قصص القرآن للشعراوي: صرح ممرد من قوارير

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يقول الحق: «قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ» قوله: «نَكِّرُواْ» ضده عرِّفوا؛ لأنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها فى سبأ، ولو رأتْه على حالته الأولى لقالتْ هو هو، ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال «نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا» يعني: غيّروا بعض معالمه، ومنه شخص متنكر حين يُغيِّر ملامحه وزيّه حتى لا يعرف مَنْ حوله. «نَنظُرْ أتهتدى أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ» تهتدى إيماناً إلى الإسلام، أو تهتدى عقلياً إلى الجواب فى مسألة العرش.

«فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» جاء السؤال بهذه الصيغة «أَهَكَذَا عَرْشُكِ» ليُعمِّى عليها أمر العرش، وليختبر دقة ملاحظتها، فلو قال لها: أهذا عرشك؟ لكان إيحاءً لها بالجواب إنما«أَهَكَذَا عَرْشُكِ» كأنه يقول: ليس هذا عرشك، فلما نظرتْ إليه إجمالاً عرفتْ أنه عرشها، فلما رأتْ ما فيه من تغيير وتنكير ظنتْ أنه غيره؛ لذلك اختارتْ جواباً دبلوماسياً يحتمل هذه وهذه، فقالت «كَأَنَّهُ هُوَ» وعندها فهم سليمان أنها على قَدْر كبير من الذكاء والفِطْنة وحصافة الرأى. وكذلك كلام السَّاسَة والدبلوماسيين تجده كلاماً يصلح لكل الاحتمالات ولأىّ واقع بعده، فإذا جاء الأمر على خلاف ما قال لك يسبقك بالقول: ألم أَقُلْ لك كذا وكذا.


ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبى سفيان للأحنف بن قيس: يا أحنف لماذا لا تسبّ علياً على المنبر كما يسبّه الناس؟ فقال الأحنف: اعفنى يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: عزمتُ عليك إلاَّ فعلْتَ، فقال: أما وقد عزمت عليَّ فسأصعد المنبر، ولكنى سأقول للناس: إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أنْ ألعنَ علياً، فقولوا معي: لعنه الله. عندها قال معاوية: لا يا أحنفُ، لا تقل شيئاً.

لماذا؟ لأن اللعن فى هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى عَلِيّ؟، وكذلك قالتْ بلقيس جواباً دبلوماسياً «كَأَنَّهُ هُوَ»،ثم يقول الحق: «قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» الصَّرْح: إما أن يكون القصر المشيد الفخم، وإما أن يكون البهو الكبير الذى يجلس فيه الملوك مثل: إيوان كسرى مثلاً، فلما دخلتْ «حَسِبَتْهُ لُجَّةً» ظنَّته ماءً، والإنسان إذا رأى أمامه ماءً أو بَلَلاً يرفع ثيابه بعملية آلية قَسْرية حتى لا يصيبه البَلَل؛ لذلك كشفتْ بلقيس عن ساقيها يعني: رفعتْ ذَيْل ثوبها.وهنا نَبهها سليمان «إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ» يعني: ادخلى لا تخافى بللاً، فهذا ليس لُجةَ ماء، إنما صَرْح ممرد من قوارير يعني: مبنيٌّ من الزجاج والبللور أو الكريستال، بحيث يتموج الماء من تحته بما فيه من أسماك.


«قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِي» بالكفر أولاً، وبظنِّ السوء فى سليمان، وأنه يريد أنْ يُغرقنى فى لجة الماء «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين» ويبدو أنها لم تنطق بكلمة الإسلام صريحة إلا هذه المرة، وأن القول السابق «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» كان من كلام سليمان عليه السلام.

وقولها «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ» ولم تقُلْ: أسلمتُ لسليمان، نعم لقد دانتْ له، واقتنعتْ بنبوته، لكن كبرياء الملك فيها جعلها لا تخضع له، وتعلن إسلامها لله مع سليمان؛ لأنه السبب فى ذلك، وكأنها تقول له: لا تظن أنِّى أسلمتُ لك، إنما أسلمتُ معك، إذن: أنا وأنت سواء، لا يتعالى أحد منا على الآخر، فكلانا عبد لله.