طـين المقابر

كيف يصنع الشكلُ مضمونا قوياً؟

طين المقابر
طين المقابر

كتب:أحمد الزناتى

أحب الأدب الأيرلندى على وجه العموم. ويبدو أن العقلية الأيرلندية مجبولة بفطرتها على الهجاء والسخرية الحادة من أحوال البلاد والعباد. بحسب معرفتى المتواضعة خرجَت أغلب الأقلام الأوروبية لاذعة النبرة من عباءة الأدب الأيرلندى، بداية من جوناثان سويفت مؤلف رحلات جليفر، مرورًا بأوسكار وايلد وصولًا إلى جورج بيرنارد شو وجيمس جويس وسى. إس. لويس، وإن تباينتْ حـدّة ألسنتهم باختلاف أذواقهم ومشاربهم وبحسب رؤية كل فنان بطبيعة الحال، لكن ما يجمعهم هو الوصف المفعم بالحيوية وثراء اللغة، فضلًا عن ألسنتهم الحِداد. 
خـيرًا فعل المترجم حينما صـدّر ترجمته بمقدمة وافية أضاء فيها جوانب عدة من هذه الرواية المهمة: رواية طين المقابر للروائى الأيرلندى مارتين أوكاين (1906-1970) الصادرة حديثًا بترجمة الشاعر والمترجم المصرى عبد الرحيم يوسف عن لغة وسيطة هى الإنجليزية، بذل فيها مجهوداً واضحًا فى مقارنة الترجمتين الإنجليزيتين اللتين أُنجزتا عن الأيرلندية. فهذا النوع من الروايات الثقيلة يحتاج إلى خارطة طريق ترشده فى رحلته الطويلة (تقع ترجمة الرواية فى 466 صفحة). نـوّرَ المترجم قارئه بعبارة مهمة:» فكرة أن الموتى لا يصمتون هى ما تمنح الرواية الحياة». وهذه هى اللفتة القوية التى منحت العملَ قيمته فى اعتقادى. التقابل الذى يصنع أدبًا جديرًا بالقراءة.
جذبت انتباهى فى المقدمة إشارة سريعة ولافتة إلى فكرة التجريب المستمر للوصول إلى الشكل الفنى الذى يرضى الكاتب، وويل للكاتب لو رضى عن نفسه. واصل أوكاين بعد نشر مجموعته القصصية الأولى «بين الهزل والجد» البحث عن الأسلوب أو شكل الكتابة الأمثل بالنسبة إليه. مـرّ الرجل بخبرة مهمة زادت من عزمه على أن يكون كاتبًا حينما عثر بمحض الصدفة على نسخة من مجلة فرنسية وقع فيها على ترجمة إحدى قصص مكسيم جوركى. ما إن قرأها الرجل حتى قفز من سريره وقال: «لماذا لم يخبرنى أحد بوجود مثل هذه القصص؟» تذكرنا هذه الواقعة بعبارة شبيهة قالها جارثيا ماركيز بعد قراءة السطر الأول من قصة «المسخ» لكافكا لأول مرة فى حياته، إذ قفز من سريره وقال: اللعنة.. هكذا تتحدث جدّتي.. هل تُكتب القصص هكذا؟
الشكل الفنى الذى اختاره الكاتب قديم، لكنه أُلبِسَ رداءً جديدًا فى شكل رحلة عصرية إلى العالم الآخر على غرار رحلات لوقيانوس السميساطى والمعرى ودانتى، ولكن بينما كانت رحلات الأولين مصبوغة بصبغة فلسفية لاهوتية تفيض بمشاعرالتوبة أو الحِكمة أو الندم والموعظة، لا تصطبغ رحلة أوكاين العصرية إلا بألسنة الناس الحادة كالسيوف ورغبتهم فى مواصلة نمط حياتهم الأرضي.
لا يمكننا القول إنهارواية أحداث، أقصد أحداثًا دراميةبالشكل التقليدي:بداية وتصاعد درامى ونهاية. مصدر الدراما هنا، بحسب قرائتى، هو شجار الشخصيات، وثرثرتها، صخب الكلام وعنفه، النفسيات المتأزمة والمتأذية بما وقعلهافوق الأرض. ومن ثمّ فالشكل الفنى هو البطل الرئيس فى العمل، الشكل الذى يتخذ هيئة حـوار طويل مثل سيمفونية لا نهائية، البطل هو اللت والعجن على طريقة «الستات الفاضية»، لكن بمواصلة القراءة يكتشف القارىء أنه أمام كاتب يملك ناصية أدواته، يضع نصب عينيه إصابة هدف أبعد، حيث عثر فى هذا الشكل على ضالته، وعرِف كيف يختار القالب الفنى الأمثل لصوغ أفكاره. 
الحدث الجوهرى هنا هو فعل الكلام نفسه. ربما (وأقول ربما من باب الاجتهاد والظن) طوّر مواطنه الأيرلندى صمويل بيكيت فى ثلاثيته الشهيرة (مولوى - مالون يموت - اللا مُسمّى) هذا النهج الأسلوبى القائم على تحويل اللغة أو الكلام إلى بطل بديلًا عن الحبكة والسرد التقليدى (الذى بلغ ذروته فى اللا مُسمّى)، طبعًا مع اختلاف الرؤية. جمع بين الكاتبين سيلُ الكلمات المنفلّتة، ولكن فى حين كان أوكاين مهتمًا بتعرية المجتمع الأيرلندى ونزع ورقة التوت عن مثالبه، كان السيد بيكيت يفتش عن شيء آخـر.
فكرة العمل الأساسى كما أوضح المترجم هى أن ما يدور تحت الأرض لا يختلف كثيرًا (إن لم تزد حـدّته) عما كان يدور فوق الأرض. البـشر هم البـشر فى كل أحوالهم، فوق الأرض وتحتها. يُقال إن الموت لا يفرّق بين غنى وفقير. لكن فى رواية طين المقابر نجد جثث مقبرة «الجنيه»، أى حزب الأثرياء وحزب أصحاب النفوذ الكبار، وجثث مقبرة «الخمسة عشر شلنًا»، أى الطبقة المهنية البرجوازية والطبقة الوسطى، وجثث مقبرة العمال الكادحين والعبيد المأجورين. يقول أحد المتحدثين:» نحن ملزمون بشكل مطلق بالوقوف مطالبين بحقوقنا كما فعل الرجال القدامى»، والإشارات واضحة. 


