جمال الشناوي يكتب: عفواً دكتور مدبولي

جمال الشناوي
جمال الشناوي

اريد أن الفت انتباه حكومتنا النشطة جدا في بناء اقتصاد قوى وعمران بات ملموسا على الأرض.. أن البناء يشبع من جوع، لكنه لا يؤمن من خوف على خواء العقول.. فخيرا لها أن تضئ عقل بنور المعرفة، عن ملئ البطون على أهميته أو على الأقل يسيران معا.


لدينا في مصر مئات من أساتذة العلوم الاجتماعية بكل الجامعات المصرية، ولدينا مراكز بحثية، لكنى لا أظن أن وزير التعليم العالي يمنحها الاهتمام اللازم، لتقدم لصانع القرار بدائل لبناء الإنسان في المستقبل.. وتحمى أمن بلادنا من اختراقات الذئاب الناعمة، ولم أطالع أو أسمع عن بحوث علمية تجيب عن السؤال "ماذا ينتظر مصر في المستقبل ؟".


العلوم الاجتماعية أشبه برادارات الجيوش.. تكشف ما تخفيه سحب وغيوم المستقبل المجهول، كنت أظن أن مراكز البحوث والتفكير لدينا، ستتوقف طويلاً مثلاً أمام تسريبات هيلاري كلينتون بالبحث والتحليل، لأنها كشفت جانباً من أسرار الربيع العربي والأخطر  تزيل الستار عن طريقة تفكير الإدارات الأمريكية.. بل أكثر من هذا كنت أتوقع من الحكومة ووزراء التعليم  والشباب بها، أن تقوم بترجمة تلك الوثائق والتسريبات وتعريضها لأضواء البحث العلمي لاستخلاص الدروس، وربما وضعها في المناهج الدراسية للطلاب  من الإعدادي وحتى الجامعات.


يخطئ من يظن ان الولايات المتحدة لها صداقات دائمة، لكنها –وهذا حقها – تحتفظ وتحافظ فقط على مصالح دائمة.. فالتاريخ القريب يشهد تخليها عن أصدقاء قدموا مخلصين لها الكثير.. وعندما تتبدل المصالح "تبيع"الحلفاء ب أبخس الأثمان في أول فرصة.. فعلتها مع دول عديدة وحكام كثيرون، حتى أن حليفها الرئيس الراحل حسنى مبارك، عبر عن ضيقه بها علانية "المتغطي بأمريكا عريان".

 

أذكر قبل سنوات قليلة كنت أتحدث إلى السفير الروسي الراحل سيرجى كيربيتشينكو على هامش الاحتفال بالعيد القومي لبلاده.. قلت له الفارق بين الصداقة مع الروس والأمريكان واضح.. الروس صديق لا يخون لكنه يجهدك.. أما الأمريكان فهو صديق سخي لكنه يخونك في أول فرصة.. فضحك الراحل وقال أسأل حكومتك هل روسيا صديق يجهدكم؟

 

علينا أن نفهم أن سياسات الولايات المتحدة.. ليست مقدسة ولا تأتينا من السماء، لكنها صنع بشر يدرسون ويبحثون، حتى يتوصلون إلى نتائج وبدائل تكون في خدمة صانع القرار.. هذه هي السياسة.. بلا قلب، تنمو وتزدهر بالحرص فقط على تحقيق المصلحة المباشرة أو حتى غير المباشرة.. ولوسفكت دماء شعوب وأمم كاملة.

 

أمريكا لا تتغير.. لكنها دائمه التجديد في وسائل تحقيق الأهداف، بفضل أفكار متلاحقة تنتجها جيوش الباحثون والعلماء.. لكن هذا الأسبوع، لاحظت أن مراكز التفكير الأمريكي انطلقت فجأة صوب مصر لكن هذه المرة بلا جديد –حتى الآن- تعيد إنتاج نفس الأفكار، وربما باستخدام نفس الأدوات والأشخاص.. فهل هو تكليف عاجل لمعاودة استعداد لهجمة مرتدة؟

 

روبرت دي كابلان، هو أستاذ الجغرافيا السياسية في معهد أبحاث السياسة الخارجية.. خرج علينا بقديم الأدوات، وأعاد إلى الواجهة أحد عرابين الوهم ويبدو  أن الإدارة الأمريكية الحالية تفتش في أوراقها القديمة على عجل.. فلم يجدوا غير كاهنهم القديم فاستدعوه من مخازن أوباما، آمر عصابات الإسلام السياسي.

