لم تعد تفهم شيئاً

اللوحات للفنان: عمر الفيومى
اللوحات للفنان: عمر الفيومى

 كتبت :وفاء‭ ‬العمير

كان‭ ‬منزل‭ ‬سامية‭ ‬الصغير‭ ‬أشبه‭ ‬بعلبة‭ ‬تقبض‭ ‬عليها‭ ‬يدٌ‭ ‬قوية،‭ ‬وترجّها‭ ‬فتُحدِث‭ ‬العلبةُ‭ ‬جلبة‭ ‬كبيرة،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الجلبة‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬شقيقيها،‭ ‬أما‭ ‬هى‭ ‬فلطالما‭ ‬كانت‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الهدوء‭ ‬والسكينة؛‭ ‬وحيثما‭ ‬تكون‭ ‬الوحدة‭ ‬فإن‭ ‬سامية‭ ‬تقبع‭ ‬هناك‭ ‬مثل‭ ‬حمامة‭ ‬فى‭ ‬عشها،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تستسيغ‭ ‬اكتشاف‭ ‬كل‭ ‬شى‭ ‬حول‭ ‬نفسها،‭ ‬كانت‭ ‬تكتشف‭ ‬مثلا‭ ‬دقات‭ ‬قلبها،‭ ‬وكانت‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬وكأنها‭ ‬المرة‭ ‬الأولى،‭ ‬كما‭ ‬تكتشف‭ ‬أيضا‭ ‬شغفها‭ ‬الخالص‭ ‬فى‭ ‬الإصغاء‭ ‬إليها‭ ‬بينما‭ ‬تتوالى‭ ‬فى‭ ‬دفء،‭ ‬وقد‭ ‬غشيتها‭ ‬روح‭ ‬المحبة‭ ‬والسلام‭. ‬كان‭ ‬وزن‭ ‬الحياة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليها‭ ‬خفيفا‭ ‬مثل‭ ‬الشعرة‭ ‬فى‭ ‬الميزان،‭ ‬وعندما‭ ‬كانت‭ ‬تلقى‭ ‬ببصرها‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬فى‭ ‬غرفتها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تشعر‭ ‬أبدا‭ ‬بوجود‭ ‬السقف،‭ ‬بل‭ ‬السماء‭ ‬بعلّوها‭ ‬الشاهق‭ ‬ورحابتها‭ ‬المألوفة‭ ‬المُطَمْئِِنة‭. ‬كانت‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬الأمكنة‭ ‬كأنها‭ ‬تعيش‭ ‬فى‭ ‬بلورة‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬فقاعة،‭ ‬عازلة‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الحزن‭ ‬والتعاسة‭. ‬لقد‭ ‬تعلمت‭ ‬عندما‭ ‬كبرت‭ ‬فى‭ ‬السن‭ ‬قليلا،‭ ‬أنه‭ ‬يتحتم‭ ‬عليها‭ ‬إحاطة‭ ‬نفسها‭ ‬بما‭ ‬تستطيعه‭ ‬من‭ ‬ابتسامات‭ ‬كالورود‭ ‬المتفتحة،‭ ‬وضحكات‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬القلب،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬البساتين،‭ ‬وأغانٍ‭ ‬يتدفق‭ ‬منها‭ ‬الفرح‭ ‬كالمطر‭ ‬الغزير‭ ‬حينما‭ ‬يتدفق‭ ‬من‭ ‬السحب‭ ‬الكثيفة‭. ‬أما‭ ‬والداها‭ ‬وأخواها‭ ‬فلم‭ ‬يبدوا‭ ‬اكتراثا‭ ‬لهذا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬والديها‭ ‬ربما‭ ‬يكونان‭ ‬قد‭ ‬أحسّا‭ ‬ببعض‭ ‬الارتياح،‭ ‬بسبب‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬تجنبهما‭ ‬مشاكلها،‭ ‬إذ‭ ‬يكفيهما‭ ‬مشاكل‭ ‬ولديهما‭. ‬وبرغم‭ ‬أن‭ ‬أجواء‭ ‬الصمت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخيم‭ ‬على‭ ‬المنزل‭ ‬إلا‭ ‬بصورة‭ ‬مؤقتة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬منحتها‭ ‬فائضا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالانسجام‭ ‬مع‭ ‬اللحظة‭. ‬

