كتبت :وفاء العمير
كان منزل سامية الصغير أشبه بعلبة تقبض عليها يدٌ قوية، وترجّها فتُحدِث العلبةُ جلبة كبيرة، كانت هذه الجلبة صادرة من شقيقيها، أما هى فلطالما كانت تميل إلى الهدوء والسكينة؛ وحيثما تكون الوحدة فإن سامية تقبع هناك مثل حمامة فى عشها، إذ كانت تستسيغ اكتشاف كل شى حول نفسها، كانت تكتشف مثلا دقات قلبها، وكانت تفعل ذلك فى كل مرة وكأنها المرة الأولى، كما تكتشف أيضا شغفها الخالص فى الإصغاء إليها بينما تتوالى فى دفء، وقد غشيتها روح المحبة والسلام. كان وزن الحياة بالنسبة إليها خفيفا مثل الشعرة فى الميزان، وعندما كانت تلقى ببصرها إلى أعلى فى غرفتها، لم تكن تشعر أبدا بوجود السقف، بل السماء بعلّوها الشاهق ورحابتها المألوفة المُطَمْئِِنة. كانت طوال الوقت، وفى كل الأمكنة كأنها تعيش فى بلورة أو فى فقاعة، عازلة نفسها عن كل ما يبعث على الحزن والتعاسة. لقد تعلمت عندما كبرت فى السن قليلا، أنه يتحتم عليها إحاطة نفسها بما تستطيعه من ابتسامات كالورود المتفتحة، وضحكات نابعة من القلب، والكثير من روح البساتين، وأغانٍ يتدفق منها الفرح كالمطر الغزير حينما يتدفق من السحب الكثيفة. أما والداها وأخواها فلم يبدوا اكتراثا لهذا، بل إن والديها ربما يكونان قد أحسّا ببعض الارتياح، بسبب أنها سوف تجنبهما مشاكلها، إذ يكفيهما مشاكل ولديهما. وبرغم أن أجواء الصمت لم تكن تخيم على المنزل إلا بصورة مؤقتة، إلا أنها منحتها فائضا من الشعور بالانسجام مع اللحظة.
فى ظهيرة هذا اليوم، التى برغم حرارتها المرتفعة فقد بدت ظهيرة لطيفة بالنسبة لها، كانت عائدة من مدرستها، تسير لوحدها فى الطريق، تغمرها مشاعر السلام، وتستمتع بمنظر البنايات، ومجموعات البيوت المصفوفة كالرزم، والنوافذ التى لم تكن واحدة منها مشرعة للفضاء، كانت جميعها مغلقة، صامدة جيدا فى وجه الهواء. سال الوقت من بين أصابع سامية كمثل الزئبق على الأرضية المصقولة الصلبة، إنها تحب ذلك، رؤية جيوش الدقائق والساعات وهى تفرّ زاحفة خلسة من وراء ظهرها، أو أنها لم تكن فى هذا العالم أصلا، أنها كانت مجرد عدم. للحظات أزعجتها اللسعات المتتالية مثل وخز الإبر لشمس الصيف الملتهبة، وقد وصلت إلى جلدها الناعم برغم العباءة التى كانت ترتديها، والغطاء الذى يحجب وجهها. تأففت، وأمسكت بالغطاء الحريرى الأسود بأصبعيها السبابة والإبهام الرطبين، وأبعدته عن وجهها البيضاوى الشاحب، كى تحصل على القليل من الهواء. كانت خلال ذلك تحاول جاهدة أن لا تفكر فى الضجيج المهول الذى سوف يكون فى استقبالها فور عودتها إلى المنزل، والذى اعتاد أخواها الشقيّان على إحداثه، حتى ليخيل إليها أن إعصارا هائلا قد عاث بالمنزل دمارا.
مما يزعجها حقا ويثير حفيظتها أن والديها كانا يسمحان لهما باللعب بالكرة فى الصالة، وكأنهما يلعبان فى الأستاذ الرياضى، ولا يعترضان عليهما عندما يحوّلان الصالة إلى حلبة للمصارعة.