***
بِمَ ينشغل أغلب البشر فى حياتهم اليومية وفى أحاديثهم وفى كلامهم ونميمتهم، بل حتى فى عصرنا الراهن فى تعليقاتهم «السوشيالية الميدياوية»؟ لا شيء سوى فلان قال وفلان عاد، وفلانة قلَعت وفلانة لبست، إلخ، وبِمَ ينشغل الأموات لو قُيّض لهم النهوض وسنحت لهم فرصة الدردشة؟ فى رواية أوكاين سينشغلون بالأمر نفسه. هذا هـو محور الرواية. بدا لى الكاتب خبيرًا نفسياً عليما ًبطبائع البشر، لكنه قدم رؤيته عبر كوميديا سوداء مؤسسة على خيال قوي.والمؤلف بروحه الأيرلندية الهجائية يؤكد: البشر هم البشر، لم تكن ترضيهم الحياة ولن يرضيهم الموت.
الأموات أيضًا ثرثارون نمّامون حاسدون مُعقَّدون، لم يبدّل الموت فيهم شيئًا، بدليل أنهم يواصلون أسلوب حياتهم (حياتهم؟) على هيئة شكوى من كل شيء وتذمّر من كل شىء وحنق على كل شيء. أشياء من قبيل: «هل كانت جنازتى لائقة بما يكفي؟ هـل حضر فلان الفلانى جنازتى؟ من سيحصل على ميراث فلان؟ 
نقرأ فى الجزء الأول مثلًا فى الحوار بين كاترينا بودين وماجى فرانسيس: (آه يا ماجى..فقط لو أمكن لنا أن نجد خلوة هادئة لنا فوق الأرض، لكن للأسف لا يمكن للموتى أن يتزحزحوا شبرًا فى طين المقابر).
لا يملك القاريء سوى أن يقول: يا سلام! الآن صارت الحياة حُلوة وغدت الأرض موضعً الخلوة هادئة، بعد أن لُعنت وشُتمت طَوال الوجودالأرضى. وفى حوار آخر وفى معرض كلام أحدهم عن الرغبة فى قراءةٍ جماعية لرواية قصيرة داخل المقابر نقرأ أو نسمع: (أنصتى الآن يا نورا جوني: ليس هناك سلام ولا خلوة ولا فرصة للثقافة.. كل ما يتحدثون عنه دومًا هو تفاهات بائسة .هذا المكان فى سوء أخلاقه وغباوته وهمجيته أشبه بما يحدث هناك وسط حثالة مقبرة النصف جنيه).
على مستوى اللغة فاللغة المستخدمة هى لغة الشارع العادى، وهى على ذلك لاتخلو من ألفاظ سوقية، وهو موطن قوة فى رأيى، ويُحسب للمترجم أنه حافظ ببراعة على سخونة الحوار وطزاجته عبر استعمال ألفاظ مكافئة فى اللغة العربية (نورا الوسخة، سارة الحيزبون،كاترين حمارة شغل، اذهب فى ستين داهية،يبرطع، إلخ). يتقصّى الكاتب النفْسَ الإنسانية حتى فى أتفه حالاتها (والتفاهة كاشفة فى أحيان كثيرة)، مثلًا عندما يقول أقدم ساكنى المقابر: (كنتُ أول جثة فى المقبرة، ألا تعتقدون أن أقدم ساكن فى المقبرة ينبغى أن يكون لديه شيىء ليقوله؟)، وكأن «الهبد» فرض عين على الجميع حتى من لا يملك شيئًا ليقوله. 