فى‭ ‬ظهيرة‭ ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬التى‭ ‬برغم‭ ‬حرارتها‭ ‬المرتفعة‭ ‬فقد‭ ‬بدت‭ ‬ظهيرة‭ ‬لطيفة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها،‭ ‬كانت‭ ‬عائدة‭ ‬من‭ ‬مدرستها،‭ ‬تسير‭ ‬لوحدها‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭   ‬تغمرها‭ ‬مشاعر‭ ‬السلام،‭ ‬وتستمتع‭ ‬بمنظر‭ ‬البنايات،‭ ‬ومجموعات‭ ‬البيوت‭ ‬المصفوفة‭ ‬كالرزم،‭ ‬والنوافذ‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬مشرعة‭ ‬للفضاء،‭ ‬كانت‭ ‬جميعها‭ ‬مغلقة،‭ ‬صامدة‭ ‬جيدا‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬الهواء‭. ‬سال‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصابع‭ ‬سامية‭ ‬كمثل‭ ‬الزئبق‭ ‬على‭ ‬الأرضية‭ ‬المصقولة‭ ‬الصلبة،‭ ‬إنها‭ ‬تحب‭ ‬ذلك،‭ ‬رؤية‭ ‬جيوش‭ ‬الدقائق‭ ‬والساعات‭ ‬وهى‭ ‬تفرّ‭ ‬زاحفة‭ ‬خلسة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهرها،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أصلا،‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬عدم‭. ‬للحظات‭ ‬أزعجتها‭ ‬اللسعات‭ ‬المتتالية‭ ‬مثل‭ ‬وخز‭ ‬الإبر‭ ‬لشمس‭ ‬الصيف‭ ‬الملتهبة،‭ ‬وقد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬جلدها‭ ‬الناعم‭ ‬برغم‭ ‬العباءة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬ترتديها،‭ ‬والغطاء‭ ‬الذى‭ ‬يحجب‭ ‬وجهها‭. ‬تأففت،‭ ‬وأمسكت‭ ‬بالغطاء‭ ‬الحريرى‭ ‬الأسود‭ ‬بأصبعيها‭ ‬السبابة‭ ‬والإبهام‭ ‬الرطبين،‭ ‬وأبعدته‭ ‬عن‭ ‬وجهها‭ ‬البيضاوى‭ ‬الشاحب،‭ ‬كى‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الهواء‭. ‬كانت‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬تحاول‭ ‬جاهدة‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تفكر‭ ‬فى‭ ‬الضجيج‭ ‬المهول‭ ‬الذى‭ ‬سوف‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬استقبالها‭ ‬فور‭ ‬عودتها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬والذى‭ ‬اعتاد‭ ‬أخواها‭ ‬الشقيّان‭ ‬على‭ ‬إحداثه،‭ ‬حتى‭ ‬ليخيل‭ ‬إليها‭ ‬أن‭ ‬إعصارا‭ ‬هائلا‭ ‬قد‭ ‬عاث‭ ‬بالمنزل‭ ‬دمارا‭. ‬

مما‭ ‬يزعجها‭ ‬حقا‭ ‬ويثير‭ ‬حفيظتها‭ ‬أن‭ ‬والديها‭ ‬كانا‭ ‬يسمحان‭ ‬لهما‭ ‬باللعب‭ ‬بالكرة‭ ‬فى‭ ‬الصالة،‭ ‬وكأنهما‭ ‬يلعبان‭ ‬فى‭ ‬الأستاذ‭ ‬الرياضى،‭ ‬ولا‭ ‬يعترضان‭ ‬عليهما‭ ‬عندما‭ ‬يحوّلان‭ ‬الصالة‭ ‬إلى‭ ‬حلبة‭ ‬للمصارعة‭. ‬

