني للفن الحديث في طوكيو، تقديم تجربة افتراضية بزاوية 360 درجة للمستخدمين عبر الإنترنت باستخدام تقنية افتراضية مماثلة لتقنية التجول الافتراضي التي يقدمها جوجل، لكن المشكلة هي أنه بمجرد أن يعتاد الناس على الفكرة ويزول بريقها، يبدؤون بالشكوى من أنها تنتقص من تقديرهم للفن وإحساسهم به.

”لكن هناك أنماط أخرى واعدة للتفاعل عبر الإنترنت جاري تجربتها. على سبيل المثال، هناك مواقع الويب التي تتيح للمستخدمين، من خلال النقر فوق عمل فني معين، الوصول إلى المواد التكميلية، مثل الخلفية الفنية والمقابلات مع الفنان وصور الأعمال ذات الصلة غير المعروضة “.

يعتقد تاتيهاتا أن استخدام تكنولوجيا الإنترنت لتعزيز واستكمال تجربة المتحف سيستمر حتى بعد انحسار الوباء.

”إن التربية الفنية من الوظائف الرئيسية للمتاحف جنباً إلى جنب مع الحفاظ على الفن وعرضه، وكجزء من البرنامج التعليمي لمتحفنا، نقدم ورش عمل فنية وحرفية في مختلف المجالات وتتميز بإمكانية إجرائها عن بُعد. كما نقوم في جامعة تاما للفنون بتقديم شيء على هذا المنوال لطلابنا الدوليين الذين لا يمكنهم القدوم إلى اليابان، يقوم الطلاب بإنشاء أعمال فنية في منازلهم باستخدام المواد المتاحة لهم، ثم يقومون بتحميل الصور أو مقاطع الفيديو التي تعرض العملية الإبداعية والتعليق على ابتكارات بعضهم البعض عن بعد. من الضروري إتاحة هذه التقنيات للمتاحف كي تتمكن من توظيفها في أغراضها التعليمية“.

نهاية ظاهرة ”المعارض الناجحة“؟

من السمات المميزة لعالم المتاحف في اليابان بروز ظاهرة ”المعارض الناجحة“ التي ترعاها بشكل مشترك المتاحف الكبرى وشركات الإعلام الكبرى، وهي تعرض كنوزًا فنية نادرة أو روائع لفنانين غربيين مشهورين، صممت لجذب حشود ضخمة من الزوار يومياً، مما يضمن عائدًا جيدًا.

”لسنوات، نجح نهج الرعاية المشتركة لكلا الجانبين، حيث قدمت شركات الإعلام الكبرى الموارد المالية والبشرية اللازمة لاقتراض الأعمال الفنية الأجنبية من الدرجة الأولى ونشر كتالوجات فخمة والإعلان عن الأحداث الهامة، في حين عملت المتاحف على توفير مساحة العرض والخبرة التنسيقية. غالبًا ما كانت هذه المعارض مربحة للغاية، على الرغم من أن فرصة الرعاية المشتركة كانت مقصورة على المتاحف الكبرى في طوكيو والمدن الكبرى الأخرى“.

لكن الجائحة قوّضت أسس نموذج الأعمال هذا. فبموجب إرشادات التباعد الاجتماعي، لم تعد الأماكن المزدحمة خيارًا متاحاً كما تضاءل التفاعل والتعاون مع المؤسسات الخارجية.

”بطريقة ما، يمكن القول إن المتاحف اضطرت للعودة إلى وظيفتها الأصلية. لذا أعتقد أن الجائحة قد منحتنا فرصة لإعادة توجيه بوصلتنا فيما يتعلق بكيفية جذب الزوار ورد الجميل للمجتمع، فضلاً عن مراجعة علاقة قطاع المتاحف بالسياحة“.

المتاحف ولغة السوق

ركزت سياسة الإنعاش الاقتصادي التي اتبعها رئيس الوزراء السابق آبي شينزو بشكل كبير على السياحة الوافدة كمفتاح للنمو الاقتصادي طويل الأجل. من عام 2012 إلى عام 2019، تضاعف عدد الأشخاص الذين زاروا اليابان من الخارج أربع مرات تقريبًا، وقد استفاد قطاع المتاحف من ذلك بالتأكيد. إلا أن هذا الاتجاه توقف بشكل مفاجئ في عام 2020.

يقول تاتيهاتا: ”في السنوات الأخيرة، مثّل السياح الأجانب نسبة كبيرة من إجمالي زوار المتاحف في اليابان.  بالطبع يسعد إدارة أي متحف أن يتم اعتباره معلماً لجذب السياح، لكن قيمة المتحف الحقيقية تتجاوز مجرد مساهمته في الاقتصاد“.

