قصص القرآن.. الإتيان بعرش بلقيس

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يقول الحق فى سورة النمل:«قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ»، والجن فى القدرة والمهارة مثل الإنس، منهم القوى الماهر، ومنهم العَييّ الذى لا يجيد شيئاً. نقول (لبخة) وكلمة عفريت من تعفير التراب، وكانوا حينما يتسابقون فى العَدُو بالخيل أو غيرها، فمَنْ يسبق منهم يُثير الغبار فى وجه الآخر فيُعطلّه عن السَّبْق. فقالوا: عفريت يعنى عفَّر من وراءه. أو: المعنى أنه يُعفِّر وجه مَنْ عارضه بالتراب فسُمِّى عفريتاً. إذن: فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ، وصاحب القوة الخارقة فيهم، وهو الذى تعرَّض لهذه المهمة، وقال «أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ»، وهذا كلام مُجْمل؛ لأن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتاً: ساعة أو ساعتين مثلاً، وقد تعهَّد العفريت أنْ يأتى بالعرش فى هذا الوقت يعني: لن يُؤخِّره إلى جلسة أخرى. وقوله: «وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته، وأنه شيء نفيس يستحق الاعتناء به، خاصة فى عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته (فأنا عليه قوي) قادر على حَمْله، ومن ناحية نفاسته وفخامته، فأنا عليه أمين لن أُبدِّد منه شيئاً.ثم تكلَّم آخر لم يُحدِّده القرآن إلا بالوصف: «قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِيٌّ كَرِيمٌ»..الطرف: الجِفْن الأعلى للعين.


تكلم العلماء فى هذه الآية: أولاً: قالوا «الكتاب» يُراد به اللوح المحفوظ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسراراً من اللوح المحفوظ، أما الذى عنده علم من الكتاب فقالوا: هو آصف بن برخيا، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله على أسرار الكون.وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت «أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ» قال هو: «أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» لأنه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان فى معرفة الكتاب.لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتى بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم فى مملكة سليمان ومُسخر له، كما أن المزايا لا تقتضى الأفضلية، وليس شَرْطاً فى المِلك أنْ يعرف كل شيء، وإلا لَقُلْنا للمِلك: تَعَال أصلح لنا دورة المياه.أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.. وفَرْق كبير فى القدرات بين مَنْ يأتى بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتى به فى طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.


وفى قوله للجن: «أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» تحدٍّ لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإنْ أراد الله منحنى من القوة ما أتفوّق عليك به، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي. ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ».وليعلموا أنهم جهلاء، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكئ على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.