***
استرعت انتباهى أيضًا فلسفة البناء الروائى، حيث أضفى المؤلف بوعى شديد إلى عمله ثقلًا جماليًا عبر دسَّفقرات تأملية قصيرة (لا تخلو من غموضأ حيانًا رغم عذوبتها) استهلّ بها كل فصل أو كل فاصلة بحسب تسميته (حتى الفاصلة الثامنة فقط!)، وهى فقرات تبدأ وتنتهى دومًا بجُملة (أنا نفير المقبرة، فلُيسمع صوتى، لا بد أن يُسمع). بقيتُ أسأل نفسى فى أثناء القراءة: من المتكلم هنا؟ المؤلف؟ وارد طبعًا. 
وربما أيضًا تكون أصداء الحكمة الأزلية، أو ما أطلقَ عليه ألدوس هكسلى وجوزيف كامبل PhilosophiaPerennis(الفلسفة المعمّرة أو الحكمة الدائمة)،صوت اليقين الصادح منذ الأزل،الصوت الحكيم المقابل لنزق الأموات، تآلف الأضداد بحسب تعبير يونج،مقدمًا عبارات مُلهمة فيها خلاصة الحياة، على  نحو ما نرى فى بداية الفاصلة الثالثة – الطين المنفوش (ص 109): «الضعف يهزم القوة واليأس يهزم الحب. قماش الكفن يُخاط إلى قماش المهد، والحياة تؤدى مستحقاتها للموت»، أو فى صفحة 142: «سيجاوب الطين الميت على الطين الحى، وسيتدفأ القلب الميت بحب القلب الحي»، أو فى صفحة 182:» لا بد أن يسدد الأحياء مستحقاتهم للمقبرة». الإشارات والتنبيهات. 
وردَتْ فى أحد الحوارات إشارة خاطفة إلى كتاب الغصن الذهبى لجيمس فريزر وكذلك إلى حكايات شعبية خرافية أيرلندية أخرى، وهـو ما عزّز وجهة نظرى بشأن سريان الروح الأسطورية الناطقة باسم الحكمة الأزلية فى ثنايا النص، هذا ما صنع تعادلية السرد الروائى، فلو كانت الرواية كلها مسامرات وخناقات ووصلات رَدْح بين الأموات لهبط العمل إلى درجة أدنى فى رأيى، لكن المؤلف ثقيل وفاهم. 
هكذا يُصنع الأدب الحقيقى. الأدب – فى اعتقادى - حَملة تمويه مُحكَمة ومناورة عسكرية مدروسة، يُسيّر القائدُ الكتيبة محتفظًا بشفرة العملية. جنود الكتيبة هم الكلمات الأحداث والشخصيات، وهم جنود بسطاء لا يعلمون ما يدور بذهن القائد،فيفعلون ما يؤمَرون، لكنهم موقنون من أن القائد سيقودهم إلى النصر، ربما تفشل المناورات، ولكن يكفى الكاتب-القائد شرف المحاولة. 

***

معركة الكاتب الحقيقية هى البحث عن مجاز قوى ورمـز يصون الفكرة.  لذا سأترك للقارىء أن يفكّر لِمَ بدأ المؤلف العمل بــ الطين الأسود، ثم الطين المنفوش فالمنثور وصولًا فى النهاية إلى الطين الأبيض.التحولات؟ بحسبى أن أقول إنه قالب روائى مشدود بدقة برغم ما يُهيىء ظاهريًا من نشوز أصوات الموتى وثرثرتهم. كان جوستاف لوبون يقول:» وما روح الأحياء إلا مؤلّفة من أفكار الأموات». 
هنا بانت أصالة المؤلف، أقصد فى قدرته على صوغ توليفة مثالية تجمع الشكل والموضوع فى قالب واحد، كما بانت بوضوح فى اختياره لهذه الجوقة الفوضوية الطافحة بالنشاز الجميل المدروس بدلاً من العزف باستخدام النوت القديمة المحفوظة، وهو درس جيد فى الكتابة الروائية: كيف يصنع الشكلُ مضمونًا، بل ومضمونًا قويًا. 
شخصيات طين المقابر أموات. لم يرسمهم المؤلف على هيئة أرواح وأشباح مثلما فعل خوان رولفو مثلًا فى بيدرو بارامو، بل هى جثث مسجياة داخل توابيت لا تكف عن الصخب. 
جمال الرواية فى أنها تدفعك إلى الاعتقاد بأن صخب الأموات هومصدرالطاقة السارية فى أوصال العمل كله،لكنه – برغم ذلك - صخب يخفى شيئًا ما،حكمة ما أوغاية ما.سأعكس مقولة وليام فوكنر: هى حكاية يحكيها ميّت، مليئة بالصخب والعنف، لكنها تعنى كثيرًا.