فى أثناء سيرها وهى تدلى حقيبة الكتب فى يدها، وفى اليد الأخرى تعدّل من وضع الغطاء على وجهها، راحت تحدّث نفسها بأنها بعد قليل سوف تنعم بخلوتها بين جدران غرفتها المطلية باللون الوردى الفاتح، الذى يضفى السعادة على قلبها، والانشراح فى صدرها. لقد اختارته بديلا عن اللون السماوى الذى كان اللون الأصلى للجدران. قالت لوالديها بوجه متجهم حزين إن اللون السماوى يثير الانقباض فى قلبها، ويشعرها وكأن للكآبة أجنحة تحلّق فوق رأسها. وهكذا افترش الجدرانَ اللونُ الورديُ البهيج الذى اعتبرته مثل فستان العيد أو نكهة الآيس كريم بالفانيليا.
سوف تجلس بجوار النافذة المطلة على شارع الحارة المشجر، وتستريح فى ثنايا الصمت البديع، مطلقة العنان لأحاسيسها كى تسترخى ما طاب لها ذلك، وتدع ذهنها يصفّى نفسه من الأفكار التى تراكمت فيه، وشغلت مساحته، كما تفعل عادة الكراكيب فى المخزن، سوف تراقب مشاعرها إزاء الحياة وهى تتفتح مثل وردة اللوتس البيضاء، وابتسامتها تتمطى على شفتيها، وكأنها استيقظت لتوها من نوم طويل.
رفعت رأسها عاليا أثناء ما كانت هذه الأفكار تجول فى رأسها، لتتفرج على البنايات، حينما شاهدت فجأة ذلك الرجل، بلا تردد يقفز من آخر نافذة فى العمارة الشاهقة، ويستلقى جثة هامدة على الرصيف الذى تكسوه حجارة باهتة، التهبت بفعل أشعة الشمس الحارقة. سمعت سامية صوت ارتطام جسده على الأرض، كان صوتا قويا صادما، ورأت جثته ممددة، تسيل الدماء منها، مُشكّلة بركة حمراء. فى ثوان معدودة كان عدد من الأشخاص قد تجمع حول الجثة. قال أحدهم: أعرف هذا الرجل، إنه جارنا، لقد خسر المسكين ماله كله فى الأسهم.
أجابه الرجل الواقف إلى جانبه وهو يصفّق بيديه: لا حول ولا قوة إلا بالله، لابد أنه انتحر بسبب ذلك.
لا تعرف سامية كيف ساقتها قدماها إلى المنزل، كانت طوال الطريق تعتريها حالة من الذهول التام، شلّت قدرتها على التفكير، واكتنفها رعب مباغت. أحست بأنفاسها تتثاقل، وظهرت سحابة من الضباب أمام عينيها، بدأ القلق يجرى لاهثا فى عروقها، القلق من أنها لم تعد تفهم شيئا مما حولها، لمَ يفعل أحد ما بنفسه أمرا شنيعا مثل الذى فعله ذلك الرجل بنفسه؟ لم تعثر على إجابة لسؤالها بينما كانت جالسة فى غرفتها بجوار النافذة المطلة على الشارع المشجر. حاولت أن تستمتع بالمنظر كما اعتادت أن تفعل كل يوم، وبمشقة أرادت أن تتأمل الصمت والسكينة المنتشرة فى الأرجاء، إلا أنها لم تستطع فعل ذلك، فصورة ذلك الرجل وهو يسقط من فوق، أمام ناظريها كانت لا تفارق مخيلتها، فأسرعت خارجة من غرفتها إلى الصالة. شاهدت هناك أخويها يلعبان كعادتهما ويتقاذفان بوسائد الأرائك، فوجدت نفسها منساقة إلى اللعب معهما، وكانت تثير الضجيج حتى أكثر منهما، وصوتها يغطى على صوتيهما، وكانا هما يراقبانها مندهشين من سلوكها غير المعتاد. لم تعد تطيق المكوث فى غرفتها سوى لفترة وجيزة، ثم تغادرها سريعا، منضمّة إلى عائلتها، أو كانت تزور صديقاتها، وتذهب معهن لشرب القهوة، والتسوق فى المراكز التجارية. كانت تتعمد أن تشغل كل دقيقة من وقتها بأية طريقة، وتسعى جاهدة للهروب من تلك الذكرى، لم تكن قادرة على مواجهتها، أرادت بشدة نسيان صورة الجثة على الرصيف، وبركة الدماء، ودوى السقوط. لم تشأ الاعتراف بكم السذاجة والغباء فيها، حينما كانت ترى بعينيها كل شيء جميلا. كان ثمة جزء من العالم، جزء كريه، يريها نفسه بقسوة، قائلا لها: افتحى عينيك، وانظرى جيدا إلى هذه الوحشية. جزء من العالم لم تكن ترغب فى معرفته إطلاقا.