 

روبرت كتب متغزلاً في مقال له على صفحات فورين بولسي عن لقاء جمعه ب سعد الدين إبراهيم.. قال عنه "أنه رغم سنوات عمرة ال ٨٢ وتحركه بصعوبة متكئاً على عصاه–حسب وصفه- لكنهما التقيا. وبينما أتابع المقال مر أمامي شريط تاريخ الدكتور.. وتوهجه مبكراً منذ أن كان دراسا في الولايات المتحدة في سنوات الستينات، وقتها كان ناصرياً متطرفاً، ودعمه نظام عبد الناصر في انتخابات جرت في نهاية الستينات، وفاز بمنصب رئيس اتحاد الطلبة العرب في أمريكا، كان متحدثاً باسم الناصرية في الجامعة وبين أوساط  الطلاب العرب.. ولكن المفاجأة أنه بعد وقت قصير من ذلك الدعم.. قرر عبد الناصر نفسه، إسقاط الجنسية المصرية عن سعد الدين إبراهيم، وسحب جواز سفرة المصري وظلت حيثيات ذلك القرار سريه ربما حتى وقتنا هذا.. ولم تعود الجنسية المصرية إليه إلا بعد تدخل أمريكي لدى الرئيس الراحل أنور السادات.


الباحث الأمريكي المخضرم قدمه صديقه على أنه "الراجل الكبير في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان".. ولا اعرف سبباً لتبيض وجه الدكتور سعد.. ولوبخليط من الأكاذيب.. فمثلا قص علينا حكاية ملاحقته وسجنه في عصر مبارك.. وفعلاً الدكتور دخل السجن في عام ٢٠٠٠ لبضعه أشهر بتهمه تزوير ومعه آخرون وألغت محكمة النقض الحكم.. أي أنه نال حقه في محاكمة عادلة.. ولكن ما لم يذكره سعد لصديقه أنه كان مقرباً من أسرة الرئيس الراحل حسنى مبارك، وكان أستاذاً للسيدة سوزان مبارك في دراستها لعلم الاجتماع بالجامعة الأمريكية.. وكان يعيش في مصر بنفوذ المقربين من عائلة مبارك لوقت طويل.. وهذا لا يمنع أن بالفعل دخل السجن، لكنه بعدها عاش عشرين عاماً حراً في ندوات مركز الجبرتي او ابن خلون على ما أذكر.

 

هل يريد الأمريكان تبيض سمعة الباحث المخضرم في العلوم الاجتماعية.. بعدما نالته تأويلات أكدتها مشاهد من مسلسل رمضاني أقرب إلى التوثيق.. ربما لشن هجمات مرتدة جديدة مع إدارة كانت شريكاً في تدمير كامل لأربع دول عربية، حتى أن البعض يسميها إدارة "أوبايدن".


لا يوجد إنسان طبيعي وسوى النفس سوى يكره الحرية.. ولكن الأزمة في السياسات الأمريكية أنها تظن أن الديمقراطية سلعه يجوز تصديرها إلى الدول في حاويات البضائع، ليتم تركيبها في كل الدول دون النظر إلى معتقدات وظروف كل دولة، ففي المجتمعات الإسلامية صعب أن تدافع عن حقوق المثليين، أو ترفض تطبيق عقوبة الإعدام التي تناقض القصاص.. بعض قواعد الديمقراطية الأمريكية تصطدم بنصوص واضحة في الأديان التي يؤمن بها شعوب المنطقة.

 

الباحث الأمريكي وصف صديقه سعد الدين إبراهيم.. بأنه "مفكر منشق شهير ضد وحشية نظام مبارك.." وأضاف أن تدهور صحته يعود إلى سنوات سجنه العديدة.. والحقيقة أن الدكتور سعد لم يمكث في السجن سوى الفترة بين صدور الحكم.. ونقضه.. وهى أشهر قلائل.. أغضبت وقتها الأمريكان ومارسوا ضغوط شديدة للدفاع عن رجلهم.


روبرت دي كابلان.. يقول أن مبارك بنفسه دبر سجن سعد ونفيه..!! وواصل يتحدث عن أن الرجل كان يملك كل شيء لكنه تمرد على مبارك.. والحقيقة أن الدكتور سعد عاش عشر سنوات بعد فترة سجنه، يتحرك ويتحدث، ويقيم الندوات ويهتم بالأقليات في رواق مركزه بالمقطم.. دون مضايقات.


روبرت يقول نصاً "على الرغم من حرص إبراهيم على الحديث بدقة عن الماضي، إلا أن كلماته تحمل تحذيرًا بشأن مستقبل مصر."