يقودنا هذا إلى الحديث عن مفهوم ”المتاحف الناجحة“ المثير للجدل الذي طرحته لجنة حكومية في عام 2018.

 فملاحظة الوضع المالي الضعيف للعديد من المتاحف اليابانية، دعا الاقتراح إلى إجراء تغييرات ضريبية وإصلاحات أخرى لتشجيع المتاحف المعينة على وضع بعض مقتنياتها مرة أخرى في السوق. كان الهدف من الاقتراح هي تعزيز الموارد المالية لـ ”المتاحف الناجحة“ والتشجيع على تطوير بعض المجموعات الفنية ذات المستوى العالمي، مما يزيد من تحفيز السياحة الوافدة.

يقول تاتيهاتا: ”لقد أثار الاقتراح رد فعل شرس في أوساط المتاحف“. في يونيو 2018، أصدر المجلس الياباني للمتاحف الفنية، الذي يترأسه تاتيهاتا، بيانًا يؤكد فيه أن المشاركة المباشرة في السوق لا ينبغي أن تكون هدفاً لإدارة المتحف. وقال البيان إن المتحف هو ”مؤسسة اجتماعية وتعليمية غير ربحية“ هدفها ”اقتناء مجموعات فنية بشكل منهجي“ يتماشى مع سياسات الاقتناء الخاصة بالمتحف و ”الحفاظ عليها في حالة جيدة للأجيال القادمة“. يجب أن يكون هناك خط واضح يفصل بين تلك المهمة الثقافية السامية وبين اقتناء المجموعات الفنية كوسيلة للاستثمار.

يبدو أن الاقتراح قد تم تأجيله.

توفير الدعم للبرامج المبتكرة

ربما كان مفهوم ”المتاحف الناجحة“ هو الوصفة الخاطئة، لكن المشاكل المالية التي حددتها اللجنة حقيقية. تعتمد معظم المتاحف اليابانية على التمويل الحكومي وهو محدود ويفتقر إلى الموارد اللازمة للقيام ببرامج طموحة، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلت وسائل الإعلام الكبرى تلعب مثل هذا الدور الرئيسي في تنظيم المعارض الكبرى.

”من الجيد أن تتاح للزائرين فرصة مشاهدة أعمال فان جوخ وبيكاسو، ولكن هناك تركيز كبير جدًا على إرضاء الجماهير التقليدية المضمونة بينما لا يوجد دعم كاف للمشاريع أو المعارض المبتكرة التي تقدم فنانين آخرين مهمين وإن كانوا أقل شهرة.“

في الغرب، يعد الارتباط بين وسائل الإعلام والمتاحف أمراً نادرًا جدًا. غالبًا ما يتم دعم المتاحف في أوروبا من خلال إعانات حكومية سخية، وفي الولايات المتحدة يتم دعم المتاحف الكبرى مثل متحف الفن الحديث في نيويورك عن طريق الهبات الخاصة والتبرعات المعفاة من الضرائب ورسوم الدخول، كما أن التبرعات للأعمال الفنية معفاة من الضرائب.

يقول تاتيهاتا: ”إن النقاش مفتوح حول ما إذا كان النموذج الأمريكي هو الأفضل، ولكن يجب على اليابان بالتأكيد أن تقدم إعفاءات ضريبية أكثر سخاء للمانحين المحتملين. فإذا تمكنت المتاحف من الاعتماد بشكل أكبر على التمويل القادم من التبرعات الفردية والشركات، فسيمكنها التخطيط لمعارضها بشكل أكثر حرية بدلاً من القلق الدائم بشأن التكلفة النهائية. كذلك قد يكون التمويل الجماعي خيارًا آخر يجب وضعه في الاعتبار“.

إغاثة متأخرة للفنانين

معظم المتاحف اليابانية المدعومة من قبل الحكومة ليست في خطر مالي وشيك. في الواقع، لقد وفر الكثير منها المال أثناء فترة الإغلاق المؤقت. يقول تاتيهاتا إن أكثر فئة، من بين الفئات التي تعمل في مجال الفن، تأثرت بالقيود المفروضة لمواجهة الوباء هي المعارض الخاصة والفنانين المعاصرين الذين يعرضون أعمالهم ويبيعونها.