فى‭ ‬أثناء‭ ‬سيرها‭ ‬وهى‭ ‬تدلى‭ ‬حقيبة‭ ‬الكتب‭ ‬فى‭ ‬يدها،‭ ‬وفى‭ ‬اليد‭ ‬الأخرى‭ ‬تعدّل‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬الغطاء‭ ‬على‭ ‬وجهها،‭ ‬راحت‭ ‬تحدّث‭ ‬نفسها‭ ‬بأنها‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬سوف‭ ‬تنعم‭ ‬بخلوتها‭ ‬بين‭ ‬جدران‭ ‬غرفتها‭ ‬المطلية‭ ‬باللون‭ ‬الوردى‭ ‬الفاتح،‭ ‬الذى‭ ‬يضفى‭ ‬السعادة‭ ‬على‭ ‬قلبها،‭ ‬والانشراح‭ ‬فى‭ ‬صدرها‭. ‬لقد‭ ‬اختارته‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬اللون‭ ‬السماوى‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬اللون‭ ‬الأصلى‭ ‬للجدران‭. ‬قالت‭ ‬لوالديها‭ ‬بوجه‭ ‬متجهم‭ ‬حزين‭ ‬إن‭ ‬اللون‭ ‬السماوى‭ ‬يثير‭ ‬الانقباض‭ ‬فى‭ ‬قلبها،‭ ‬ويشعرها‭ ‬وكأن‭ ‬للكآبة‭ ‬أجنحة‭ ‬تحلّق‭ ‬فوق‭ ‬رأسها‭. ‬وهكذا‭ ‬افترش‭ ‬الجدرانَ‭ ‬اللونُ‭ ‬الورديُ‭ ‬البهيج‭ ‬الذى‭ ‬اعتبرته‭ ‬مثل‭ ‬فستان‭ ‬العيد‭ ‬أو‭ ‬نكهة‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬بالفانيليا‭. ‬

سوف‭ ‬تجلس‭ ‬بجوار‭ ‬النافذة‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬الحارة‭ ‬المشجر،‭ ‬وتستريح‭ ‬فى‭ ‬ثنايا‭ ‬الصمت‭ ‬البديع،‭ ‬مطلقة‭ ‬العنان‭ ‬لأحاسيسها‭ ‬كى‭ ‬تسترخى‭ ‬ما‭ ‬طاب‭ ‬لها‭ ‬ذلك،‭ ‬وتدع‭ ‬ذهنها‭ ‬يصفّى‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬التى‭ ‬تراكمت‭ ‬فيه،‭ ‬وشغلت‭ ‬مساحته،‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬عادة‭ ‬الكراكيب‭ ‬فى‭ ‬المخزن،‭ ‬سوف‭ ‬تراقب‭ ‬مشاعرها‭ ‬إزاء‭ ‬الحياة‭ ‬وهى‭ ‬تتفتح‭ ‬مثل‭ ‬وردة‭ ‬اللوتس‭ ‬البيضاء،‭ ‬وابتسامتها‭ ‬تتمطى‭ ‬على‭ ‬شفتيها،‭ ‬وكأنها‭ ‬استيقظت‭ ‬لتوها‭ ‬من‭ ‬نوم‭ ‬طويل‭. ‬

رفعت‭ ‬رأسها‭ ‬عاليا‭ ‬أثناء‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬تجول‭ ‬فى‭ ‬رأسها،‭ ‬لتتفرج‭ ‬على‭ ‬البنايات،‭ ‬حينما‭ ‬شاهدت‭ ‬فجأة‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل،‭ ‬بلا‭ ‬تردد‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬نافذة‭ ‬فى‭ ‬العمارة‭ ‬الشاهقة،‭ ‬ويستلقى‭ ‬جثة‭ ‬هامدة‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬الذى‭ ‬تكسوه‭ ‬حجارة‭ ‬باهتة،‭ ‬التهبت‭ ‬بفعل‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬الحارقة‭. ‬سمعت‭ ‬سامية‭ ‬صوت‭ ‬ارتطام‭ ‬جسده‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬كان‭ ‬صوتا‭ ‬قويا‭ ‬صادما،‭ ‬ورأت‭ ‬جثته‭ ‬ممددة،‭ ‬تسيل‭ ‬الدماء‭ ‬منها،‭ ‬مُشكّلة‭ ‬بركة‭ ‬حمراء‭. ‬فى‭ ‬ثوان‭ ‬معدودة‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬قد‭ ‬تجمع‭ ‬حول‭ ‬الجثة‭. ‬قال‭ ‬أحدهم‭: ‬أعرف‭ ‬هذا‭ ‬الرجل،‭ ‬إنه‭ ‬جارنا،‭ ‬لقد‭ ‬خسر‭ ‬المسكين‭ ‬ماله‭ ‬كله‭ ‬فى‭ ‬الأسهم‭. ‬

أجابه‭ ‬الرجل‭ ‬الواقف‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬وهو‭ ‬يصفّق‭ ‬بيديه‭: ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلا‭ ‬بالله،‭ ‬لابد‭ ‬أنه‭ ‬انتحر‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭.  ‬