 

ويبدو أن الدكتور سعد روى لصديقه، كثير من الحكايات عن اختطاف الثورات.. وانتهى إلى أن الربيع العربي تم اختطافه في مصر.. ويعترف سعد أنه عندما زار ميدان التحرير في يناير ليطمئن على حصاد ما عمل من أجله لعقود طويلة تحت حماية جواز سفرة الأمريكي.. لم يكن مطمئناً لنجاح الربيع الذى جاء في فصل الشتاء. 

 

ويرى سعد الدين إبراهيم أن الإخوان لا ينحلون أبدا.. فهم أشبه بجيش مدني له نفس التسلسل الهرمى المنضبط للجيوش.. ويفسر أن الفوضى التي صاحبت حكم الإخوان هو سبب خسارتهم.. فكثير من المصريين مازالوا يتذكرون مشاهد الفوضى والنهب وأصوات الرصاص ليلاً وعصابات الشباب.. ويواصل سعد في تفسيره لأمريكا عن سبب الفشل.. أن الطبقة الوسطى كانت تخشى على رفاهيتها تلك الذكريات لاتزال تشكل سبباً للدعم الشعبي للسيسي.

 


تفسيرات عديدة لما يحدث في مصر الآن بعضها يستحق التدبر بالفعل.. قدمها الدكتور سعد لصديقه.. حتى أنه قارن بين شرعية السيسي الذى جاء بعد ثورة وفوضى وشرعية محمد على الذى جاء بعد رحيل نابليون عن مصر.. وهى مقاربه أيضا تستوجب الدراسة أيضاً..

 

ويقول سعد أن السيسي رجل مجتهد في عجله من أمره.. وهو مصمم آلا تعود مصر إلى الفوضى.. ويرى سعد.. أن السيسي قريب الشبه بالحكام الذين لا يبالون بالديمقراطية.. ولا يتهم سوى ببناء بلد قوى..على طريقة  بارك تشونجبانى نهضة كوريا الجنوبية، ولي كوان يو في سنغافورة، ومهاتير بن محمد في ماليزيا.


وضرب الدكتور سعد مثلاً على بدأ عصر "رقمنه حفظ السجلات لإثراء مصر بدفع المزيد من الضرائب. و يبني عاصمة جديدة فخمة ومدن تابعة في الصحراء بمساعدة الصين. وهى معلومة خاطئة فالمدن الجديدة كلها يبنيها المصريون.. باستثناء برج العاصمة الجديدة.. ويواصل سعد: هناك المئات من المشاريع الجديدة، مثل مزارع الأسماك، وإدارة مياه الصرف الصحي، والقضاء على الأحياء الفقيرة، وقد بدأها بمساعدة من اليابان وأوروبا."


ولكن الباحث الأمريكي الجنسية والمصري الأصل عاد ليستخدم نفس النغمة القديمة من ٢٠١١ عن اقتصاد يهيمن عليه "الجيش".. رغم أن ما تقدمه القوات المسلحة في الأغلب الأعم هو إدارة المشروعات الكبرى التي تنفذها شركات القطاع الخاص لضمان الانضباط في مواعيد التسليم  والدقة في التنفيذ بعد عقود من فساد إداري عشش في أركان الدولة.

 

 سعد الدين إبراهيم راح يشرح المجتمع المصري مقدماً رؤيته العتيقة للمستقبل.. بدأ من المقال أن الدكتور سعد سافر إلى بلده أمريكا فيما يشبه الاستدعاء.. ربما لأن هناك من بدأ يعيد دراسة أخطاء الهجمة الأولى على مصر ..

 

وينتهي المقال إلى تساؤل.. هل يمكن أن يكون نموذج النمو الآسيوي الذى يدشنه السيسي كافياً دون جرعات تنشيط من الحرية وحقوق الإنسان لبناء دولة حديثة؟ ولم يجب الباحثان.. إلا بتساؤل آخر هل يستطيع السيسي التغلب على تلك الأزمات عانى منها عبد الناصر ومبارك ..؟

 

قرأت المقال مرتين.. وفى ظني "وبعض الظن من حسن الفطن”.. أن دره تاج المنطقة لازالت مطمعاً للأعيب تأتينا عبر الأطلنطي والمتوسط.. أتمنى من المحترم رئيس الوزراء ان يطلق العنان لأستاذة العلوم الاجتماعية والسياسية أن يمعنوا التفكير والبحث والدرس لمستقبل لن تختفى منه محاولات العودة إلى الفوضى التي يعقبها تحلل الشعوب، الي فرق وجماعات، بفعل معاول الهدم الذاتية.