كجزء من الميزانية التكميلية الثانية للسنة المالية 2020، خصصت الحكومة المركزية ما مجموعه 50.9 مليار ين في شكل إعانات لدعم استمرار الفنون الثقافية والأنشطة الرياضية. تمت الموافقة على مخصصات الفنون نتيجة ضغط قوي من قبل المجلس الياباني للدفاع عن حقوق فناني الأداء ومنظمات الفنون المسرحية Geidankyō، وتم ضم فئة الفنانين المستقلين في اللحظة الأخيرة.

يوضح تاتيهاتا: ”لن تتحرك الحكومة نيابة عن الفنانين ما لم يتمكنوا من إيصال أصواتهم، بالإضافة إلى ذلك، هناك تصور شائع عن الفن المعاصر بأنه غامض ولا يمكن الوصول إليه، مما يجعله على الأرجح أقل أولويةً في أذهان بعض الناس. أعتقد أن تثقيف الجمهور حول الفن المعاصر هو أحد المهام الرئيسية لمتاحف الفن اليوم “.

في يوليو2020، بدأت وكالة الشؤون الثقافية في قبول طلبات الحصول على مساعدات من الفنانين المستقلين الذين تأثرت أنشطتهم سلبًا بالوباء، على سبيل المثال الرسامين الذين لم يتمكنوا من عرض أعمالهم في صالات العرض. وعلى أمل تسريع العملية، أنشأت وكالة الشؤون الثقافية هيئة لاعتماد الفنانين المؤهلين بالتعاون مع جمعية الفنانين اليابانيين.

لسوء الحظ، ثبت أن عملية الاعتماد والتقديم معقدة وتستغرق وقتًا طويلاً، وحتى أولئك الذين تمت الموافقة عليهم اضطروا إلى الانتظار لأسابيع حتى يحصلوا على الأموال. ومع ذلك، ينظر تاتيهاتا إلى إنشاء جهاز الإغاثة على أنه تقدم ملحوظ.

المتاحف عنصر فاعل في المجتمع

في نهاية المطاف، يعتقد تاتيهاتا أنه يجب على المتاحف الاضطلاع بدور أكبر وأكثر تنوعاً في تثقيف المجتمع.

يقول تاتيهاتا: ”لا يمكن للمتاحف أن تعيش بدون دعم المجتمع المدني“ يقال إن تطور الوعي المدني كان بطيئًا في اليابان لأسباب تاريخية. أود أن يعتبر الشعب الياباني متاحف الأمة ملكًا له لأنه يدعمها بضرائبه، كما أود أن تلعب المتاحف دورًا محوريًا في تشكيل وعي مدني أقوى بين السكان المحليين”.

رؤية واضحة لتعظيم الدور الثقافي للمتاحف

”لا شك أن الطريقة الأساسية التي تخدم بها المتاحف الناس هي عن طريق عرض الأعمال الفنية الجميلة ليروها، لكن يمكن للمتاحف أيضاً أن تؤدي دوراً هاماً في تثقيف المجتمع، حيث يمكن استغلال المساحات الواسعة بالمتاحف لعقد المحاضرات والندوات والحفلات الموسيقية. علاوة على ذلك، يمكن توظيف مساحة المتحف الواسعة كوسيلة لنشر المعلومات، مما يفتح الباب أمام جميع الاحتمالات الإبداعية. على سبيل المثال، أود أن أحاول تنظيم مسرحيات تتحرك داخل المتحف، ودمج صالات العرض المختلفة في العرض المسرحي. حتى بدون المعارض الضخمة، أعتقد أنه يمكننا البقاء كمراكز ثقافية في مجتمعاتنا“.

ستستمر المتاحف بلا شك في استخدام التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا التحكم عن بعد حتى بعد انحسار أزمة كوفيد-19 لكن الجائحة قد تزيد أيضًا من تقدير الناس لقيمة التجربة الحية المباشرة التي لا يمكن أن يقدمها سوى المتحف. يقول ”من الممكن في النهاية أن تكون كل هذه المعارض الافتراضية أداةً لتعزيز الطلب على الشيء الحقيقي“.

في العديد من المدن الغربية، أدى الوباء إلى عمليات إغلاق مطولة، مما أجبر المتاحف الكبرى على تسريح الموظفين في محاولة لتقليص نفقاتها. تواجه المؤسسات الثقافية حول العالم أزمة وجودية في الوقت الذي تكافح فيه لاستيعاب أنماط التفاعل الثقافي المتغيرة. حتى في خضم هذه الاضطرابات، يعتقد تاتيهاتا أن للمتاحف دور فريد وأساسي لتلعبه وأنها لن تظل باقيةً فحسب، بل ستزدهر في اليابان بعد انتهاء الجائحة.