لا‭ ‬تعرف‭ ‬سامية‭ ‬كيف‭ ‬ساقتها‭ ‬قدماها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬كانت‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭  ‬تعتريها‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الذهول‭ ‬التام،‭ ‬شلّت‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التفكير،‭ ‬واكتنفها‭ ‬رعب‭ ‬مباغت‭. ‬أحست‭ ‬بأنفاسها‭ ‬تتثاقل،‭ ‬وظهرت‭ ‬سحابة‭ ‬من‭ ‬الضباب‭ ‬أمام‭ ‬عينيها،‭ ‬بدأ‭ ‬القلق‭ ‬يجرى‭ ‬لاهثا‭ ‬فى‭ ‬عروقها،‭ ‬القلق‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تفهم‭ ‬شيئا‭ ‬مما‭ ‬حولها،‭ ‬لمَ‭ ‬يفعل‭ ‬أحد‭ ‬ما‭ ‬بنفسه‭ ‬أمرا‭ ‬شنيعا‭ ‬مثل‭ ‬الذى‭ ‬فعله‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬بنفسه؟‭ ‬لم‭ ‬تعثر‭ ‬على‭ ‬إجابة‭ ‬لسؤالها‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬جالسة‭ ‬فى‭ ‬غرفتها‭ ‬بجوار‭ ‬النافذة‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬المشجر‭. ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تستمتع‭ ‬بالمنظر‭ ‬كما‭ ‬اعتادت‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وبمشقة‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تتأمل‭ ‬الصمت‭ ‬والسكينة‭ ‬المنتشرة‭ ‬فى‭ ‬الأرجاء،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬فعل‭ ‬ذلك،‭ ‬فصورة‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬وهو‭ ‬يسقط‭ ‬من‭ ‬فوق،‭ ‬أمام‭ ‬ناظريها‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬مخيلتها،‭ ‬فأسرعت‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬غرفتها‭ ‬إلى‭ ‬الصالة‭. ‬شاهدت‭ ‬هناك‭ ‬أخويها‭ ‬يلعبان‭ ‬كعادتهما‭ ‬ويتقاذفان‭ ‬بوسائد‭ ‬الأرائك،‭ ‬فوجدت‭ ‬نفسها‭ ‬منساقة‭ ‬إلى‭ ‬اللعب‭ ‬معهما،‭ ‬وكانت‭ ‬تثير‭ ‬الضجيج‭ ‬حتى‭ ‬أكثر‭ ‬منهما،‭ ‬وصوتها‭ ‬يغطى‭ ‬على‭ ‬صوتيهما،‭ ‬وكانا‭ ‬هما‭ ‬يراقبانها‭ ‬مندهشين‭ ‬من‭ ‬سلوكها‭ ‬غير‭ ‬المعتاد‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تطيق‭ ‬المكوث‭ ‬فى‭ ‬غرفتها‭ ‬سوى‭ ‬لفترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬ثم‭ ‬تغادرها‭ ‬سريعا،‭ ‬منضمّة‭ ‬إلى‭ ‬عائلتها،‭ ‬أو‭ ‬كانت‭ ‬تزور‭ ‬صديقاتها،‭ ‬وتذهب‭ ‬معهن‭ ‬لشرب‭ ‬القهوة،‭ ‬والتسوق‭ ‬فى‭ ‬المراكز‭ ‬التجارية‭. ‬كانت‭ ‬تتعمد‭ ‬أن‭ ‬تشغل‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭ ‬من‭ ‬وقتها‭ ‬بأية‭ ‬طريقة،‭ ‬وتسعى‭ ‬جاهدة‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الذكرى،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواجهتها،‭ ‬أرادت‭ ‬بشدة‭ ‬نسيان‭ ‬صورة‭ ‬الجثة‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬وبركة‭ ‬الدماء،‭ ‬ودوى‭ ‬السقوط‭. ‬لم‭ ‬تشأ‭ ‬الاعتراف‭ ‬بكم‭ ‬السذاجة‭ ‬والغباء‭ ‬فيها،‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ ‬بعينيها‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬جميلا‭. ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬جزء‭ ‬كريه،‭ ‬يريها‭ ‬نفسه‭ ‬بقسوة،‭ ‬قائلا‭ ‬لها‭: ‬افتحى‭ ‬عينيك،‭ ‬وانظرى‭ ‬جيدا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الوحشية‭. ‬جزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ترغب‭ ‬فى‭ ‬معرفته‭ ‬إطلاقا‭. ‬